يعيش الإمام المهدي، محمد بن الحسن العسكري،
صاحب العصر والزمان، في ذاكرة التاريخ والشعوب، لأنه يماشي
في حياته المتواصلة الزمن والعصور، ويستمرّ معها حضورًا
روحيًا ونفسيًا وجسديًا، متخفيًا عن الأنظار، لا يُعلم
مكان وجوده، بأمرٍ
من الله تعالى، حتى يحين موعد خروجه الميمون بعد أن تكون
الظروف قد نضجت وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر،
وبعد أن يسود العالم القَتلة
والسفّاحون، هكذا تروي الأحاديث المأثورة والمتواترة عن
الرسول والأئمة الأطهار (عليهم السلام).
إذًا، يعيش الإمام المنتظر بيننا، وربما يشاركنا بعض
مهامنا دون أن ندري، وتُحدّثنا
وقائع كثيرة وروايات مختلفة عن حوادث تحقق
أصحابها
عن رؤيتهم للمهدي بعد انصرافه فجأة إثر أعمالٍ قام بها معهم ولأجلهم، ظنًا منهم أن
من يساعدهم عابر سبيل ليس إلا، ولا يستغربنّ إنسان ما
يُتداول عنه من أعمال،
فربما
يشاركنا الصلاة في المسجد، ويدخل في زحام السوق، ويحضر
مجالس جده الحسين (عليه السلام)، لكن لا أحد يحدد
صورته وهويته وهيأته، ولو حصل لانتفت الحكمة من إخفائه.
نعم إنه يراقب ويشارك ويسجّل ويختلط بالآخرين، موجود
بالقوة الإلهية والفعل السماوي.
وكما تكرّس المهدي (عجل الله فرجه)
في التاريخ البشري، اختمر أيضًا في قلوب وعقول المؤمنين،
ودخل باب الشعر من
ميدانه العريض،
وصدرت
دراسات وتحليلات وانتقادات حول طبيعة هذه الشخصية النادرة
التي تناولتها الأقلام ما بين مُصدّق
واثقٍ مؤمن، وبين شاكٍّ متقلّب، وبين منكر مسقط لكل
الأحاديث التي تؤكد وجود واستمرارية القائم (عجل الله فرجه)
من منطلق لا إيماني صرف.
إلا أن
المهدي رغم كل الشكوك والمواقف المنكرة لحتمية وجوده والتي
لا تعتبر سوى فقاعات من الماء الآسن سرعان ما ينتهي، رغم
كل الشكوك، فإن اسمه يزداد سموًا وحضورًا وانتظارًا،
وعلاوة على الوعد الإلهي بهذه المنحة العظمى فإن طبيعة
الحياة والوجود والصراعات التي لا تنتهي وارتفاع وتيرة
الجنوح إلى الجريمة والرذيلة والفوضى، جميعها تفضي إلى
معادلة واضحة، أن البشرية بحاجة إلى مخلّص منقذٍ مُعزّز
بصلاحيات وقدرات سماوية
مؤهل
لقيادة البشرية إلى
طريق
الحق والعدل والإيمان.
على كل حال، لن أخوض في هذا الموضوع كثيرًا، فقد ضاقت
الكتب والدراسات والآراء حوله منذ غيابه، وستبقى
تعيشه
حتى حضوره، وليس من شأني هنا الخوض في هذه التفاصيل، إلا
أنَّ أَبْلَغَ رَدٍّ على كل ما قيل أو يقال: هو هذا الشعر
العالي المهدوي، والذي يعتبر أحد الأسلحة التي تحارب مع
المهدي، تحارب من أجل حضوره الغائب، وغيابه
الحاضر، وهكذا حفل الشعر العربي بهذا الموضوع المثير
واللافت في آن معًا، وذهب الشعراء يولونه الاهتمام الكبير،
فكتبوا وحللوا ونظموا قصائد لا تُحصى منذ ألف سنة ونيف،
وها هي دواوينهم تزخر بمعاني هذه الظاهرة وعظمتها
وإعجازها، وليس بكثير على ربٍّ أوجد السماء والأرض وما
بينهما من أن يُبقيَ
عبدًا من عباده الصالحين المقرّبين، يختاره ليكون إمامًا
ومرشدًا، ومنقذًا للبشرية كلها، ومحققًا أحلامها في الرخاء
.
