توطئة
ثمة مسارات اضطرارية، وممرات إلزامية، يستحيل تجاوزها في
معرض تناول واقع الكنيسة ورجالاتها إبّان حقبة القرون
الوسطى.. وفي رحلة البحث تثير انتباهك وتَشْدَه حلُمك إلى
حد الاستهجان وإعلان النكران، وذاك ليس من باب اعتبار دين
من الأديان بذاته سببًا لنشوء تنازع بين الأمم، أو صراعٍ
بين الحضارات، بقدر ما لأنصار هذا الدين وأتباعه من رغبة
جامحة في السيطرة والاستئثار، وطموح نحو مزيد من الاستبداد
وممارسة الظلم عن سابق إرادة وتصميم.
وقد أقدم الجامحون يومها على تخدير الناس بعبارات الصبر
ومكابدة عناء الحياة بأناة بالغة، وقد قرن ذلك بادّعاء
تمثيل الإله على الأرض من قبل الباباوات والقساوسة،
وألزموا الناس الطاعة عنوة، بدعوى أن ذلك يرضي الربّ في
ملكوته وقيامته.
فيومها كانت صورة أوروبا المسيحية، صورة المتوحش المستأثر
الذي يخشى فناء ملك، وضياع إرث لطالما تغنّى به.
فكان واقع الكنيسة تاريخيًا مشوشًا ومضطربًا.
ادّعاء الاتصال بالملكوت... والميل نحو التصوّف... وابتداع
السلوك الرهباني المصطنع، وبالمقابل نزوعٌ نحو مباهج
الدنيا وزخرفها والتعلق بالمادية، والجنوح نحو الثروات
وتكديسها من أجل سطوة دائمة، واستمرار التحكّم برقاب
العباد والبلاد، وسيادة الشخصانية الوثنية بكل تجليّاتها
العاتية، وتعابيرها المختلفة، التي سرعان ما اكتشفها
السواد الأعظم من الناس... سوء سلوك، وزيف انتماء، فتقاربت
رؤى المعترضين واندلعت ثوراتهم الدامية، ممن حدا بهم صوتُ
العقل ونداء الضمير للاعتراض على ألوهية رجال الأكليروس
وملوك الكنائس لتصحيح الواقع المزري، واستمرت طويلاً حتى
أقصت الكنيسة بعيدًا.. ولم تنفع معها -فيما بعد- كل
محاولات الوعظ والنصح التي لم تعد تنطلي على عقلية المسيحي
الغربي، فصورة الكنيسة المتوحشة ما زالت ماثلة أمام أعين
الكثيرين من خلال الألاعيب الجديدة في سلوك الباباوات
والقساوسة.
هذا وقد فشلت كل محاولات إيقاف النزف المسيحي الداخلي
لتوحيد التطلعات والأهداف، وبقيت ملامح التضاد الديني
قائمة بين آيديولوجيات متعددة ومتنازعة، ولم تفلح إرهاصات
المزاوجة بين النظرتين، والبحث عن قواسم مشتركة، وابتداع
دينٍ هجينٍ من أجل فضّ الخصام وحصر الصراع، لخلق مقاربات
تحول دون الصدام.
وللتعويض راحت الكنيسة -وبسلوك مزمنٍ وطويل- تحرّض على
الآخر، الذي يتربص بالمسيحية شرًا ويسعى لاستئصالها -على
حد زعمها- فبالغت برواية أحداث ما يتعرض له الحجاج الآتين
إلى بيت المقدس، والخطر الإسلامي الذي أصبح على أبواب
أوروبا (بعد انتصارات السلاجقة في معركة مانزكرت والسيطرة
على أرمينيا، فأصبحوا على أبواب القسطنطينية)، فألهبت
مشاعر العامة والخاصة باتجاه الحرب مع الآخر، ولتحقق من
ذلك هدفين:
- إعادة سطوة رجال الدين المسيحي على قيادة الناس واستعادة
ما فقدوه من هيبة ودور جامح.
