في مقال سابق، تابعنا أولى اهتمامات
المسلمين بباب أسباب النزول القرآني، حيث كان لنا وقفة مع
أسباب النزول في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)()،
واستكمالاً لبحث الإطار التاريخيّ الذي تشكلت فيه أسباب
النزول وتطوّرت، نقف في هذا المقال عند المرحلة التي تلت
وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لنرى كيف رست وتشكّلت
أسباب النزول في هذه المرحلة؟
تمهيد: وفاة الرسول
(صلى الله عليه وآله) وانقطاع
الوحي
في السنة
الحادية
عشرة للهجرة، انتقلت الروح الطاهرة للنبيّ الأكرم
(صلى الله عليه وآله)
إلى الملأ الأعلى.. ارتحل الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وانقطع الوحي،
فانتهت
بذلك حقبة نزول القرآن وفق أسباب خاصّة، وانتقل الحديث إلى
تداول الأسباب بين الأصحاب، أو روايات أسباب النزول.
وقد كان من المرتقب
أن
تُثمر
حركة الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في مجال أسباب النزول()
اعتمادًا
عليها، واقتداءً
بأعلام النزول الممدوحين بلسان الوحي، لاسيّما في هذا
العصر الذي فتحت فيه الصراعات
أبوابها،
إلا أنّ
ما حدث كان العكس تمامًا، فقد مرّت أسباب النزول في هذه
الفترة بمرحلة خطيرة كادت تطيح بها لولا يقظة المهتمّين.
وقبل الغوص في
تبيّن
الشكل الذي آلت إليه أسباب النزول في هذه الفترة، لا بدّ
من رسم المشهد العامّ لهذه المرحلة بعلاماتها البارزة.
المشهد العام
تميّزت مرحلة ما بعد وفاة النبيّ (صلى الله
عليه وآله) من تاريخ الدعوة الإسلاميّة بما
ظهر على مسرح السياسة الإسلاميّة من خلاف مذهبيّ،
حيث شهدت الأمّة الإسلاميّة مخاض ولادة مجموعة من الفرق
المتنوّعة، وبالتالي اختلفت صورة المجتمع الإسلاميّ
جذريًّا ؛ ففي حياة
النبيّ
(صلى
الله
عليه وآله):
"لم تتكوّن الفرق الإسلاميّة
(...)،
كان المسلمون آنذاك يُدينون للنبيّ
(صلى الله عليه وآله)
بالطاعة المطلقة، ويتلقّون ما يقوله لهم وما يأمرهم به
وينهاهم عنه بالقبول والإذعان، يجمعهم معنى واحد يعملون
له، دون أن يكون بينهم خلاف في السبل التي ينتهجونها
والوسائل التي يتبعونها؛ لأنّ من حلّ في مركز القيادة
منهم، وهو النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
كان المرجع الأوّل والأخير في كلّ ما يأخذون وما يدعون"()،
حتّى لو كان ذلك الأمر مجرّد ظاهر قد لا يوافقه الباطن.
وبمجرّد
انتقال
الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الملأ الأعلى
انشغلت الساحة بانقسام الناس إلى جماعات تعقد الولاء لواحد
من الصحابة
وفقًا
لمعايير مختلفة، فالأنصار عقدوا الولاء لسعد بن عبادة،
والقرشيّون عقدوها لأبي بكر، والهاشميّون لعليّ
(عليه السلام)...()،
فـ"المسألة الأولى التي اشتجرت فيها آراء قادة الرأي في
المسلمين بعد النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
هي مسألة الخلافة (...)، أمّا غير هذه المسألة
من المسائل التي يذكرها مؤرّخو تلك الفرق فلم تكن ذات أثر
قويّ"([5]).
ومن دون
أدنى
ريب فقد كان لهذه الحال التي آلت إليها أوضاع المسلمين
أبرز الآثار، وعلى مختلف المستويات، فـ"قد
ترتّب على هذا الانشقاق بروز الإرهاصات الأولى للمذهبيّة
الإسلاميّة؛ من سنّة وشيعة وخوارج (...)، وكانت كلّ فرقة
[تحاول أن] (...) تثبت جدارتها بتمثيل الإسلام والقيام
بشؤونه"()،
بناءً على أحقيّتها في تمثيل خطّ الرسالة وتشكيل الامتداد
الطبيعيّ له.