إذن،
منذ
ألف ومائة عام تقريبًا والشعر "المهدوي" يتناسل يومًا بعد
يوم، فأئمة آل البيت (عليه السلام)
حظَوا جميعًا بكرامات لم يحظَ بها أيّ
من عظماء الإنسانية وأعيانها، نظرًا لجمعهم بين علو الشأن
المرتبط بالسماء إلى جانب الفرادة في العلم والمعرفة،
والتي كانت في أصولهم ومتواترة فيهم، يبرع فيها صغيرهم
ككبيرهم، وجديدهم كقديمهم، إنها المنح السماوية التي
اختصوا
بها.
وقد تباين الشعراء في طريقة تناولهم للإمام المنتظر
(عجل الله فرجه)، فمنهم، وهم الغالبية الساحقة،
تحدّثوا عنه من الوجهة الدينية التاريخية، مؤكدين خروج
المهدي يومًا ما، في ردٍّ على الذين يشكّون في حصول هذا
الحدث، أو في أصل وجود شخصية الإمام نفسه، منكرين إمكانية
استمرار شخص على قيد الحياة مئات السنين، ويدحض هذه
المقولة ما ورد في القرآن الكريم حول نوح (عليه السلام)
بقوله تعالى : {فَلَبِثَ
فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ
عَامًا}،
هذه
مدة
الإقامة فقط، فكيف بمراحل الحياة الأخرى، أضف إلى ذلك حياة
السيد المسيح التي ما زالت مستمرة كما توحي الآية الكريمة
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}،
إذ يجمع اللغويون والمفسّرون على أن رفع المسيح إلى السماء
تمّ أولاً، ثم يليه في ما بعد الوفاة التي ستسبقها عودة
المسيح إلى الأرض ليقوم بدوره إلى جانب الإمام المهدي في
إعادة صياغة مجتمع الإيمان والحق والعدالة.
الاتجاه الديني والتاريخي والواقعي في شعر الإمام المهدي
نحن
هنا إزاء ألوان من الشعر المهدوي الذي ينطلق من منشأ ديني
تاريخي صرف، ويعبّر عن شخصية الإمام المهدي وفق السيرة
التاريخية المعروفة له(عجل الله فرجه)، ومن ثمَّ الإشارة
إلى الأهداف التي ترمي إليها غيبة الإمام، وربط الحاضر بكل
ما يكتنفه من أحداث ووقائع بالماضي، لتأكيد استمرارية هذا
الوجود حتى يحين موعد الظهور المبارك الذي ينتظره الناس
بفارغ الصبر.
يقول
الشاعر الدكتور يحيى الشامي في هذا المنحى، مخاطبًا صاحب
العصر والزمان :
صاحب العصر يا
إمام الزمانِ
قرّة
العين أيّ أيّ ديار
أنت فيها وأين أين استقرّت
|
|
يا شريكَ
الكتاب والفرقان
يا غريب الديار والأوطان
بالغريب النوى وأيّ مكان
|
ثم يميل
بعد
المديح إلى التماس الفرج والظهور، تأكيدًا لأسباب وموجبات
بقائه على قيد الحياة، تمهيدًا لخروجه، وبدء
مسيرته
الجهادية لتعزيز الإيمان والعدل والحق :
يا أبا صالح[3]
وأيّ غياب
بُحَّ صوتي وطال طال انتظاري
هي ذي الأرض كلها ملئت جَوْ
يا إمام الزمان يا صاحب العصـ
هوذا المسجد السليب، وذي الصّخـ
فالوحى
سيدي الوحى قمْ فأدركْ
أدركِ الدينَ سيدي ليكون الد
|
|
قد عراني من شأنه ما عراني
لك يا ذا النفوذ والسلطان
رًا وجضَّتْ بالظلم والعدوانِ
ـر ألا اخرج فحسبنا ما نعاني
ـرة تشكو فظاعة العدوان
قد ألِفنا
عبادة الأوثان
ين لله، راسخ البنيان
|
هكذا
تشتد
مناجاة الشاعر ومناداته عندما يذر الشرّ بقرنيه ويعصف
الظلم بالناس، وأظن أن المعاني واضحة جلية لا لبس فيها أو
غموض، وإنما مشبعة بحس إيماني عميق.