- تحقيق حلم قديم جديد باستعمار البلاد الإسلامية ونهب
ثرواتها، وقد جند الباباوات لأجل ذلك المبشرين والدعاة
لدفع الناس باتجاه الحرب، فهذا "رويمر" يخطب ذات يوم في
مؤتمر للمبشرين المسيحيين بجبل الزيتون في فلسطين موضحًا
الهدف من الحرب على المسلمين:
[... إننا لا نبغي إخراج المسلمين من الإسلام، ثم إدخالهم
في الديانة المسيحية، ولكننا نكتفي بإخراجهم من الإسلام
وإبقائهم بلا دين، وبذلك تكونون أنتم الطليعة الأولى للركب
الاستعماري، باركتم عناية الرب].
وبناء على ما تقدّم، ومن باب عدم الاستغراق في البحث
وتفاصيل الحدث، أردنا في هذه العجالة المتواضعة مقاربةَ
واقع الكنيسة في القرون الوسطى، ومفاعيل إجراءاتها على
إنسان تلك المرحلة، مع ما رافق ذلك من احتدام للصراع مع
العلماء، وصولاً للمواجهة القاسية التي أفضت إلى انعدام
مرجعية الكنيسة -الدينية والسياسية-، حيث رافقها مزيد من
حالة الاغتراب وضياع الإنسان القيمة، جرّاء منطلقات وغايات
آنية لم تستخلص العِبَر والنتائج.
وسنحاول في بحثنا المتواضع هذا الإضاءة على مجموعة عناوين
لازمت مسيرة الكنيسة والأكليروس والتي منها:
1- الكنيسة والعلم
أ- أوروبا المسيحية تقحم نفسها في نفق ولادة ثورة العلم
ولعل الجناية الكبيرة التي ارتكبت من دعاة الكنيسة،
انبهارهم بالعلم وثورته الجديدة، وإعجابهم بنظرياته
المختلفة، فراحوا يدسّون تلك المسلمات العصرية في كتبهم
الدينية، إذ كانت يومها حقائق لا يشك فيها، لكنها حينها
كانت أقصى ما وصل إليه العلم، وبالتالية غير مأمونة
التحوّل، لا بل والتعارض، باعتبار تدرّج العلم واستحالة
الحصول عليه دفعة واحدة.
فإن الأمر والحالة هذه كمن يبني بيته على كثيب مهيل من
الرمل.
ولعل هذا ما مهد -لاحقًا- لحقبة عصور التنافر والتصادم بين
الكنيسة والعلماء، وجنوح أوروبا نحو المادية التي غدت لا
دينية التوجّه!!
لأن رجال الدين قدّسوا ما تناقلته الألسن وذاعت شهرته بين
الناس، وصبغوه بصباغ الدين، ودعوا إلى نبذ ومحاربة كل
معارض لها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وكفّروا كل من لم يُدِن
بها.
ب- علماء النهضة في مواجهة خرافات الكنيسة
منذ أن لاحت تباشير النهضة الفكرية في أوروبا واطّلع
العلماء على مفاهيم علمية جديدة في الفلسفة والرياضيات،
والطبيعيات، والإلهيات، وآمنت بالعقل سبيلاً للمعرفة،
ورفضت الخرافات التي لا برهان لها، وبرزت نظرية كروية
الأرض التي اعتبرتها الكنيسة نوعًا من الهرطقة والكفر
واضطهدت كل القائلين بها، وحكم على "كاليله" بالحرق لقوله
بحركة الأرض حول الشمس، وحكم بالحرق أيضًا على "برونو"
(العالم الطبيعي) لقوله بتعدد العوالم، وشهدت عصور الظلام
في أوروبا حرق 32 ألف عالم من أصل 300 ألف ساقتهم الكنيسة
إلى المحاكم.