دور أسباب النزول في هذه المرحلة
إذًا
نشب
النزاع في هذه المرحلة على الحكم وخلافة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
فكان صراعًا سياسيًّا
محتدمًا احتاجت فيه الفرق إلى التسلّح بمختلف
أنواع
التجهيزات،
ولا شك أنّ أهمّها الاستعانة بأسباب النزول، الحُبلى
بالوقائعِ والأحداثِ المرتبطةِ بما كان يوحى إلى النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
والتي تُسعِف هذا الواقع، وتحسم عددًا كبيرًا من نقاط
النقاش، بحيث تشكّل هذه المرحلة امتدادًا لجهد النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
في مجال الحركة في إطار الأسباب، وبالتالي البناء على
اللبنة الأولى التي ثبّتها النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
في هذا المجال، ولكنّ الذي حدث هو شيء آخر تمامًا، حيث
يمكن اختصار
معالم أسباب النزول في هذه المرحلة بمسير وفق خطّين:
الخطّ الأوّل يتمثّل بالوقوف بوجه ظاهرةٍ
استجدّت في
هذا العصر،
وهي ظاهرة التجاهل والتنكّر لأسباب نزول القرآن وعدم
الاتّكاء عليها في استخراج تعاليم القرآن ومفاهيمه، خاصّة
بالنسبة لمسألة خلافة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
بما يؤكّد أنّ فريقًا من المتخاصمين متضرّر تمامًا من
وقائع
أسباب
النزول، فيما تخدم هذه الأسباب فريقًا آخر.
والخطّ الثاني يتمثّل
بما قام به الحريصون على الإسلام ومفاهيمه من محاولة إعادة
ترميم هيكل أسباب النزول، وذلك عن طريق
بثّ عدد منها في
المجتمع،
مع ما شاب ذلك من تحدّيات وظروف حسّاسة، جعلت هذا الأمر
محدودًا.
ونلقي في هذه المقالة الضوءَ على أسباب
النزول ضمن هذين الخطّين، لنضع هذه الأسباب في إطارها
الطبيعيّ.
أ- ظاهرة التنكّر لأسباب النزول
ظاهرة غريبة تستوقف معظم الباحثين في مجال
أسباب النزول، وتتمثّل بغياب روايات أسباب النزول المروية
عن أعلام الأصحاب رغم أهمية هذا الباب،
فبمراجعة
أمهّات الكتب الجامعة لأسباب النزول، ككتابي
الواحدي والسيوطي في جمع أسباب النزول، تدهشنا حقيقة أنّ
الأسباب المنقولة عن عيون الأصحاب لا تكاد تتجاوز عدد
الأصابع،
فيما جلّ الأسباب مروية عن التابعين ممّن ينتمون إلى مراحل
لاحقة من مراحل تاريخ الإسلام.
هذا الأمر رسم علامةَ استفهامٍ كبرى حول
هذا الموضوع: ففي هذا العصر المتعطّش إلى أسباب النزول،
أين اختفت الأسباب التي وضع الرسول
(صلى
الله عليه وآله)
لبنتها وركّز بنيانها؟
ليست المسألة هنا مجرّد توقّفات أو إشارات
لباحثين، بل المسألة أكثر جديّة ومصيريّة، فهي تنطوي على
أبعاد قد تكون مأساويّة بالنسبة لهذا البحث، لأنّ
أمير
المؤمنين(ع)()
يطرح مواقف صريحة تشير إلى حالة تجاهلٍ للأسباب وتنكّرٍ
لأبعادها الحقيقيّة، فما علينا سوى الإطلالة على بعض هذه
الأحاديث.