والإمام المنتظر هنا يمثّل الحلم المنطلق من خلفية دينية،
الحلم الذي تعيشه الملايين وتنتظره بشغف عامًا بعد عام،
وهو
أمر
بيد علاّم الغيوب، إنه الحلم المشبع بالألم
والمرارة، ففي كل أزمة ومعاناة وضيق، يتجلّى الإمام (عجل
الله فرجه) في الأذهان، ويحتلّ الأفكار والمشاعر، ويرجوه
الناسُ العودة والظهور، ليس من باب الاتكالية، وإنما من
باب المساعدة والنجدة،
لإعادة الحق إلى نصابه، ومحاربة دعاة الضلال والفساد
والانحراف.
ويجسّد الشاعر يحيى الشامي هذا الحلم الذي لاح في ومضات
خاطفة ولحظات مثيرة ومناسبات خاصة، وحكايات محددة،
ظهر
فيها المنتظر دون أن يعرفه أحد، يساعد هذا، ويُنجد ذاك، ثم
يختفي
فجأة
وسط ذهول ودهشة كبيرين:
يا أنيس القلوب في وحشة الدر
حاضر أنت في المواسم طرًا
ما خَلَتْ منك حقبة كيف تخلو
حدثتني الركبان عنك فقالت
في أعالي البحار في كل نجد
كم شريد قد ضلّ يومًا سبيلاً
وأناس تقطعت بهم السبـ
كنت غوثًا لهم ولكن بسيما
بينما هم في حيرة وضلال
لحظتك العيون للتوِّ لكن
ثم لمّا أنجيتهم من هلاكٍ
فطنوا للذي جرى بعد حين
|
|
بِ وليل المشّرد الحيرانِ
شاهد أنت في ضمير الزمانِ
من إمام في السرّ والإعلانِ
أنت في كل بقعة ومكانِ
في الصحارى القفار في القيعانِ
وهو يمشي في الأرض كم ركبانِ
ـل فإذ أنت ظاهر للعيانِ
غير سيماك طيب الأردان
وسهام الحتوف منهم دواني
كنت أنأى من حيّز الأذهانِ
وتردوا بعصمة وأمان
فتنادوا من بعد فوتِ الأوان[4]
|
وللشاعر
قصائد أخرى في الإمام المهدي، وجميعها ذات اتجاه واحد،
ينبع من إيمان عميق وحسٍّ وجداني مرهف في إطار من الصور
الواضحة الجميلة الدالة على عمق العقيدة في قلب الشاعر،
وهذا ما لمسناه في ما أوردناه من أبيات له.
وفي اتجاه وجداني عارم، كانت قصيدة حسن محمد نور الدين حول
الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ومعظمها إطراء ومديح
واحتفاء بهذا القادم
إلينا
يومًا
ما، وهذا ما درج عليه معظم الشعراء الذي أرّخوا لهذه
الشخصية المعجزة "إلهيًا"،
والتي ستبقى لسان حال الشعراء جميعهم وبشتى اتجاهاتهم وإلى
أن يتحقق الظهور:
غدوتَ وخَطْوك السامي يزيد
وفي شعبان لاحت مكرمات
وحلّت في حِمانا نيِّراتٌ
|
|
فغنّى فيك شعري والقصيد
تزفّ البُشْرَ بالنُّعمى تجود
وضاءت في نواحينا الورود
|
وهكذا
تستمرّ
القصيدة على هذا المنوال، في معانٍ واقعية، وحشد
طافح من ألفاظ المديح،
وينفذ بعد ذلك إلى دعوة الإمام (عليه السلام) إلى الإسراع
لنجدة الشعوب المقهورة، شأنه شأن معظم الشعراء الذين
تناولوا المهدي (عليه السلام) ودوره المستقبلي في لمِّ
الشمل وملاحقة الأعداء :
فغذِّ الخطو مولانا وعرّجْ
ودكدكْ موطنًا قد حلَّ فيه
وبارك خطو شجعان كرام
ولُمَّ الشمل سيدنا المفدّى
وزدْ فينا التقى عزمًا ووصلاً
وروّضْ طغمة حكمت بشعب
سعاة للبلاء دعاة شرٍّ
|
|
على تلك الرُّبى قُلْ ما تريدُ
طُغاة أهل شِرك أو يهودُ
على الأعداء في الهيجا أُسُودُ
وخلِّ الأرض في الباغي تميدُ
بغير العزم لا يُفرى الحديدُ
تغذّتْ من تزندقها ثمودُ
لشهوتهم، دمى، خدم، عبيدُ[5]
|
هكذا
يدخل
الشاعر من بوابة المهدي المنتظر، لينتقد الحكّام الطغاة،
دعاة
الشر والفساد،
متأملاً وراجيًا ظهور الحجة لحسم كل الأمور باسلوب عذبٍ،
مستخدمًا بحر الوافر أحد أهمّ البحور التي تصلح للتعبير عن
النَّفَس
الوجداني في الشعر
العربي
:
ألا يا طلعة المهدي هلاّ
|
|
يزول الفصل أو تلغى الحدود
|
وبذلك
أصبح صاحب العصر والزمان أملاً وحلمًا ينتظره المؤمنون
بفارغ الصبر لينقذهم، ويؤسس فيهم دولة القانون والعدالة
والحق.