ولعل طباعة الإنجيل وتداوله في أوروبا أظهر مدى التناقض
الفاضح بين تعاليمه وممارسات رجال الكنيسة، ما أحدث ثورة
عارمة في أوساط عامة الناس، وألهب النفوس، واحتدم الصراع،
فامتنع الناس عن دفع الضرائب، لا بل ذهبوا بعيدًا لمصادرة
أموال الكنيسة التي كانت تجمع تحت عنوان "صكوك الغفران"،
وخاصة تلك الصكوك التي أصدرها الباب "لاوون" العاشر لبناء
كنيسة القديس بطرس في روما، حيث اعتبر البابا مشتريها
سيفوز بالجنة، حتى راحت الناس تتساءل مستنكرة "هل مفاتيح
الجنة بيده"؟!.
ج - من مهازل صكوك الغفران [طابخ السمّ آكله]
وكان من مآثر "لاوون العاشر" أن أوفد راهبًا ألمانيًا من
مدينة ليبزيغ يُدعى "جون تيزل"، لجمع أموالٍ جديدة من
الأوروبيين تُضمّ إلى كنوزها.
وراح الراهب لا يترك بلدًا إلا ودخلها طلبًا للمال، يواكبه
الحرس والنافخون بالأبواق (إيذانًا بوصوله)، حتى إذا بلغ
الكنيسة واستوى إلى جانب محرابها، أنصت القوم وحنوا رؤوسهم
ليستمعوا إليه وهو يقول:
[تعالوا أيها الناس واشتروا منّي صفحي وغفراني! بإمكانكم
اليوم أن تنجوا أنتم وأصدقاؤكم من عذاب الجحيم].
فيرتجف الناس رهبة وفرحًا معًا!
وواصل الراهب سيره حتى بلغ مسقط رأسه ليبزيغ في ألمانيا،
وأقبل الناس عليه بمئات الآلاف يشترون الغفران من رسول
البابا، وهدّد الراهب من لا يشتري الغفران بالحرمان، فهلع
الناس، وأسرع المتخلّفون إلى سوق خلاص النفوس والفوز
بالجنة، ومنهم من اشترى الغفران مرارًا.
وفي نفس المدينة جرت حادثة طريفة، أرويها هنا لما فيها من
ظَرَف وخفّةَ ظلٍّ، لما تحتويه من مغزىً عميق الدلالة في
هذا الشأن:
جاء رجل ألماني يشتري الغفران من رسول البابا قائلاً له:
- هل يمكنك أيها الأب المقدّس أن تغفر لي منذ الآن، خطيئة
أنوى أن اقترفها في المستقبل؟
فأجاب الراهب:
- أستطيع ذلك دون شكّ، فإن البابا سيد الأرض وحامل مفاتيح
السماء، قد أعطاني القوّة الكافية لكي أفعل ما أريد.
فقال الرجل: إذا كان ذلك، فإني سوف أعاقب رجلاً عقابًا
بسيطًا جدًا لا يؤذيه ولا يسيء إليه إلا قليلاً، فكم تطلب
أيها الأب لغفران خطيئة بسيطة كهذه؟
- أطلب ثلاثين دولارًا.
- أنا فقير، والمبلغ كثير، غير أني أستطيع أن أدفع لك عشرة
دولارات.
- لا. كيف يمكنني أن أغفر لك ما تنوي أن ترتكبه من الإثم
-ولو بسيطًا- بمثل هذا المبلغ؟... وعلى كل حال أستطيع أن
أبيعك الغفران بخمسة وعشرين دولارًا!
- قلتُ إني فقير، وأنني لا أملك هذا المبلغ كله، سوف أعطيك
خمسة عشر دولارًا فقط.
فقال الراهب: لا تكثر المجادلة، إن غفران الذنوب له ثمن
معروف، فإذا شئت أن أغفر لك ما سوف تقترفه من ذنب بسيط،
فادفع عشرين دولارًا على الأقل!
فقال الرجل: هل تعتقد أيها الأب أن هذا المبلغ كافٍ لأن
يمنحني الغفران في الأرض وفي السماء؟
- لا شك في ذلك، ألا تعلم أنني رسول البابا، وأنني أفعل ما
يريده، وأن إرادته هي إرادة الأرض والسماء ؟!
