بداية
لا شك أن ظاهرة الموت قد أقلقت الإنسان منذ بداياته الأولى
على هذه الأرض، ومنشأ هذا القلق والخوف، إضافة إلى دلالته
على حب الحياة والحرص عليها، أنه يكشف عن الخوف من المصير،
والقلق عما يؤول إليه أمره.
لقد افترض كثير من الباحثين، خصوصًا الماديون منهم، في
قضية الموت وما بعده، أن هذا القلق هو الذي دفع أتباع
الأديان، سماوية وغير سماوية، إلى الاعتقاد بعالَم آخر،
يلي هذا العالم وهذه الحياة، وهذا يفترض أنه لولا مسألة
الموت التي واجهت الإنسان ولم يستطع أن يجد لها تفسيرًا
مرضيًا ومقبولاً، لم يكن للدين أيّ محل في حياة الإنسان
بزعمهم.
وتعلّل الكثير من هؤلاء بأن حياة ما بعد الموت من الأمور
التي لا يمكن إثباتها بالطرق العلمية والتي لا تقع تحت
التجربة والحواس، ولهذا فهي مجرد أمر افتراضي لا يَرقى إلى
مستوى الحقيقة والواقعية.
هل الموت عدم أم حياة
لكنّ الشيء الأكيد في هذه المسألة، أن أصل الخوف والخلاف
هو السؤال التالي: هل الموت فناء وعدم، وبالتالي فَحُبُّ
البقاء، والحرص على الحياة، هو الذي يؤدي إلى القلق والخوف
من الموت، ويؤدي إلى البحث عن البقاء بكل الوسائل الممكنة.
أم أن الموت تجديد حياة، وانتقال إلى مستوى أرقى وأسمى من
الحياة التي نعيش؟
وفي هذا الفرض الثاني، ربما يقال أنه لا يبقى للقلق والخوف
محل وموقع في نفس الإنسان، إذ ما دام الإنسان مفطورًا على
حبّ الكمال والسعي نحوه، فمن الطبيعي أن يحلّ الاطمئنان
والاستقرار النفسي بالموت، وانتظار الحياة الآخرة بشغف
وشوق، ما دامت تُلبّي هذا الطموح، وتُحقّق هذه الرغبة فيه.
إلا أن حقيقة الأمر أن الاعتقاد بكون الموت بداية لحياة
جديدة راقية، لا يقضي على القلق والخوف عند المؤمن بذلك،
لأن من الواضح أن حُبّ البقاء لدى الإنسان، بل لدى جميع
الكائنات الحيّة، مترافق ومتلازم مع حُبّ الراحة، والبحث
عن السعادة والهناء ورغد العيش، وهذا ما يُفسّر الاختلاف
والتفاوت بين الناس، أعم من المؤمنين بدين وغيرهم، في
الحرص على الحياة والزهد بها.
إن الاعتقاد بحياة جديدة بعد الموت يثير التساؤل والقلق من
نوع آخر، وهو: ما هو مصير المرء بعد هذه الحياة؟ فهل
سيتمكن من تحقيق آماله وأحلامه؟ وهل سيصل إلى رغباته
وغاياته التي يرجوها؟ أم أنه سيعود إلى الشقاء والعذاب من
جديد، وفي هذه الحال ستكون حسرته أكبر وآلامه أشد؟
ارتباط المآل بالأعمال
من هذا المنطلق، يمكننا تفسير الحرص على الأعمال الصالحة،
في مختلف المجتمعات الإنسانية، والحثّ عليها في هذه
الحياة، من جهة أنها تُؤمّن للعامل نتائج مرضية له، في
سعيه الحثيث نحو التكامل والنظر إلى المستقبل برؤية
متفائلة ومطمئنة.
كما يمكن تفسير الحذر من الأعمال المشينة التي يمكن أن
يقترفها الإنسان في هذه الحياة، لجهة أنها تُشكّل عقبةً
كَأْداءَ بوجه سيره التكاملي، وبحثه عن السعادة، وبالتالي
تراه شديد الحذر من ملاقاة الحقيقة، التي فيها جزاء
أعماله، فتنعكس خوفًا واضطرابًا في ذاته، ويَحذَر الموت،
ويحرص على الحياة، خوفًا من مواجهة مصيره المحتوم.
ولما كان الإنسان عاجزًا عن تقدير أعماله، لجهة صلاحها
وعدمه، فإنه يعيش قلقًا من نوع آخر حول مصيره، يرتبط
بالحيرة والعجز عن تقييم أعماله، والحكم عليها بميزان
الحق، نظرًا لكثرة العوامل المؤثرة في صلاح العمل وفساده،
سواء النفسية منها أو الاجتماعية أو غيرها، وهذا ما يُفسّر
ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): (لا يكون العبد
مؤمنًا حتى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا
حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو)()،
وغيره من الاحاديث الشريفة الكثيرة، والدالة على أن المؤمن
يعيش بين الخوف والرجاء بشكل دائم.
الدين والخوف من الموت
في مقابل ذلك، نجد أن بعض الباحثين يحاولون أن يثبتوا أن
الخوف من الموت هو أحد الأركان الأساسية في ابتداع فكرة
الدين، كما أشرنا، وأنها ليست متأصلة في النفس الإنسانية،
بسعيها نحو الكمال.