إلا أن المهدي (عجل الله فرجه) لا يريد من الشعوب أن تركن
إلى الذلّ والاستكانة والطاعة العمياء للظالمين
انتظاراً
لمجيئه الميمون وظهوره السعيد، وإنما أن يكون وجوده،
وتمنّي حضوره حافزًا ودافعًا لكل شعوب العالم للمطالبة
بحقوقهم، والذود عنها، ومقارعة الظلم، لأن هذه هي أحداث
وتطلّعات صاحب العصر والزمان، وهم بذلك يُعبّدون
الطريق لظهوره، ويؤكّدون وجوده، من خلال استلهام شخصيته
وتعاليمه وأهدافه :
وتُبنى دولة الإسلام فينا
وتبدو القدس جذلى في رُبانا
وتُطوى الغيبة الكبرى ويبدو
وتعلو راية السبطين فيها
|
|
وفي عليائها يحلو القعود
ويعلو فوق تربتها النشيد
إمام العصر موكبنا يقود
ويزهو من تلألئها السجود
|
وانتقيت
من
قصائدي حول المهدي واحدة تقع بين الرمزية والمباشرة، وقد
فاضت عليّ خلال وجودي في المسجد النبويّ
الشريف
صيف 2007م، تخيّلت وجوده معنا هناك، ثم في كل مكان لاح
لخاطري :
بعيني هاتين شاهدته يُقلّمُ
المساءْ
ويدخل الحقول دون منجلٍ وقافيهْ
رأيته ينام فوق بركة مهاجرهْ
هكذا رأيته وغاب في النجومْ
|
ولشدة
تعلّق
الناس به ومحبّتهم له، وتوقّعهم حضوره، أصبحوا يرونه في كل
شيء جميل، ويبصرونه في عيونهم الداخلية
كما يشتهون :
فقيل صار وردةً، وصار منجل الحصادْ
وقيل صار دفترًا، قصيدة الفؤادْ
وصار شتلة خضراء، زبدة الخِطابْ
وقيل صار حنطةً في بيدر الحطّابْ
وصار في الديار يوقظ الدُّجى ويلبس الحفاة
نراه في منامنا وحلمنا، في الوصل والشتاتْ
|
وعندما
لمحته
في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، سمعته يتحدّث عن
أمّته، وهو حزين، لِما
آلت إليه، وعندما
حاولت
أن أقترب منه لأتبارك
من
طلعته،
اختفى، وسيبقى كذلك يلوح ثم يغيب إلى أن يأمره الله
بالرجوع والعودة
للقيام بدوره المنشود :
يعينيّ هاتين رأيته في مسجد الرسولْ
يقول ما لا يُقالْ،
عن أمةٍ هزيلةٍ مقموعةٍ تعيشُ في السؤالْ
وتنتهي بلا سؤالْ
وعندما أسرعت نحوهُ،
وجدتني في وحدتي، أصيح يا سيدي تعالْ
ولكنْ، كأنْ لم يَحِنْ بعدُ ذلك الجوابْ
أغلقت دفتري، وما يزال مغلقًا
إلى أن يأمره الله بالوصولْ
على بُراقِ جدّه الرسولْ
وفي
قصيدة
أخرى
لي من ديواني "مقاطع إلى وجه الشرق"، مختصة بالإمام
المنتظر (عجل الله فرجه)، تحتشد
المعاني
والدلالات والصور حول هذه الشخصية الفريدة في التاريخ
البشري، فهو زهرة الفرقان وشمس المصطفى، ترنو إليه ملاعب
الأمجاد، وتخفق خلفه الدنيا، يمشي بأفئدة الليالي والسنين،
ويقيم في الأحداق، في النّسمات، في قلب الندى والياسمين،
ونُبصره خلف أمنياتنا ومن بين أسوار العيون :
مولاي دعني في مروجك أستريحْ
فلقد تَعبتُ من المسير بلا دليلْ
دعني أُغرّدُ في فضائك ليس يطربني
فضاءٌ سمّمته يدُ الدخيلْ