أمير المؤمنين (عليه السلام)وأسباب النزول
يظهر جليًّا في كلمات أمير المؤمنين (عليه
السلام) أنّ ما عاب هذه المرحلة في عالم أسباب النزول هو
تغاضي الصحابة عنها، وعدم تعرّضهم لها في تعاطيهم مع
القرآن وظروف الإسلام، على الرغم من ازدياد حاجة المجتمع
إلى المعرفة بأسباب النزول نتيجة الظروف التي
استجدّت
عقب وفاة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)()،
وهذا ما يمكن لمسه بمراجعة بعض الحقائق التي نقلها لنا
التاريخ، ولا سيّما من خلال متابعة كلمات هذا الإمام، حيث
يشير إلى هذه الظاهرة ويقف بشدّة لمنع انتشارها، ويمكن
تلخيص ذلك في ثلاث نقاط:
1 ـ الاحتجاج بأسباب النزول
أوّل ما يُطالعنا في هذا النطاق
ما يظهر من
احتجاجٍ
متكرّرٍ
لعليّ
(عليه السلام) بأسباب النزول
في محضر الصحابة، الذين يُفترض بهم أنّهم على
فقهٍ
وعلمٍ واسعٍ بهذا الباب ! ممّا يشير إلى بروز ظاهرة
التنكّر لأسباب النزول،
لا سيّما إذا تأمّلنا الصيغةَ واللهجة
الشديدة والمستنكِرة في بيان هذا المطلب، ففي الآية:12 من
سورة الحاقة، ينقل الأصبغ بن نباتة قول أمير المؤمنين
(عليه السلام): "ويل لهم، والله أنا الذي أنزل الله فيَّ
{وَتَعِيها
أُذُنٌ وَاعِيَة}()،
فإنّا كنّا عند رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
فيُخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا:
ماذا قال آنفًا؟"()،
فتعبيره بـ: "ويل لهم"، وكذلك قسمه "والله"، وتعريضه
بغيره، يشير إلى تلك الحقيقة الدفينة وتلك الظاهرة المشينة
التي تحدّثنا عنها.
ومن
ذلك
ما ورد عنه (عليه السلام): "..فهل فيكم أحدٌ أنزل الله
تعالى فيه: {أَفَمَنْ
كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون}()،
إلى آخر ما اقتصّ الله تعالى من خبر المؤمنين غيري؟!،
قالوا: اللهمّ لا"()،
وغنيّ عن البيان صيغة الاحتجاج والاستنكار التي يعتمدها
أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان سبب نزول هذه الآية،
ويبدو من خلاله واضحًا أنّه يخاطب من تغاضى عن مثلها
عامدًا.
كما نقلوا عنه أنّ رجلاً سأله وهو على
المنبر: ما نزل فيك أنت؟ -من القرآن-()،
فأجابه الأمير (عليه السلام): "أما إنّك لو لم تسألني على
رؤوس
الأشهاد
ما حدّثتك، ويحك هل تقرأ سورة هود؟! ثمّ قرأ عليّ (عليه
السلام): {أَفَمَنْ
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
مِنْه}()،
رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
على بيّنة، وأنا الشاهد منه"()...
فالمطالع
لهذه الروايات يلمس تأثّر أمير المؤمنين (عليه السلام) بما
يدور حوله من غضّ النظر عن
أسباب النزول المرتبطة بآيات
الوحي، خصوصًا تلك التي تمسّ جوهر الخلافة،
بما يعني ذلك من عمليّة تغيير لحقائق الإسلام ومفاهيم
وطبيعة مسيرته، وهذا ما يُفسِّر بوضوح ما ورد عنه (عليه
السلام) من استنكار حازمٍ لهذا الأمر في عدد كبير من أسباب
النزول.
2 ـ التعريض بالآخرين
في خطّ موازٍ
للوقوف
بحزم بوجه التغاضي عن أسباب النزول، يتحرّك أمير المؤمنين
(عليه السلام) اتجاه رجالات قريش فيُعرّض بهم بشدّة، وكان
هذا التعريض متّصلاً بأسباب النزول، فهو يذكِّر مَن غفل أو
تغافل، بأسباب النزول وأعلامها الممدوحين أو المذمومين؛
إذ
الكلّ مشترك فيها!