يقول ول ديورانت: "وتعاونَتْ عدّة عوامل على خلق العقيدة
الدينية، فمنها الخوف من الموت، ومنها كذلك الدهشة لما
يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة، أو الأحداث التي ليس في
مقدور الإنسان فهمها، ومنها الأمل في معونة الآلهة والشكر
على ما يصيب الإنسان من حظ سعيد"().
ويقول في مقام آخر: "الدين دعامة الأخلاق بوسيلتين
أساسيتين، هما الأساطير والمحرمات، فالأساطير هي التي تخلق
العقيدة في ما وراء الطبيعة، ثم يكون من شأن هذه العقيدة
أن تضمن بقاء أنواع من السلوك، يريد المجتمع (أو يريد
الكهنة) بقاءها. فما يرجوه الفرد في السماء من ثواب وما
يخشاه لديها من عقاب، يضطره اضطرارًا أن يُذعن للقيود التي
يفرضها عليه سادته أو جماعته، فالإنسان ليس بطبعه مطيعًا
رقيقًا طاهرًا، وليس شيء كالخوف من الآلهة -وذلك بعد القهر
الذي خضع له الفرد قديمًا فأنشأ في نفسه الضمـير- أخضع
الإنسان لهذه الفضائل التي لا تتفق وطبيعته إخضاعًا مطردًا
صامتا"().
إلا أن من الظاهر أن هذا التحليل المتطرف، والمغرق في
المادية، لا يتوافق مع سياق الوقائع التاريخية للمجتمعات
الإنسانية، بدائيةً كانت أم مدنيةً، وقد وردت في سياق كلام
ديورانت نفسه، خلال سرد تاريخ الحضارات التي تحدث عنها على
مدار التاريخ، حيث أن الاعتقادات الدينية، ومنها حياة ما
بعد الموت، قد لازمت حياة الإنسان منذ بداياته الأولى، فلا
معنى لفرض الأسطورة في حياة الإنسان الأول، لأن المفروض
أنه سابق عليها.
هذا بالاضافة إلى أن نزوع الإنسان نحو الشر، وإن كان
مظهرًا من مظاهر سلوكه، إلا أن من الواضح أن مصدر هذا
النزوع هو الغريزة، التي سرعان ما يدرك المرء عدم
صوابيتها، إذا احتكم إلى عقله وفطرته، سواء كان مؤمنًا
بدين أم لم يكن، وهو ما تفرضه الحياة الاجتماعية نفسها
لديه، إذ ليس الانسان مجرد غرائز وشهوات، وإلا لم يختلف عن
سائر الحيوانات الأخرى بشيء، بل هو يعقل ويدبر ويتأمل
ويفكر، في ما يصلح ذاته وما يفسدها.
وعلى هذا الأساس نراه يعمل على سن القوانين التي تنظم
حياته، وتحفظ له بقاءه، وأمنه، وراحته، وما ذلك إلا لأن
فطرته الأولى تنزع به نحو التكامل والسموّ.
موقف القرآن الكريم
تشكّل الحياة الآخرة ركنًا أساسيًا من الأركان التي
يُبيّنها القرآن الكريم، والتي لازمت دعوات الأنبياء
(عليهم السلام)، في مختلف مفاصل التاريخ الإنساني، وقد عمل
الأنبياء(عليهم السلام) في كافة مواعظهم وبراهينهم، التي
صدعوا بها للناس، على جلب الاهتمام لهذه الحياة والتركيز
عليها.
بل نجد أن حقيقة العالم الآخر، وحياة ما بعد الموت
المفترضة، قد سبقت الوجود الإنساني على الأرض، فقد تحدث
عنها إبليس بشكل واضح، حيث إنه بعد تمنعه من السجود لآدم
(عليه السلام)، قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ
أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}().
وفي مقام بيان أن الإنسان الأول قد أدرك هذه الحقيقة
أيضًا، وأنها لم تبق في ذهن الملائكة وإبليس، يُبيّن
القرآن الكريم أن الإنسان أدركها بوضوح، وعمل لها، منذ
بداياته أيضًا، وذلك من خلال عرضه لما جرى بين ابني آدم،
قال تعالى: {لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}().
فقد ذكرت هذه الآيات الشريفة صراحة أن الجيل الأول
للانسانية كان مُدركًا لحياة ما بعد الموت، وأن مصير
الإنسان إما إلى الجنة، أو إلى النار، وإلا لم يكن لتقديم
القربان من ابني آدم (عليه السلام) أي معنى، لأن من الواضح
أن تقديم القربان يكون لجلب رضا الله تعالى ودفع غضبه
وسخطه، كما أن الآيات قد ذكرت النار صراحة، وأما الجنة
فيدل عليها قوله تعالى {قَالَ
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}()
.
فما يذكره الكثير من الباحثين، ومنهم ول ديوارانت، من أن
العقائد الدينية، والاعتقاد بعالم الآخرة، والثواب
والعقاب، لم توجد مع الإنسان الأول، وأنها قد خضعت للكثير
من التطورات والتغييرات على مر العصور، يبقى بلا مبرر
مقبول.