لم يبقّ إلا أنتَ ننتظر السماءَ
لتعلنَ الحدثَ العظيمْ
تنساب فوق طقوس هذا الكونِ
كالألحانِ في جسد النسيمْ
فنقول إنكَ زهرةُ الفرقان والنبأُ الرخيمْ
ونقولُ إنكَ أنت شمسُ المصطفى
والبدرُ في ميزانك الأعلى
يقيمْ
تمشي ولكن دون أن ندري
بأفئدة الليالي والسنينْ
وتقيمُ في الأحداق في النسماتِ
في جفن الندى والياسمين
تنساب مثل النور ترمقنا
فنبصرُ وجهكَ النبوي خلفَ الأمنيات وخلفَ
أسوار العيونْ
وتستمر
القصيدة
على هذا النسق الوجداني الذي يؤكد جملة قناعات ومسلمات حول
دور
المهدي المنتظر والعقيدة
المتأصلة
في مفهوم الناس عنه، وتنتقل إلى ربط دور الحاضر بالماضي،
وعلى أن النضال الذي يقوم به أحفاده في مناهضة الظلم
والاستغلال هو جزء من مشروعه المستقبلي، ومن هنا دائمًا
دعوة المهدي (عجل الله فرجه) إلى الإسراع في العودة، لأن
الفساد يكاد يعمّ الكون بأسره، والقهر والعبودية ينهشان في
جسد الشعوب وقيمها، والقصيدة من شعر التفعيلة، متخذة جزءًا
من بحر الكامل ميدانًا لها :
غذِّ الخطى يا سيدي وأقبلْ
ففي الآفاق شيطانٌ رجيمْ
وأطلقْ سيوفك من سرائرها
فقد صدئتْ أسّنتنا من النوم الثقيلْ
يا سيدي وانشرْ مروجكَ
فوق
آجام الصحارى والطلولْ
واشخص، فخلفك أنسرٌ
بيضاء تربض عند منبرك الأثيلْ
أبناؤك الشمُّ الذين سقيتهمْ
شهد الكرامة والفدا
وأذقتهم من شمس موسمك الجميلْ
يا سيدي. وغدًا ستأتي فوق أجنحة الندى
ويزفّك العرش الرحيمْ
ملكًا سماويًا يرفرف معلنًا موت العمالة
والخيانةِ
والدجى النزقِ الجسيمْ
إني أراك موشحًا صدرَ الثرى
بنشيدكِ العذب الجليلْ
فأشرقْ يعُد للنيّرات السُّعدُ
تمشي في عروق الأرض أعراس النخيلْ[6]
ويستعجل
الشاعر
نزار الحرّ الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) ليعيد
الأمور إلى نصابها والحق إلى أصحابه، فقد ساد الضلال
واستبدّ المجرمون، فلترفرف بيارق نصرك في كل مكان، فأنت
العروة الوثقى التي يتمسّك بها الصالحون المنتظرون عودتك
بكل شوق :
حجة الله هل يطولُ الغيابُ
عجَّلَ اللهُ في ظهوركَ حتى
صاحبَ الأمر والهدى أنتَ والمهـ
إنكَ القائم الذي يُرتجى والـ
ومقيمٌ فينا ومنتَظرٌ
يَسْـ
يا إمام الزمانِ هيا أغثنا
أصبحَ الحقُ باطلاً وغدا البا
فانصرِ الحقَ واملأ الأرضَ قسطًا
معجزاتُ الإله فيكَ استدامتْ
|
|
ويغشّي على العيون الضبابُ
يتجلى بعد الضلال الصوابُ
ـديُّ والمستغاثُ والغيَّابُ
ـخلفُ
الصالحُ الكريمُ اليُهابُ
رُو وتشريفنا إليك انتسابُ
عجبٌ كلُّ ما نراه عُجابُ
طلُ حقًا وكلُ عُرفٍ يُعابُ
وليُنزَّلْ بالظالمين العقابُ
وستُحنى لها لديكَ الرقابُ[7]
|
ولا تخفى
على القارئ معاني الأبيات، وهي من بحر الخفيف، وتدور
جميعها حول أهمية عودة المهدي واستعجال ظهوره،
بلغةٍ
سهلة بسيطة واضحة.