فقد رُوي عن جابر عن عبد الله بن يحيى قال:
"سمعت عليًّا (عليه السلام) وهو يقول: ما من رجل من قريش
إلا وقد أنزلت فيه آية أو آيتان من
كتاب
الله..."()،
وروى عُبّاد بن عبد الله الأسدي أنّه سمع عليًّا يقول مثل
ذلك وهو على المنبر()،
فعليّ (عليه السلام) يقف مذكّرًا لمن خاف الآخرة أو خاف
وعيد، داعيًا الناس إلى البحث عن هذه الآيات وأسباب
نزولها.
وكذلك قوله المتقدّم: "فهل فيكم أحدٌ أنزل
الله تعالى فيه:
{أَفَمَنْ
كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون}()،
إلى آخر ما اقتصّ الله تعالى من
خبر
المؤمنين غيري؟ قالوا: اللهمّ لا"()،
في تنبيه وتعريض واضح.
ولعلّ الهدف الأساس من هذه التساؤلات،
والتي هي من نوع الإقرار، هو التهديد المبطّن لبعض رجالات
قريش ممّن ظهر بعد وفاة الرسول
(صلى الله عليه وآله)،
وأمام جيلٍ إسلاميٍّ حديث لم يتسنَّ له مصاحبة الرسول ولا
الاطّلاع على ظروف المرحلة السابقة، بصورةٍ غير صورتهم
الحقيقيّة وبسيرةٍ غير السيرة التي تحكيها
أسباب النزول، طمعًا في ارتقاء مناصب قياديّة، فكان ذلك من
الأمير (عليه السلام) تنبيهًا لهم وتذكيرًا بماضيهم، حتّى
لا يتنكّروه في هذه اللحظات الحسّاسة، ولا
يخلو ذلك من
حثٍّ للناس على العودة إلى أسباب النزول
المغيّبة عن الساحة ـ على ما يبدو ـ لكشف هذه الحقائق.
3 ـ تأكيده على ضرورة العودة إلى الأسباب
إضافة إلى ما مرّ، يلفت المتابعَ ما أُثِرَ
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)،
من تكرارٍ
وتأكيدٍ
على رَبط العلم بالقرآن بالعلم بأسباب النزول، في صيغة
لا
تخلو هي الأخرى من إشارات إلى أنّ ثمّة فاصلة حدثت بين
القرآن وأسباب النزول في تلك الفترة.
فعندما حاول
البعض أن يتعرّض للأمير (عليه السلام)،
بأنّه لا يُحسن كثيرًا من القرآن كان جوابه واضحًا في هذا
الإطار، قال: "ويل لهم إني لأعرف ناسخه من منسوخه، ومحكمه
من متشابهه، وفصله من فصاله، وحروفه من معانيه، والله ما
من حرف نزل على محمد
(صلى الله عليه وآله)
إلا أني أعرف فيمن أنزل، وفي أي يوم، وفي أي موضع..."().
كما
ورد
أنّه (عليه السلام) كان يقول: "ما نزلت آية إلا وأنا علمت
فيمن أنزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إنّ ربي وَهَبَ لي
قلبًا عقولاً ولسانًا طلقًا"().
وقوله (عليه السلام): "ما نزلت من القرآن
آية إلا وقد علمت أين نزلت، وفيمن نزلت، وفي أيّ شيءٍ
نزلت، وفي سهلٍ نزلت أو في جبل"(]).
وبهذا المعنى مجموعة من الروايات ضمّتها
كتب التفسير والحديث وغيرها()،
وكلّ ذلك يشير إلى محاولة عليّ (عليه السلام) تركيز فكرة
في
أذهان الناس، وهي تقوم على أساس أنّ العالم
الحقيقيّ بالقرآن هو العالم بأسباب نزوله، ولعلّ هذه
الفكرة الواضحة لم تكن بحاجة إلى تأكيد وتكرار من الأمير
(عليه السلام)،
بل هي ليست بحاجة للتنبيه عليها أصلاً لولا تلك الفاصلة
التي حدثت بين القرآن وأسباب نزوله في هذا العصر،
وإذا ضممنا إلى ذلك مجموعة الروايات التي احتجّ فيها
بأسباب النزول، وبطريقة تنبيهه على تلك الغفلة والجهل بهذه
الأسباب والوقوف في وجه ذلك،
تظهر الصورة جليًّا ويتبيّن أنّ المجتمع الإسلامي كان يبعد
شيئًا فشيئًا عن أسباب النزول بشكل غير مبرّر.