الحياة الآخرة في التوراة
رغم أهمية الاعتقاد بالحياة الآخرة في التاريخ البشري،
ورغم تأكيد القرآن الكريم على اهتمام سائر الأنبياء (عليه
السلام) بهذه العقيدة، وتركيزهم على الإيمان بها، والعمل
لأجلها، ودعوتهم الناس إلى الاهتمام بما يقتضيه من العمل
الصالح، للفوز بالجنة، واجتناب ما يؤدي بهم إلى الهلاك،
إلا أننا لا نجد أيّ ذكر لها في التوراة، لا من قريب ولا
من بعيد. بل إن العهد القديم بسائر أسفاره، يكاد يكون
خاليًا من التعرض لهذه المسألة الهامة، والخطيرة في حياة
الإنسان.
هذا مع العلم أن اليهود لا ينكرون هذا المعتقد، بل هو جزء
من اعتقادهم الديني، ولهم صلوات خاصة تتعلق بحياة ما بعد
الموت.
إنّ كل ما ورد في العهد القديم، ويتحدث عن الحياة الآخرة،
لا يدل على هذا المعتقد إلا من بعيد، وبشكل جزئيّ وهامشيّ
جدًا، بنحو لا يغني المعرفة الدينية شيئًا، ولا يحثّ
الانسان اليهودي على العمل الصالح، واجتناب الأعمال
السيئة، ولعل هذا أحد الأسباب الرئيسية، التي أبعدت الحياة
الآخرة، عن تفكير اليهودي وذهنه، وبالتالي ارتبط بالحياة
الدنيا بشكل مطلق، حتى كأن الحياة الآخرة خارجة عن العقيدة
الدينية عنده.
إن أول إشارة في العهد القديم وردت في سفر أيوب، وهو متأخر
نسبيًا، يقول فيها: "وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى
الله"().
وتعترض هذه الكلمة إشكاليتان: إحداهما: إن أيوب (عليه
السلام) لم يكن من بني إسرائيل، بل يميل بعض الباحثين
الكتابيين إلى أنه لم يكن شخصية تاريخية، بل هو شخصية
رمزية().
واختلف القائلون بتاريخية الرجل، فذهب بعضهم إلى أنه من
نسل عوص ابن آرام بن سام، وبعضهم أنكر ذلك. وقد استندوا
إلى ما ورد في بداية السفر "كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب"().
ويتفرع عن هذا الكلام اشكالية أخرى، وهي سبب ورود سفر أيوب
في أسفار العهد القديم، ما دامت أسفاره قد كتبت لتبرز
أعلائية العنصر الإسرائيلي في تاريخ الإنسانية وأنه مختار
من الله تعالى دون سائر الأمم والشعوب.
والإشكالية الأخرى هي عدم اتفاق الباحثين على واقعية
السِّفر، حيث ذهب بعضهم إلى أن السِّفر لأكثر من مؤلف، جرى
ضم بعض أجزائه إلى بعض من دون مناسبة().
هذا عدا عن الإشكال في دلالة الجملة على الحياة الآخرة،
والتي تفترض أنها حياة غير جسدية، وهي تحتمل أكثر من
دلالة، لا تستلزم البعث بالضرورة، بل يمكن دعوى أخذها من
العقائد الهندوسية وغيرها من الوثنيات.
كما وردت إشارة إلى الحياة الآخرة في سفر أشعياء، الذي عاش
في حدود القرن الثامن قبل الميلاد، يقول فيها: "تحيا
أمواتك تقوم الجثث. استيقظوا ترنّموا يا سكان التراب"().
وفي سفر دانيال، الذي عاش في حدود القرن السابع والسادس
قبل الميلاد، يقول: "وكثير من الراقدين في تراب الأرض
يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار
للازدراء الأبدي"().
ودلالة هذا النص على عدم شمول البعث لجميع الناس ظاهرة،
ويمكن أن يقال بأن المبعوثين -بحسبه- هم اليهود وخصومهم
الذين واجهوهم، لأن قوله "وكثير من الراقدين" صريح في عدم
إرادة الكل.
وبمعزل عن مدى دلالة هذه النصوص على ثبوت الحياة الآخرة،
فإن النتيجة القاطعة، التي يخرج بها الباحث، هي عدم إيلاء
التوراة، والعهد القديم على العموم، أيّة أهمية تُذكر
لحياة ما بعد الموت.
وهنا يعود التساؤل من جديد عن المستند الذي استند إليه
اليهود في تثبيت هذا المعتقد الهامّ والخطير في حياة
الإنسان اليهودي.
الحياة الآخرة في الإنجيل
وعلى العكس من ذلك، فقد أولى العهد الجديد، وخصوصًا
الأناجيل الأربعة، أهمية خاصة واستثنائية، لمسألة الحياة
الآخرة، على نحو يبدو أن الأناجيل قد استقت عقائدها
ومفاهيمها الدينية من مَعين آخر مغاير، للأسفار القانونية
للعهد القديم.
ولقد بين السيد المسيح (عليه السلام) بعض الجوانب المتعلقة
بالحياة الآخرة، مسندًا إياها إلى تعاليم الأنبياء، ففي
حوار بينه وبين الصدوقيين، قال لهم: "تضلّون إذ لا تعرفون
الكتب ولا قوة الله، لأنه في القيامة لا يتزوّجون بل
يكونون كملائكة الله في السماء، وأما من جهة قيامة
الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قِبل الله القائل، أنا
إله إبراهيم وإله اسحاق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل
إله أحياء"().