- إذن لقد اطمأنّ قلبي، خذ المال!
وذهب الرجل وقد حصل على وثيقة الغفران وعلى حماية القانون
له من كل عقاب فيما سوف يقترفه، من ثمن بسيط!
وواصل الراهب بيع الغفرانات، وجمع الأموال الكثيرة، ثم رحل
إلى مدينة ألمانية أخرى تدعى "زوتربوك"، وفيما كان في
طريقه إليها مرّ بغابة كثيرة الشجر، فخرج عليه أفراد عصابة
من قاطعي الطريق، برزوا له من بين الأشجار، وقبضوا عليه
وأوثقوه، ثم أخذوا صناديقه واستولوا على ما فيها من أموال
طائلة، وفرّوا هاربين في شعاب تلك الغابات.
وطار صواب الراهب، فقد أُخذ منه المال الذي حصل عليه ثمنًا
لألوف الغفرانات، وهرع إلى محافظ المنطقة، وهو من الدوقات،
ساخطًا لاعنًا منقطع النفس، وصاح:
- سُرقت؟!
ولما وقف المحافظ الدوق على تفاصيل الحادث ثار وخار ونبَحَ
وهدرَ، واصطكّت أسنانه، وجحظت عيناه، وتورّم خداه.
فكيف يعتدي اللصوص على رسول البابا سيد الأرض وحامل مفاتيح
السماء؟ ثم كيف يسطون على أموال البابا في منطقة هو حافظ
الأمن فيها، وهو الحسيب النسيب (الدوق ابن الدوق)؟ وازداد
شخيره ونخيره، ورفع قبضته مهددًا قائلاً:
سوف أقبض على اللصوص وأحرقهم جميعًا!
وتمّ القبض على اللصوص، وأُحضروا أمام هذا الدوق، فقال
لزعيمهم:
لقد اقترفت إثمًا عظيمًا بالاعتداء على رسول البابا وسرقت
أمواله، فماذا تقول؟
فأجابه زعيم العصابة:
لقد اشتريت الغفران سلفًا من رسول البابا وأخبرته أنني
أنوى أن أقترف إثمًا، فباعني الصفح راضيًا مختارًا، وقبض
الثمن، وهذا هو الإثم الذي كنت عازمًا على ارتكابه، وإليك
وثيقة الغفران!
وقرأ المحافظ الدوق وثيقة الغفران، فإذا هي تغفر لحاملها
إثمًا سوف يرتكبه، وتجعله في حلّ من كل عقاب في الأرض
والسماء!
ونظر كل من الدوق والراهب إلى الآخر نظرةً تدلّ على
الخيبة، وذلك أن وثيقة الغفران لها صفة القانون، فالحاكم
لا يستطيع معاقبة السارق الذي غُُفر له ذنبه سلفًا، وهو
فوق ذلك لا يمكنه أن يسترجع المال المسروق، لأن في
استرجاعه ما يُفقد الراهب هيبته، ويحمل الناس على الاعتقاد
بأن وثيقة الغفران لا قيمة لها! وفي مثل هذا الاعتقاد ما
يدفع الناس في طريق الحرية التي يكره الدوق والراهب اسمها!
وهكذا حصل الرجل الفقير الذكي الظريف على الأموال التي
جمعها الراهب وهو في مركبته الذهبية، من الجماعات الجاهلة،
وعاش فيها عيشة مترفة()!
د- الكنيسة تخوض معركة الوجود
كانت النظرية السائدة في العصور الوسطى تقول بأن الله خلق
كلاً من الكنيسة (وعلى رأسها البابا)، والدولة (وعلى رأسها
الملك) خدمةً لعباده، لكنّ المصالح والأهواء والنزوع نحو
الدنيا سيطر على أكليروس الكنيسة، فهم:
1- يملكون الأراضي الواسعة، ويفرضون الضرائب، ويتصرفون
كإقطاعيين.
2- يعيشون حياة الترف، ويستغلون قدرات الطبقات المستضعفة.