وبالفعل فإنّ المريب في هذه المرحلة أنّه
عدا حركة أمير المؤمنين
(عليه السلام)
ومن يدور في فلكه كابن عبّاس، فإنّنا لا نلاحظ أيّ توجّه
في إطار
الأسباب،
ولا يمكن رصد أكثر من بعض الحركات الخجولة جدًّا بالقياس
إلى أهميّة هذا المطلب، لذا
لا
نجد من الأسباب ما
نُقل
عن وجوه الصحابة ـ غير عليّ (عليه السلام) ـ، بل النقل عن
مختلف الصحابة لا يخلو من ندرة في هذا المجال()،
وهذا يؤكّد أن حركة
تجاهلٍ
واسعة قد تعرّضت لها
الأسباب في هذه المرحلة، وهذا
ما
وقف بوجهه أمير المؤمنينّ (عليه السلام)،
وفق ما ظهر من كلماته ومواقفه.
ب ـ حركة نحو التأسيس
لم يقتصر دور
الإمام عليّ (عليه السلام)
على انتقاد الواقع الذي آلت إليه أسباب النزول، بل تعدّى
ذلك إلى محاولة ترميم هيكليّتها، من هنا نرقب حركةً
ملحوظةً للأمير
(عليه السلام) ساهمت
شيئًا ما في سيرها التصاعديّ،
حيث
راح يبثّ بعض الأسباب بحسب مقتضيات المرحلة وبما يلائم
الظروف
الموضوعيّة لتلك الفترة التاريخيّة
الحسّاسة، ونشير فيما يلي إلى مجموعة من الأسباب المرويّة
عنه:
فقد تقدّم ما
رواه
من نزول الآية: 12 من سورة الحاقة، والآية: 18 من سورة
السجدة، والآية 17 من سورة هود فيه.
كما نقلوا عنه
نزول الآية: {إِنَّما
أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}()،
في الرسول
(صلى الله عليه وآله)
وفيه (عليه السلام)
().
ورووا عنه
نزول
الآية: {مِنَ المُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدوا اللهَ عَلَيْه فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}()،
فيه
وفي
عمّه حمزة، وأخيه جعفر، وابن عمّه عبيدة بن الحارث().
كما ورد عنه
نزول:
{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ
تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ}
()
في بني أميّة().
وسبب نزول
الآية:
{وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُم جَمِيعًا
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين...}()،
حيث
أجاب الرسول
(صلى الله عليه وآله) من قال
له: لو أكرهتَ من قَدرت عليه من الناس على الإسلام، لكَثُر
عددنا وقَوِينا على
عدوّنا،
بأنّه:
"ما كنت لألقى الله تعالى ببدعة لم يُحدِث لي فيها شيئًا،
وما أنا من المتكلّفين"().
وممّا نُقل
عنه (عليه السلام) سببُ نزول الآية:
{يَا
أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذوا عَدُوِّي
وَعَدْوّكُم أَوْلِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِمْ بِالمَوَدَّة}()،
وذلك عندما أرسل رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
مجموعة من المسلمين في أثر ظعينة كانت تحمل كتاب حاطب بن
أبي بلتعة إلى المشركين
يُحذّرهم قدوم النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
().
وكذا أسباب
نزول أخرى كالتي ينقلها السيوطيّ عن ابن
عساكر عن عليّ (عليه السلام) في الآية:{وَإِذا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي...}()،
وعن ابن مردويه عنه (عليه السلام) سبب نزول: {الرِجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِسَاء}()،
وكذلك قضيّة الصدقة بين يدي الرسول
(صلى الله عليه وآله)
عند مناجاته، ونزول الآية:
{أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَات}().