وبمقتضى القانون الذي أعلنه السيد المسيح (عليه السلام) في
بداية دعوته بقوله: "لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس أو
الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم، إلى
أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من
الناموس حتى يكون الكل"()،
يتبين أن المراد بالكتب التي لا يعرفها الصدوقيون بحسب
تعريفه هي كتب الأنبياء والنصوص المقدسة.
ولقد أرسل هذه العقيدة إرسال المسلمات، حين توجّه بالتوبيخ
إلى المدن الإسرائيلية التي لم تؤمن به، من قبيل قوله
"ولكن أقول لكم أن صور وصيداء تكون لهم حالة أكثر احتمالاً
يوم الدين مما لكما"().
وقوله: "ولكن أقول لكم أن أرض سدوم تكون لها حالة أكثر
احتمالاً يوم الدين مما لك"().
وهذا ان دل على شيء، فإنما يدل على وضوح الفكرة في أذهان
مخاطبيه من اليهود، كما تقدم، وأنها مستندة لا محالة إلى
نصوصهم المقدسة.
مُستند المسيح في الحياة الآخرة
وما دام السيد المسيح (عليه السلام) قد أعلن التزامه
بقوانين العهد القديم، وعدم الخروج عليه، ولو بمقدار حرف
أو نقطة، وأكّد على استناده إلى مواعظه وتعاليمه، ونراه
يؤكد على أهمية القيامة والحياة الآخرة، فالإشكال الذي
يطرح نفسه بقوة في المقام، هو:
كيف يمكن التوفيق بين هذه التأكيدات المتتالية، على الحياة
الآخرة، استنادًا إلى كتب الأنبياء، وخلوّ هذه الكتب
"القانونية" من أيّة إشارة يمكن أن تصدّق أقواله؟!
ذلك أن الأمر لا يخلو من عدم دقّة السيد المسيح (عليه
السلام) في استناداته، وبالتالي عدم صحة أقواله وادعاءاته،
نعوذ بالله من ذلك، أو من القول بوقوع التحريف والتلاعب،
وإخفاء بعض النصوص الهامة التي ترتبط بالاعتقادات الحقة.
ولكن تصديق اليهود لكلامه وادعاءاته (عليه السلام)، وعدم
مناقشتهم له فيها، إضافة إلى اعتقادهم بحياة ما بعد الموت،
يؤكد حتمية الفرض الثاني، وهو وقوع التحريف والتلاعب
بالنصوص القانونية، وإخفاء بعض النصوص والأسفار، التي
تتمتّع بصدقية وقداسة في ذهن السيد المسيح (عليه السلام)،
والتي لم يستطع اليهود مناقشته فيها ولا الردّ عليها.
ومن الظاهر أن هذه الاشكالية يدركها كهنة اليهود وأحبارهم،
لأن الناس العاديين منهم كانوا ملزمين بتلقي المعارف
الدينية من الأحبار، وبالتالي معرفة ما تحتويه الأسفار
المقدسة كانت حِكرًا على الأحبار دون سواهم. ومقتضى ذلك أن
اليهودي العادي كان يسلم بالأمور تسليمًا، والأحبار هم
الذين يدركون حقيقة الأمر.
ولازم ذلك البحث عن هذه النصوص المفترضة، ومحاولة
استنطاقها والتأمّل فيها، والتحقيق في السبب أو الأسباب
الكامنة وراء هذا الإخفاء.
بعض الجواب في كهوف قمران
فقد كشفت المخطوطات المكتشفة في مغاور قمران، على شاطئ
البحر الميت، جانبًا مهمًا من هذه النصوص، والتي تتحدّث
بشكل لافت عن حياة ما بعد الموت. وقد أظهرت الكثير من
التفاصيل المذهلة في توصيف الحياة الآخرة، في مختلف
الأسفار، الممتدة في عمق التاريخ، بدءًا من سفر أخنوخ،
مرورًا بمزامير سليمان، وصولاً إلى كتب الوحي، وبعضها من
كتابات بعض المسيحيين بحسب الباحثين.
واللافت في هذه النصوص أنها تتوافق في الكثير من مفاصلها
الأساسية مع ما جاء به القرآن الكريم، وتخلو منها مدونات
أهل الكتاب القانونية.
وهذا يشكل دليلاً إضافيًا وقرينة أخرى على إعجاز القرآن
الكريم، الذي أخبر عن تلاعب أهل الكتب بنصوصهم المقدسة
وإخفاء بعضها، بحيث تتوافق توصيفاته لعالم الآخرة،
بالإضافة إلى غيرها من المفاهيم الدينية، مع ما كان قد
أخفي عن مسرح الأحداث قبل الإسلام بمئات السنين، وهذا ما
لا يمكن تفسيره، أو توجيهه إلا من خلال الوحي الإلهي على
قلب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).
الصدوقيون في المخطوطات
والأمر اللافت في هذه المخطوطات تركيزها على مدح
الصدوقيين، وأنهم هم الذين اختارهم الله لإثبات ميثاقه
للأبد، وأنهم هم القديسون الذين ينفذون أوامره ويعملون على
خلاص المؤمنين في الآخرة().