الاتجاه الرمزي أو الرمزية في الشعر المهدوي
يحتلّ
الإمام المهدي روح القصائد الرمزية في الشعر العربي
المعاصر، ويطلّ علينا من خلال الرمز فقط، دون
التفاصيل
والمعاني
المتداولة
الشائعة التي عرفناها، ومن ذلك الاتجاه الديني والتاريخي
لشخصية الإمام المهدي (عجل الله فرجه).
فالشعر
الرمزي يكتفي بالتلميح دون التصريح، أو أنه يكتفي
بالإيماءة السريعة التي تصف الحال وتدل على المراد، ومن
هذا الشعر الرمزي ما يدل على نفسه بنفسه، سريع التناول،
قريب المنال، كقول الشاعر نزار قباني في رثاء الرئيس
الراحل جمال عبد الناصر سنة 1970م :
القائدُ لم يذهب أبدًا
بل دخل الغرفة كي يرتاح
وسيصحو حين تطلّ الشمس
كما يصحو عطر التفاح[8] |
وهذان
البيتان
وإن كانا في رثاء الزعيم العربي، إلا أنهما تحملان
النَّفَس المهدوي، وتعبّران عن فكرة المجيء والعودة.
بل يصرّح نزار قباني علنًا في قصيدة أخرى
عنوانها (إليه في يوم ميلاده)، ويقصد ميلاد عبد الناصر،
فهو يذكر الرمز
بالاسم مشيرًا إلى أن المرثي يحمل جذوةً
من قبس المهدي، إذ أنه يستحضر هذا الرمز الموجود ويلبسه
الزمن المعاصر، وتستمر أفكار وروح عبد الناصر في أمته
وتنتصر يومًا ما :
تأخرت يا أغلى الرجال فليلُنا
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا
|
|
طويل وأضواء القناديل تسهر
وأنت لنا "المهدي" أنت المحرر[9]
|
إذن كل
شخصية
يعتبرها الشعب خلاصَه، هي بمثابة مهدي له، من هنا رسوخ هذه
الدلالة في أعماق الشعوب،
كدليلِ
أملٍ بالمستقبل.
ويتحدّث الشاعر شوقي بزيع عن المهدي المنتظر بعمق وشمولية،
في أداءٍ مليءٍ بالرموز والإشارات، فهو يشير إلى
علاقة
المنتظر بالناس وتواصله معهم بأسلوب إخباري قصصي.
إن شعراء الحداثة يوغلون في الأعماق، يفلسفون الموضوع الذي
يتصدّون له، يبنونه بغير ما يبنيه غيرهم،
يستحضرون
أحداث التاريخ السحيقة، ويقيسونها على الحاضر، أو يقيسون
الحاضر عليها، فتستحيل حلمًا وأملاً ورمزًا.
ولعل الشاعر شوقي بزيع أكثر شعراء الحداثة مقاربة لموضوع
المهدية أو المهدوية، إذ انفرد عنهم تقريبًا بأنه
خصّص
قصيدة حديثة وطويلة ومتشعبة عن الإمام المهدي، فاستحال
الرمز عنده رموزًا تعيش مع الناس في ذاكرتهم وحاضرهم،
والقصيدة عنوانها "الطواف في رحاب صاحب العصر"، وقد جاءت
في أول ديوان صدر له وهي غنية بالصور الجمالية والخيال
الخصب البديع :
وحين تقولُ الرعيةُ
كان الخليفةُ ظلاً وأنتَ التوغلُ
كانت عقاربُ كفيكَ تُعلنُ بدءَ التقيهْ
وعيناك في دورة الفلك تستحضران المسافاتِ
ينمو على وجهك البحرُ، تغفو همومُ الصغارْ[10]
هكذا يبدو المهدي متوغلاً في الزمن، يستحضر المسافات، وكأن
عقارب كفيه عقارب الوجود، وعينيه بوصلة الفلك،
يحمل
هموم الصغار، ويحنو على البحر، فينمو على صفحة وجهه التي
مساحتها الكون.