3- ينشرون التعاليم التي تنهى الناس عن الثورة، وتحرضهم
على الصبر والسكوت على الظلم.
جرّاء ذلك برزت حركات دينية تدعى بالإصلاحية، قادها بعض
الرهبان المتنوّرين:
- فمارتن لوثر الألماني (1483-1546م) نشأ فقيرًا، وتخرّج
من جامعة أرﭭرت، وانخرط في سلك الرهبنة، وتعمّق بدراسة
الإنجيل، وصار فيما بعد أحد أساتذة جامعة ويتنبرغ، اعترض
على صكوك لاوون العاشر، واعتبر ذلك مخالفًا لتعاليم
المسيح، وإن البابا يتصرف كوريثٍ للرب على الأرض، في حين
أنه كباقي الناس إنما يتقرب إلى الله بالإيمان والعمل
الصالح.
فحورب لوثر وكُفِّر، وقام الأمبراطور "شارلكان" -أحد عملاء
البابا- بتهديده بالقتل، وكذا حصل مع المصلح الديني
الفرنسي يوحنا كالفن (1509-1564م)، الذي طارده ملك فرنسا
فرنسوا الأول، ففرّ كالفن إلى سويسرا.
وسلوك الباباوات دفع بفريدريك الثاني شتاوفين (1194-1250م)
ملك صقلية بالشك بالدين المسيحي، وقيل أنه مال إلى الإسلام
وكان من مقاومي البابوية.
هذا، وقد خاضت الكنيسة وأباطرة أوروبا حروبًا عدة لتصفية
الخارجين على براغماتيتها الإنجيلية، وقد سجّلت انتصارات
آنية عديدة في ساح الوغى، وانهزمت في معركة الأديان، لأن
تغلغل الوثنية الرومية الموروثة مسخ دين المسيح، وجعله
عرضةً للهجوم وبابًا للصراع.
وقد كانت الدلائل تشير إلى انفجار بركان العقل في أوروبا،
فقد حطم العلماء سلاسل القيوم والتقليد الديني، وكشفوا زيف
النظريات التي حوتها كتب الكنيسة، وانتقدوها بحدة، وأعلنوا
اكتشافاتهم واختباراتهم، فثارت ثائرة الكنيسة، فكفّروا
العلماء واستحلوا دماءهم وأموالهم من أجل إنقاذ المسيحية،
فأنشئت محاكم التفتيش - التي سيأتي الحديث عنها- لمعاقبة
الملحدين على حد زعم الباباوات آنذاك، واجتهدت أن لا تدع
في العالم النصراني نابضًا ضد الكنيسة، ووزّعت جواسيسها في
طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس، فاضطهدت
وأحرقت... "وفيما يخص العالم الطبيعي "برونو" اقترحت بأن
لا تراق قطرة واحدة من دمه، أي الموت حرقًا"().
وقد عيل صبر المتنورين والعلماء جراء ممارسة الكنيسة
بحقهم، فصاروا حربًا عليها وعلى ممثليها، حتى قيل أن الحرب
اندلعت بين زعماء العلم والعقل، وزعماء الدين المسيحي أو
ما سمي فيما بعد بالديانة البولسية، وسرت مقولات تعتبر أن
العلم والدين ضدان، فالإيمان بأحدهما كفر بالآخر.
2- محاكم التفتيش
جاء الإصلاح الديني في أوروبا ردًّا على ما كان من تعصب
يُدان به، للقضاء على الفكر وحريته، وكبت كل محاولة يقوم
بها العلماء للكشف عن أسرار الطبيعة.
وردًا على تلك المحاولات لهذه الحركات النهضوية "العلمية
والفكرية"، قامت محاكم التفتيش في عدد لا بأس به من دول
أوروبا التي كانت تحكمها الكنيسة، فأضرمت النيران، ورفعت
سوط الظلم تأديبًا لكل مارقٍ على تعاليم الكنيسة، ولأيّ
محاولة تُطلق إرادة الشعب نحو ذاته وحريته الإنسانية،
لتكريس فكرة الإذعان فيهم.