وهذا يدل على أن لهذه المخطوطات علاقة بهذه الطائفة، وأنهم
هم الذين أخفوها، خوفًا عليها من أن تقع في أيدي خصومهم،
الأمر الذي يُعرّضها للتلف لا محالة، وهو ما يؤكد النتيجة
التي ذكرناها في مقالة سابقة()،
وهي أن المراد بالأسينيين أتباع عيسى (عليه السلام)، أي
العيسويون، وليسوا طائفة خاصة في مقابل الصدوقيين
والفريسيين، كما ذهب إليه مختلف الباحثين في الكتاب
المقدس، ولو فرض وجود طائفة باسم الأسينيين غير العيسويين،
فليس لهم أي علاقة بالمخطوطات، وتكون المحصلة أن طائفة
الصدوقيين هم الذين اتبعوا السيد المسيح (عليه السلام) من
اليهود، وهم العيسويون الذين تنتسب المخطوطات إليهم.
إلا أن هذه النتيجة غريبة جدًا، ومثيرة للاستهجان للوهلة
الأولى، حيث إن المتسالم عليه بين الباحثين هو أن طائفة
الصدوقيين ينكرون الاعتقاد بالقيامة والحياة الآخرة، فقد
ورد في التلمود ما لفظه: "لقد كانت القيامة واحدة من
المواضيع الهامة للخلاف بين الفريسيين والصدوقيين. يقول
الصدوقيون إن الروح تنطفئ أثناء موت الجسد، وهذا الموت
يعتبرونه نهاية الكائن البشري. فهم لا يعترفون بالعالم
الآخر، ويرفضون عقيدة الثواب والجزاء والقصاص التي يمنحها
الفريسيون أهمية عالية جدًا، يدافعون عنها بحماسة شديدة"().
وقد أرسلت هذه المقولة ارسال المسلمات في العهد الجديد،
كما يدل عليه قولهم: "في ذلك اليوم جاء إليه صدوقيون الذين
يقولون ليس قيامة"()،
وفي أعمال الرسل: "لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس قيامة ولا
ملاك ولا روح وأما الفريسيون فيُقرّون بكل ذلك"().
الصدوقيون والقيامة
وفي مقام الجواب عن هذه الإشكالية، لا بد من الإشارة إلى
أن العهد الجديد، على العموم، قد كتب بريشة بولس الرسول،
الذي سيطرت نظرته إلى السيد المسيح (عليه السلام) ومختلف
الاعتقادات عند أهل الكتاب، أو بتأثير من أفكاره التي
انتشرت بسرعة، وأدّت إلى ظهور المسيحية في بلاد الرومان
والمناطق التي دعا فيها، خلافًا لرؤية التلاميذ
والحواريين، وقد صرّح بولس بأنه ينتمي إلى طائفة
الفريسيين، عندما دخل مجمع اليهود وثارت ضجة بين الحضور،
فقال لهم: "أيها الرجال الأخوة أنا فريسي ابن فريسي. على
رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم"().
وفيه إشارة إلى أن الصدوقيين ممن لا يؤمنون بالقيامة
أيضًا.
ومن المعلوم أن الغلبة كانت من نصيب الفريسيين، الذين
ظهروا على مسرح الأحداث وكأنهم وحدهم اليهود.
وأما الصدوقيون فلم يكن لهم حول ولا قوة، بل إن فرقتهم آلت
إلى الانقراض والزوال والاستضعاف لمن بقي منهم.
إن التاريخ الإنساني يكتب عادة بأقلام المنتصرين وأتباعهم،
ونظرتهم إلى الأحداث وتقييمها هي التي تثبت على صفحة
التاريخ، وأما المهزومون الذين لا يبقى لهم حول ولا قوة
فلا يجرؤ أحد، على العموم، على الجهر بِحُججهم ورؤيتهم إلى
الأحداث، إلا بمقدار ما يريده المنتصر، وغالبًا ما يكون
بهدف النيل منهم، وهذه حقيقة لا شُبهة فيها.
من هنا، يجب النظر بحذر وريبة إلى المدونات الرسمية
للأحداث، وفي أقل الفروض لا بد من الإحتياط في التعامل
معها، خصوصًا إذا ظهرت حقائق مخالفة، أو افتراضات مغايرة،
كما هو الحال في ما نحن فيه، بعدما كشفت الآثار عن هذه
الكنوز الدفينة، أي مخطوطات البحر الميت، التي تدل على أن
الصدوقيين ليسوا فقط ممن يؤمنون بقيامة الأموات، بل إن
كتاباتهم قد أبرزت الكثير من التفاصيل عن حياة ما بعد
الموت، والتي لم نجد لها عينًا ولا أثرًا في المدوّنات
القانونية لأهل الكتاب.
الصدوقيون يؤمنون بالروح
وأما ما ذكروه من أن الصدوقيين لا يؤمنون بالروح، وأن
الانسان يفسد ويفنى بالموت، فإننا نجد أن النصوص الواردة
في مغاور قمران تُفنّدها وتُكذّبها بشكل واضح وصريح أيضًا،
وقد ورد فيها الكثير من النصوص الدالة على أن الأرواح هي
التي تُحاسب وتُثاب وتُعاقب، ويكفي أن نشير إلى بعضها في
المقام، فقد ورد قوله: "وقال الله: إن روحي لن تبقى دائمًا
في الإنسان لأنه جسد"().