وسيعود يومًا ما، مؤكدًا على الفكرة التي أرساها سواه من
الشعراء، عبر وجوده الخفي في الأشياء، هكذا تحتشد الرموز
في
قصيدة شوقي بزيع عبر معانٍ متعددة خلاّبة تفضي إلى حقيقة
واحدة، أن
المهدي يعيش يين الناس، يتواصل معهم، يشاركهم همومهم
ومسرّاتهم من خلال طيفه، وتاريخه وسيرته، والروايات عن
معجزاته
:
وقد أعشبت مقلتاك
ومن يومها يطلع العشب مثل التعاويذِ
لكن كفك أبلت بلاء الأساطير قبل الفجيعهْ
وقد عاينوك تصلي وحيدًا على جذع سيناءَ
حيث تقوَّسْتَ كالرمح في جوف من يعبرونْ
رأتك العصا فاستحالت زهورًا
هكذا
تتلاحق
الرموز وتتكثف
في فضاء قصيدة الشاعر، حتى لتكاد تتحول إلى حقل ذي دلالات
مختلفة، تدور جميعها حول المهدي المنتظر وحضوره اللامنظور
في الأزمنة والدهور، حيث يحمل السيف في مواجهة المستبدّين
والعروش الظالمة :
وماذا لو اشتعلت في أتون البراءة عيناكَ
هذا ربيع الجراحِ
التئم بين ورد المسافة والشوكِ
أزهر على حدق المقبلين
فنحن بذور تطارد كالنحل وهج الخصوبةِ
لكننا لم نزل بانتظارك
منذ ابتداء الخليقة
وسوف تعود وتهدي إلينا تفاصيل موت معاصرْ
تجمعت كالعين في غابة الدمعِ
جئت مضاجعنا في الخفاء وأورقت فينا، أنا صوتك
الآن والورق الدائري
دخلتُ مسام العصور وأعشبت في غفلة الوقت[11]
ثم
يتابع
الشاعر
رسم صورة المهدي في خيوط من الرموز، كباقة
ٍ من الورود المتشابكة، بعد أن يستعير صوته وجرحه ودمه :
أنا صوتُك الآن والورق الدائريُّ
دخلتُ مسام العصور وأعشبتُ في غفلة الوقتِ
كانت ألوف السيوف تغنّي دمي في العشايا
وتغري العذارى بصوتي
وبشكل عام، فالمهدي في قصيدة شوقي بزيع هو المسام
والإشارة، والتوغّل والامتداد الزمني والطريقة والسد
والحلم
المنتظر.
يقول
في مطلع القصيدة :
مغرقٌ في التواصلِ
تنسلُّ خلفَ ارتعاش الأصابعِ
تهذي
تراوح كالظل بين الحقيقة والوحي
وتركض كالطفل بين الفرادة والقمع[12]
وما زال
المهدي
يركض في برية هذا الكون حتى يحين موعد ظهوره الميمون،
فيصبح هذا التواصل الروحي الذي يقوم الآن بينه وبين الخلق،
تواصلاً حقيقيًا وملموسًا ومرئيًا، وغني عن القول أن
القصيدة من الشعر الحديث الرمزي، وقد
استعمل
الشاعر
تفعيلة بحر المتقارب (فعولنْ فعولنْ) مادة قصيدته، وهي
تفعيلة راقصة ذات حيوية وتصلح للموسيقى.