... ويذكر التاريخ أن ملكة بريطانيا "ماري تيدور" وقفت ضد
الحركة اللوثرية في بلادها، تلك الحركة التي كانت تقول [إن
للشعب حقوقًا تُداس بأقدام السلطان]. وقد اقتادت الملكة
راهبًا يدعى "جون روجرز" وأسقفًا كان يعتبر صديقًا للفقراء
والمعوزين يدعى "جون هوبر"، وحكمت عليهما بالحرق، ومما
قاله "هوبر" قبيل حرقه بلحظات:
[استمرّوا بمحكمتكم هذه، وابعثوا بالرجال والنساء إلى
النار الآكلة، واعتزّوا بما لديكم من قوة وسلطان، غير أن
كل قبس من النار التي تُشعلونها وتُحرقون بها الشرفاء،
سيكون مشعلاً عظيمًا يُنير للبشر طريقهم إلى الحرية
الحبيبة]().
... وقد ارتكبت ملكة فرنسا "كاترين دي ميدسيس" مذبحةً في
بارتملي في 14 آب 1527م، وكانت من أعنف المجازر، بتهمة
المروق عن الدين.
وفي أسبانيا، وأثناء حكم الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا،
والمجرم توركيماوا الذي ملأ أسبانيا رعبًا -وأصبح اسمه
مقرونًا بمحاكم التفتيش، بعهدٍ أبرمته له الملكة إيزابيلا-
أقدم توركيماوا على اتهام رجل أسباني غنيّ بالزندقة،
فأحرقه واستولى على ثروته، وأما زوجة الرجل وأولاده فراحوا
يطوفون في الشوارع متسولين().
وقد أُحرق الراهب الهولندي (فان ريزويك) بتهمة المروق
والهرطقة عام 1512م في لاهاي، لأنه كان معجبًا بأستاذ
العقل "أرسطو".
كل هذا يجري وعلى مسمعٍ وتحت رقابة ومباركة أوامر الكنيسة،
الأمر الذي أيقظ الثائرين في أوروبا المكبوتة، التي عوقبت
بلا هوادة، فخرج الثائرون وقهروا ظلمات الفتك، ومزّقوا
سواد العتمات، غير مستسلمين لمخزيات الطبقية والإقطاعية
الدنيّة الحمقاء، والتي كان ثمنها مئات الآلاف من الضحايا،
لا بل الملايين في كلّ أوروبا، وقد أثمرت نصرًا ساحقًا على
أمراء الكنائس، وأُعلنت حقوق الإنسان في دول عديدة، وفي
طليعتها فرنسا عام 1789م، لتكّر السبحة لبقية أوروبا،
معلنة نهاية عصور الظلام الديني.
الخاتمة: نهاية المآسي
كان من الطبيعي أن يؤدي منهج الكنيسة -والحالة هذه- إلى
تفكك الواقع الاجتماعي، وشعور السواد الأعظم من الناس
بالدونيّة، واستغلالهم باسم الربّ، إذ لم يبقَ من سمات
الخزي، ورذائل الخُلق، وإقطاعية المتسلّط، وديكتاتورية
الحاكم المطلق التصرّف، إلا ووصمت به الكنيسة، وإلا كيف
تفسّر هذا العداء الاجتماعي العام المتنامي، والآخذ
بالاتساع، والتجرؤ على أعلى سلطة دينية في العالم
المسيحي؟! وسرت عملية الرفض والمواجهة للأكليروس، في حين
كانت من الخطايا المميتة التي تُخرج مرتكبها من الدين،
وتكون مدعاةً لسخط الله عليه، وخروجه من ملكوته بحسب
تعاليم كنيسة التسلط آنذاك، حتى استعدّ المضطهدون للتضحية
بالغالي والنفيس من أجل تقويض هذا البنيان المصطنع
والمُخْتَلق، فسرت مسرى الروح في الجسد ومجرى الدم في
العروق لإزالة كابوس الاستبداد والإرهاب الدينيين.