وورد أيضا: "وسأُحيي الموتى، أقيم الذين يرقدون من الأرض.
الجحيم سيعيد مستحقه واللجة ستفرغ خزانها لكي أعطي لكل
بحسب أعماله وبحسب ثمار دسائسه، بحيث أحكم بين الروح
والجسد"().
"ولكي تأتي حصص كل حيّ وفقًا لروحه في يوم الحساب والمجيء"().
وغيرها كثير.
وهي صريحة، كما ترى، في تكذيب وتزييف ما ورد في الكتب
القانونية للمسيحيين، وفي التلمود. وهو ما يؤكد عدم إمكان
الوثوق بكل ما جاء فيها.
ويؤمنون بالملائكة
وأما ما ورد في سفر أعمال الرسل من أنهم لا يؤمنون
بالملائكة، فتُكذّبه النصوص نفسها أيضًا، إذ قد ورد فيها
من التفاصيل عن حياة الملائكة وتشديدهم للناس، وحضورهم عند
الموت وغير ذلك ما يأبى على الحصر، إلا أننا نذكر بعضًا
يسيرًا منها، لتأكيد هذه الحقيقة:
فقد ورد أن الملائكة تحضر عند موت الإنسان، حيث يقول: "إذ
ها أن اليوم يقترب يا أبنائي من الأجل المحدد والزمن
المعين يستحثني، والملائكة الذين سيمضون معي يقفون أمامي،
وغدا سأصعد إلى السماء العليا في موروثي الأبدي"().
كما أن قسمًا من الملائكة يستغفرون للناس، مع أن بعضهم قد
خالف هذه المهمة، فيقول: "اذهب وقُلْ لحُراس السماء الذين
أرسلوك لتتوسل من أجلهم: كان لكم أنتم أن تتوسلوا من أجل
البشر، لا للبشر أن يتوسلوا من أجلكم، لماذا تركتم الأعالي
السماوية، المعبد الخالد الخ.."().
والنار الأبدية عليها ملائكة غلاظ شداد "وأما المجيء
بالنسبة لجميع الذين يسيرون في هذه الروح، فهو يشتمل على
غزارة الضربات التي يدبرها جميع ملائكة الدمار، وعلى
الهاوية الأبدية من خلال الغضب والتأثر لرب الانتقام"().
كما بيّن أنه يوجد رؤساء للملائكة، أو الملائكة الكبار،
وهم سبعة ، ذكر أسماءهم، وأن لكل منهم وظيفته الخاصة في
هذا العالم والعالم الآخر، وأن لهم سلطة كبيرة على الأرواح().
يتبين من كل ما تقدم أن كل ما ورد من إنكار الصدوقيين لبعض
المعتقدات مجرد افتراء عليهم، لا يمتّ إلى الحقيقة والواقع
بصلة، وأن الدافع إليه هو غلبة الفريسيين وأنصارهم على
الأحداث، بحيث كُتب التاريخ بأقلامهم، وهم في هذه الحالة
قادرون على النيل من خصومهم كما يشاؤون، دون رقيب أو حسيب
عليهم. وقد يكون ذلك من الأسباب الهامة التي دفعت
الصدوقيين إلى حياة العزلة، والابتعاد عن الضوضاء، حرصًا
على أنفسهم، وعلى محفوظاتهم الكتابية، التي اضطروا إلى
إخفائها عن أعين الناس.
الصدوقيون والمسيح
استنادًا إلى ما تقدّم، يتبيّن أن السيد المسيح (عليه
السلام) قد استند، في تركيزه على مسألة القيامة والحياة
الآخرة، إلى كتابات أهل الكتاب التي اعتمدها الصدوقيون، من
قبيل هذه المدونات المدفونة في مغاور قمران، نظرًا لشدة
المقاربة والتشابه بينها وبين تعاليمه (عليه السلام). ولا
يمكن افتراض استناده إلى اعتقادات الفريسيين الخالية من
هذه العقيدة إلا من خلال تعاليم التلمود، ولا يوجد مدوَّن
غيره يتحدث عن الحياة الآخرة. لأن من المعلوم تاريخيًا أن
التلمود قد كتب بين عام 200 -400 للميلاد، مع أنه قد تقدّم
في احتجاجه على أهل الكتاب "الصدوقيين" بما هو مدون.
وبهذا تتوضّح صلته بهم، فقد ورد في بعض كلمات الباحثين أنه
(عليه السلام) كان على صلة طيّبة بهم، لأنه هاجم
الفريسيين، وقَبِل سلطان قيصر الروم، على نحو ما فعله
الصدوقيون، غير أن إنكارهم للبعث والدار الآخرة ... كانت
سببًا في الخلاف بينهم وبين المسيح، وقد حاول عيسى ردهم
إلى الاعتقاد السليم، ولكنهم لم يستجيبوا له وقاوموا دعوته
أكثر مما قاومها غيرهم().
حيث تضمّنت هذه العبارة إثبات علاقة السيد المسيح (عليه
السلام) بالصدوقيين، غير أنها زعمت اختلافه معهم في مسألة
الحياة الآخرة.