إلى غير ذلك
من الأسباب التي رُويت عنه سلام الله عليه().
أثر حركة أمير المؤمنين (عليه السلام)
أثّرت حركة أمير المؤمنين ع، في الوقوف
بوجه التنكّر لأسباب النزول بل والتأسيس لمرحلة جديدة
فيها، أثرًا جليًّا في المجتمع، ويتّضح ذلك، من
خلال
بروز ظاهرة السؤال عن أسباب النزول بالنسبة للآيات
المختلفة،
وهذا يُعدّ مَعْلَمًا مميِّزًا لهذه المرحلة يمكن للباحث
أن يُسجّله، مع ما يعنيه ذلك من تأثّر المجتمع بحركة عليّ
(عليه السلام)
ولو ضمن حدود معيّنة،
ومن نماذج ذلك:
ما رواه الشيخ
المفيد في الاختصاص: عن ابن كدينة الأودي،
قال: قام رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)،
فسأله عن قول الله"عزّ وجلّ":
{يَا
أَيُّها الذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدي اللهِ
وَرَسُولِه}()،
فيمن نزلت؟، قال (عليه السلام): "في رجلين من قريش"().
وروى ابن شهراشوب في المناقب: عن عبد خير،
قال: سألت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقَاتِه...}()،
قال (عليه السلام): "والله ما عمل بها غير أهل بيت رسول
الله، نحن ذكرنا الله فلا ننساه... فلما نزلت هذه الآية
قالت الصحابة:
لا
نُطيق ذلك، فأنزل الله تعالى: {فَاتَّقُوا
اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}()"
().
ولكن يبقى سؤال يمسّ صميم هذه المرحلة
الحساسّة، وهو: إلى أيّ مدى كان عليّ (عليه السلام) مطلق
اليد في التعامل مع الأسباب، وهل كان بالإمكان
أن
ينطلق ويحلّق في هذا الباب حيث يشاء؟!، وبالتالي هل من
معوّقات وقفت حاجزًا أمام سير علم أسباب النزول قُدُمًا في
هذا العصر؟!، هذه المشكلة لا بدّ من طرحها ليكتمل البحث عن
هذه المرحلة في عالم أسباب النزول، وهو ما نقوم به في
الفقرات اللاحقة.
ج ـ معوّقات في وجهِ التأسيس
ثمّة قضيّة
لافتة
تستوقف الباحث في مجال أسباب النزول في هذه الفترة، ذلك
أنّ المراجع لروايات أمير المؤمنين
يجد أنّه
(عليه السلام)
يتجنّب
بيان أسماء من نزلت بشأنهم الآيات،
كالذي تقدّم
حين سأله أحدهم عن قول الله"عزّ وجلّ":
{يَا
أيُّهَا الذِينَ آمَنوا لا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدي الله
وَرَسولِه}()،
فيمن نزلت؟،
فإنّ الإمام
(عليه السلام)
قد اقتصر في جوابه على قوله:
"في رجلين من قريش"()،
كما قد مرّ في بعض الأحاديث السابقة.
بل يظهر منه أكثر من ذلك، حيث يؤكّد،
وفي أكثر من مناسبة، على أنّه لو لم يُسأل عن سبب النزول،
لما تعرّض إلى بيان ذلك:
فقد رُوي أنّهم سألوه مرّة: ما نزل فيك؟
فأجابهم: "لولا أنّكم سألتموني ما أخبرتكم..."().
ونقلوا في مورد آخر أنّ رجلاً سأله وهو على
المنبر: ما نزل فيك أنت؟ ـ من القرآن ـ()،
فأجابه الأمير (عليه السلام): "أما إنّك لو لم تسألني
على
رؤوس الأشهاد ما حدّثتك"()...