ثم ماذا؟.. انهزمت الكنيسة وانحلّ عقدها، واضمحلّت
النصرانية في سلوك الأوروبي... لماذا لا؟..
فالانحطاط الديني المسيحي حسب رأي السفير السابق لبريطانيا
في أميركا سنة 1938م مردّه إلى:
[حركة "لوثر" التي تدعى حركة إصلاح الدين، والتي قضت على
وحدة أوروبا الثقافية والدينية، وانقسمت هذه القارة إلى
إمارات شعبية مختلفة، أصبحت منازعاتها ومنافساتها خطرًا
على أمن العالم].
ثم استطرد قائلاً: [وكان من نتائج ذلك أيضًا أنه صعب على
أوروبا أن توفّق بين روحها وحياتها توفيقًا ينقذها من
القومية داهية هذا العصر الكبرى] (انتهى قول سفير
بريطانيا).
فظهر الدين المسيحي كطارئ ونزيل ثقيل لا بد من نفيه
والتبرؤ منه، حتى سرت في ألمانيا حالة العِداء للمسيح كونه
من بني إسرائيل، حيث قال أحد المعلمين البروفسور أترني:
[يجب أن يكون إلهنا أيضًا ألمانيًا].
وهكذا استمر الصراع حتى سقطت الكنيسة في معركة الوجود
والفاعلية، وزويت عند أطراف القارة العجوز لا حول لها ولا
قوة.
حتى غدا الإنجيل أناجيلَ، وغابت روح المسيح في هديه وصفائه
وزهده عن سلوك من نادَوا بها، وصاروا أداة طيّعة بيد
استعمار جديد يخوض صراعًا طويل الأمد لا ينتهي مع
المسلمين.
ولعل ما أسهم في تأجيج ذلك جهل أوروبا المسيحية بحقيقة
الإسلام، فالجهل به أمسك بتلابيب العقل الأوروبي، وسرَت
مقولة دسَّها الرهبان وجلاوزة الكنيسة مفادها: "أن من
يحاول معرفة شيء عن الإسلام والمسلمين سيصاب بالدنس".
لقد أثاروا دوافع الحسد والقلق في نفوس الأوروبيين من ذلك
الجار القوي الغنيّ المخيف.
في حين كان المسلمون يعرفون عن المسيحية والمسيح (عليه
السلام) أمورًا يجهلها المسيحيون أنفسهم، لما ذكر في
القرآن الكريم عن مريم العذراء (عليها السلام)
والمسيح(عليه السلام) حتى رفعه الله إليه. فقد أخذ
المسلمون التراث الثقافي والفكري للمناطق المسيحية التي
فتحوها، فتلاقت الثقافات وتلقّحت تجديدًا غنيًا، مرسيًا
لقواعد العلم العظيم الذي نشره المسلمون في أرجاء
المعمورة.
من هنا كان مأخذنا على الثائرين الجدد في أوروبا قلة
إحاطتهم بفهم الآخر (الإسلام)، فالحفيظة، وشنآن رجال
الدين، والاستعجال لم تسمح بالتريث أكثر، وإطلاق عموم
الأحكام على عموم الأديان تجنّ وظلم، وبخس وافتراء.
...[ وبدا واضحًا أن الحميّة الجاهلية، والهوّة التي
خلّفتها الحروب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق
الإسلامي، ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب
دعوته محمد (صلى الله عليه وآله)، وعدم تجشّم العناء
والمطالعة، وقلة الحرص على النجاة... زِدْ على ذلك تفريط
المسلمين في تبليغ الإسلام، منعهم من الرجوع إلى الدين
الإسلامي، والأخذ به ساعة يحتاجون إليه]().
تلكم هي دعوتنا الحق منعًا لاستمرار الغموض، ودفعًا لثقافة
السيطرة، بحثًا عن المعرفة الصادقة بمعايير محايدة
وموضوعية، ترسي لقواعد الحوار بمنطوق موازين العقل، وتكون
طليعة الكلمة السواء بالحكمة والموعظة الحسنة.
|