ولا إشكال في أن منشأ هذا الزعم هو ما تسالم عليه الباحثون
الكتابيون من إنكار الصدوقيين مسألة البعث. فإذا ثبت أن
هذه التهمة من افتعال خصومهم نتيجة سيطرة الخصوم على ساحة
الأحداث، وضعف صولة هؤلاء، وأن حقيقة الأمر بقيت مخفية مع
هذه المخطوطات، تبين مع اكتشافها أن الصحيح خلاف المتسالم
عليه، وأنهم من أشد الناس إيمانا بالحياة الآخرة، وحرصًا
على الاعتقاد بها، خصوصا بملاحظة أن النصوص المقدسة
المسيحية قد كُتبت بأقلام الفريسيين أيضًا، وعلى رأسهم
بولس الرسول كما تقدم، الأمر الذي يعني أن تكون في نفس
السياق المتقدم من الافتراء على الصدوقيين، ومحاولة
إزاحتهم من مسرح التاريخ بالمرة.
الجزاء بحسب الأعمال
من الميزات الهامة والمثيرة في هذه المخطوطات أن الحساب
والجزاء يحصل لكل من البَرّ والفاجر، وأن كلا منهما ينال
جزاء عمله، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشر.
وهذا الجزاء والثواب والعقاب يشمل جميع الأمم والشعوب ولا
يختص ببني إسرائيل، بل إن مُسِيئَهم لا يختلف عن مُسيء
الشعوب، والأمم الأخرى في عقابه، كما أن محسنهم لا يتميز
عن أي محسن آخر في جزاء أعماله الحسنة، ففي شرح حبقوق من
هذه المخطوطات، ورد صريحًا قوله: "إن الله سيقيم دينونته
وسط الشعوب الكثيرة، ومن هنا سيحضره للمثول في المحاكمة،
ووسطهم سيعلنه مذنبًا، وبِنار من كبريت سيدينه"().
ولا يخفى ما في هذا النص من توافق مع القرآن الكريم، الذي
أكّد في كثير من آياته الشريفة أن الحساب يكون علنيًا يوم
القيامة.
الحساب بعد الموت
وفي مقام وصف الحياة الآخرة، ورد وصف الأرض وما يحصل عليها
يوم القيامة، ففي سفر أخنوخ يقول: "أقاصي الأرض كلها
ستهتز، والرجفة خشية عظيمة سيجتاحانها حتى تخومها، كالجبال
العالية ستهتز، وتسقط وتنهار، والهضاب المرتفعة ستنخفض عند
ميعان الجبال، وستذوب مثل الشمع أمام النار، والأرض ستفتح
كهاوية فاغرة، وكل ما على الأرض سيهلك، وستكون الدينونة
على الأشياء كلها"().
وهذا التغيّر والانقلاب العظيم إنما يكون بعد الموت، وبعد
حساب البرزخ، فإنه قبل يوم القيامة تُحشر أرواح الموتى في
أماكن تناسب أعمالهم، فأرواح الأبرار في مكان، وأرواح
الأشرار في مكان آخر، حتى يأتي يوم الحساب الأكبر: "فسألته
-أي الملاك المرافق لأخنوخ- عندها، لماذا كانت الكهوف كلها
مفصولة عن بعضها بعضًا، فأجابني: خُلقت هذه الكهوف الثلاثة
لفصل أرواح الموتى. كذلك خُصص لأرواح الأبرار ذلك الكهف
حيث يشع المنبع الضوئي، وهكذا فقد تمّ خلق واحد لأرواح
الخطاة الذين ماتوا ودفنوا دون أن يكونوا قد حوكموا خلال
حياتهم، وقد وضعت أرواحهم جانبًا لكي تعاني هذا العذاب
القاسي حتى يوم الدينونة، والجلد والتعذيب للذين يلعنون
إلى الأبد، أنه العقاب المستحق لأرواحهم، ولهذا نقيدهم هنا
إلى الأبد"().
"فقد أجابني إذن ملاك السلام الذي كان يرافقني: هذان
التنينان مجهّزان ليوم الله العظيم وسيغذيان، عندما سيحل
عليهم عقاب رب الأرواح، فإنه سيحل بحيث لا يحل عقاب ربّ
الأرواح سدى، وسيميت الأطفال مع أمهاتهم، والأبناء مع
آبائهم، بعد ذلك سيأتي الحساب بحسب نعمة وحلم الرب"().
ومن المهم ملاحظة أن الملائكة تحضر حين موت الإنسان
وترافقه إلى عالم الآخرة: "ها إن اليوم يقترب يا أبنائي من
الأجل المحدد، والزمن المعين يستحثني، والملائكة الذين
سيمضون معي يقفون أمامي وغدًا سأصعد إلى السماء العليا في
موروثي الأبدي"().
القيامة الكبرى
وفيما يتعلق بيوم القيامة فقد بيّنت هذه الأسفار كثيرًا من
المواصفات المتعلقة به، من الخلود في النعيم والجحيم، وأن
الحساب على الأرواح والأجساد، وأن الأجساد تعود إلى
الحياة، ومواصفات الجنة والنار وغير ذلك، مما لا يرتبط
بخصوص بني إسرائيل، بل هو شامل لجميع الناس دون استثناء.