وتكثر
في مجموعات الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين الرموز التي
تعبّر عن حضور المهدي المنتظر، وإشراقه
وتحيُّنِ الناس لفرص ظهوره، وقد عبّرتِ المقطوعةُ الأخيرةُ من قصيدة أو
معلقة "قبر للأرض" من ديوانه منازل النرد، عبّرت عن هذا
المفهوم التاريخي النضالي الغيبي، في صفحة 132 إشارةٌ
صارخةٌ تعني ما أشيرُ إليه :
يا حادي العيسِ
وأخبرهمْ أني سأعودْ
فلينتظروني
في ثنية هذا الجبل الصافي
ما بين الطلقة والرمانْ
ولينتظروا جبل الريحانِ
إذا جلجلَ فيه الرعدُ
ودمدمَ فيه الصوتُ الجارفْ
هذا الانتظار، وتوقّعُ العودة،
هو
من موروثات هذا الحدث التاريخي (غيبة الإمام الثاني عشر)،
وتتحدد دلائل هذا الرمز أكثر عندما يذكر الشاعرُ السردابْ،
فهو المكان الذي اختفى منه الإمام المنتظر، كل ذلك بلغة
حيّة وخيال فسيح وفكر
عميق
:
فلتفتحْ أبوابَ مدينتكَ الموصدةِ
حتى أدخلْ
فأنا (كي تصدقني الرؤيا)
أبصرتُ الضوء يلوحُ
على آخر هذا السردابِ
فآنسني فدخلتْ[13]
ويبقى السرداب علامةَ المتوقّع والمستقبلِ على خلفية الرمز
(الإمام
المهدي) كما يتراءى لي في قول الشاعر شمس الدين
:
وقال غدًا يأتي من سرداب الدمع
فتى
ويسجر هذا النهر بصرخته
إنه الحلمُ الذي يعشبُ في الصدور والعقول إلى حين تحقيقه
أو كما يقول الدكتور محمد حمود في كتابه (محمد علي
شمس
الدين
أميرال الطيور)():
"إن
هذا السرداب مرتبط في الذاكرة الشيعية بالإمام المهدي الذي
سوف يأتي ليملأ
الأرضَ عدلاً بعد أن ملئت جورًا".
ومن ديوان الشاعر شمس الدين (منازل النرد) ومن آخر قصيدة
(قبرٌ للأرض)، وهي قصيدة قيلت بمناسبة حرب سنة
1996م
ومجزرة قانا التي ارتكبها الكيان الصهيوني، يتكرر ذكر
"السرداب" الرمز الذي يشير إلى الحجة المنتظر، وكأن في كل
مناخ ملحمي حربي يناضل فيه الجنوبيون ملمح لشخصية المهدي
وانتظار خروجه :
لا أحد يعرف في هذا المنفى أحدا
فأنا كي تصدقني الرؤيا
أبصرتُ الضوء يلوح على آخر
هذا السرداب
فوجدت قبورًا تنشقُّ
ويخرج منها قتلاها[15]
ونلمح
شخصية المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) صاحب العصر والزمان
رمزًا لكل المصلحين الذين يملون لخير الشعوب، لذلك يسير
المؤمنون خلف خطاه، حتى وهو غائب، لأنهم يعرفون تعاليمه
وأهدافه ويسيرون بموجبها، وهو الذي سيخرج في سبيلهم، إنهم
المظلومون والفقراء والمسحوقون :
ومشى ، فمشينا خلف خطاهُ
كما يَتْبَعُ نهر مجراه
كنّا فقراء وتوابين
وأخلاطًا من زنجٍ وشعوب مغلوبة[16]
إلا
أن الشعراء، وكانوا أول من آمن بالأعجوبة كما يقول الشاعر
محمد علي
شمس الدين، لم يبقوا على موقفهم، وتواروا منتظرين أن يخرج
من سرداب آخر مهدي آخر، وهذا جزء من الحيرة في أمر المهدي
والجهل حول يوم عودته الحقيقية جسدًا وروحًا إلى الناس :
لكنّ الشعراء، وكانوا أول من آمن بالأعجوبهْ
وجدوا في منتصف الصحراءْ
أمرًا ما
ملتبسًا بين النار وبين الماءْ
بين المعجزة الكبرى والأكذوبهْ
فتواروا خلف مدامعهمْ
وانتظروا
أن يخرج من سرداب آخرْ
مهديٌّ آخرْ[17]
إنه الشعر الرمزي، الذي تتوارى فيه المعاني خلف حجب من
الخيالات
الفسيحة التي لا يُقبض عليها بسهولة، هنا تجد
رقيًا
في الأسلوب والمعاني والأفكار، تتوارى المعاني خلف الأسلوب
الرمزي كما يتوارى الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) عن
الأنظار، في رحاب هذا الكون الفسيح، إلا أنه أخيرًا ستطلع
الشمس، شمس المهدي، لتنير العالم أجمع.
* * *
|