"بعد ذلك، في الأسبوع العاشر، في جزئه السابع سيحصل حساب
العالم، ويأتي زمن الحساب الكبير الذي سيطبق بين الملائكة،
ستمر السماوات الأولى، وعندها فإن سماوات جديدة ستظهر"().
"ولكن إذا ساعة حساب العالم البشر حانت، والتي سيقيمها
الله نفسه، محاكمًا في آن معًا الأشخاص الورعين والكفار،
عندها فإنه سيلقي بالكفار في نار الظلمات، وسيختبرون مدى
كفرهم، لكن الأناس الورعين سيبقون على الأرض الخصبة، لأن
الله سيعطيهم النفس والحياة والفرح"().
وكل ذلك يتحقق في يوم القيامة الكبرى: "وعندما تكون سنين
العالم قد تمت، عندها يتوقف النور وتنطفئ الظلمات. وسأحيي
الموتى وأقيم الذين يرقدون من الأرض، الجحيم سيعيد مستحقه
واللجة ستفرغ خزانها لكي أعطي لكل بحسب أعماله وبحسب ثمار
دسائسه، بحيث أحكم بين الروح والجسد، العالم سيتوقف،
والموت سينطفئ".
خلود الروح والجسد
وهذا الحساب والثواب والعقاب ثابت ودائم لا زوال له ولا
نهاية، فإن المؤمنين خالدون في الجنة ما دامت السماوات
والأرض: "إنّ قدّيسي الرب سيحيون بها إلى الأبد. إن فردوس
الرب، وأشجار الحياة هم قديسوه. وزرعهم متجذّر إلى الأبد،
ولن يقتلع طالما كان هناك سماوات"().
وهو ما يتحقق بعد إعادة الجسم بعد تلفه وتفتُّتِه:
"وستستهلك كل شيء وتقلّص الكون إلى رماد مسود، ولكن عندما
يصبح كل شيء رمادًا مغبرًا، فإنّ الله سيُسكن النار
الرهيبة بالطريقة التي كان قد أشعلها بها، وسيشكل الله
نفسه من جديد عظام ورماد البشر، وسيعيد الفانين كما كانوا
في السابق، عندها يقع الحساب الذي يقضي الله نفسه به"().
والنصوص كثيرة، تلك التي تتحدث عن حياة ما بعد الموت، مما
كان الزمان قد أخفاه عن أعين الناس، حتى كشفت عنه الحفريات
والآثار، وكثير منها يتطابق إلى حد كبير مع ما ذكره القرآن
الكريم عن ذلك العالم، ولا وجود له في الأسفار القانونية
من الكتاب المقدس، مما يشكل قرينة إضافية، وإعجازا آخر، في
صالح القرآن الكريم والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)،
الذي أخبر عن هذه الحقائق ، ونسبها إلى مختلف الأنبياء،
دون أن تظهر آثارها في أسفار الكتاب المقدس، كما تكررت
الإشارة إليه، فكان إخبارًا بالغيب، فصدق وعده، وهو ما
يؤكد وحدة الدين الإلهي على مر الأجيال.
خلاصة واستنتاج
نستنتج من كلّ ما تقدم أنّ حياة ما بعد الموت، من الحقائق
الثابتة في جميع دعوات الأنبياء، وهي مقارنة لوجود الإنسان
على الأرض.
إنّ مقارنة بسيطة بين هذه النصوص وغيرها وبين ما ورد في
القرآن الكريم في كثير من آياته الشريفة، التي تتحدث عن
عالم الآخرة وحياة ما بعد الموت، تُبيّن أنهما من مصدر
واحد، وهو تصديق قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا
نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا..}().
ونتيجة أخرى لا تقلّ أهمية وخطورة على الأولى يمكن
استخلاصها أيضًا، وهي أن فرقة الصدوقيين، الذين يبدو أنهم
الاتباع الواقعيون للسيد المسيح (عليه السلام)، من أشد
الناس إيمانا بالحياة الآخرة، ولولاهم لم يمكن الوصول إلى
هذه المخطوطات، التي ربما تكون قد لاقت ما لاقاه غيرها،
مما أخفاه أتباع الديانة اليهودية، في محاولة القضاء على
كل ما يرتبط بدعوة السيد المسيح (عليه السلام)، وغيره من
الأنبياء (عليهم السلام).
وبناء عليه، فإن مخالفة هذه النتيجة لِمَا تسالم عليه
الباحثون، من الحكم السلبي على هذه الفرقة، تبعًا لما ورد
في التلمود وأسفار العهد الجديد، المنتشرة بحكم غلبة الفكر
الفريسي على مفاصل الحياة العامة، لا تعني التطرّف في
الاستنتاج، بل توجب إعادة النظر في الكثير من المسلمات،
ومحاولة قراءة التاريخ والأحداث والدعوات، على ضوء هذه
المكتشفات.
وسواء صحت هذه النتيجة أم أخطأت هدفها، فلا بد من إعادة
التأمّل في المرويات الكتابية، فضلاً عن التاريخية،
والاستنتاج الصحيح منها، بُغية الوصول إلى الحقيقة
المرجوة، والهدف المنشود.
* * *
|