هذا كلّه يبيّن
أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) لم يكن في روايته أسبابَ
النزول في مقام استقصائها،
بل
لم يكن بصدد إشاعة هذه الأسباب ونشرها
بشكل
واسع،
وقد
اقتصرت
حركته
على نقل ما فيه بيان حقائقَ تدخل في إطار
تقويم ما حصل من تشويه أو تشويش مرتبط بأمور مصيريّة، لمن
يريد من الناس أن يستضيء بنور كلماته، كلّ ذلك مع مراعاة
الظروف الموضوعيّة والحسّاسة في ذلك الزمان.
والسؤال
الذي
يجول في الخاطر أنّه:
مع إدراك أهميّة أسباب النزول والتأكيد على دورها
وارتباطها بالقرآن الكريم، فما
هو الداعي
إلى هذا الموقف؟! وبالتالي لماذا لم يقم
بإشاعة قدر أكبر من أسباب النزول؟!
عوائق إشاعة الأسباب
لعلّ أهمّ
العوائق
التي حالت دون إشاعة ونشر أحاديث هذا الباب تتمثّل في
أمرين:
أوّلاً: موقف حسّاس في لحظة حاسمة
مرّت
الدعوة
الإسلاميّة في فترة ما بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) بموقف
دقيق في تلك اللحظة التاريخيّة:
فقد
كان
المشركون
يتربّصون بالإسلام الدوائر بعد وفاة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
حيث كانوا يتحيّنون فرصة وفاة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
لينعوا الإسلام بوفاة
رسوله،
وهذه الحقيقة استوجبت عدم إثارة بلبلةٍ
في صفوف المسلمين قد تُفكّك
أواصرهم، ما أمكن.
من هنا كان
الإمام (عليه السلام) يَحذر الفتنة ويحاول
أن يقي الإسلام شرّها، وهذا ما أشار إليه في قوله: "لأسالمنّ
ما سلمت أمور المسلمين"()،
هذا من جهة.
من جهة أخرى فإنّ الداخل الإسلاميّ لم يكن
محصّنًا بما فيه الكفاية، ذلك
أنّ عددًا كبيرًا من المسلمين كان ما يزال جديد عهد
بالإسلام، ويُخشى
عليه
الارتداد وما شابه فيما لو أُثير لغط كبير حول رجالات
الصحابة، الذين كانوا يمثّلون له القدوة باعتبارهم الجيل
الأوّل الذي ذاق حلاوة معاصرة رسالة السماء ورسول الإسلام
(صلى الله عليه وآله)().
لذا يرى السيّد جعفر مرتضى، في معرض حديثه
عن علّة عدم إيراد الأسباب في القرآن الكريم أنّها: "سوف
توجب للقارئين مشاكل كثيرة مع أولئك
الذين يرون أنّ سلفهم هذا، رغم انحرافاته
وجناياته، لا بدّ أن يبقى هو المثل الأعلى للناس، ولا بدّ
من ضرب كلّ من يحاول المساس به، من قريب أو بعيد، حتّى ولو
كانت المحاولة تأتي من قبل أقدس شخصيّة (...)، ولذا فإنّ
الجهر بأسرار كهذه فيه خطر كبير ومهالك عظيمة..."().
مثل هذه الوقائع ـ تربُّص المشركين وعدم
إثارة البلبلة في صفوف المسلمين ـ كانت تستدعي تجاوز
مجموعة كبيرة من الأسباب، لا سيّما في مجال
بيان
الأعلام المرتبطين بها على نحو الذمّ.
وهذا الأسلوب لا بدّ منه اللهم إلا إذا
تعارض مع واجب
بيان بعض الحقائق والمفاهيم الإسلاميّة الأصيلة، والتي
يؤدّي الجهل بها إلى انحراف
مسيرة
الدين، وهذا
كان
يضطّر
الإمام
(عليه السلام) إلى: "أن يُعرّف
الناس على المخلِص والمزيّف، وعلى الصحيح والسقيم، ويقطع
الطريق
على المستغلّين وأصحاب الأهواء من النفوذ إلى المراكز
الحساسّة ثمّ التلاعب بالإسلام وبمفاهيمه وقيمه..."().
فكانت نتيجة الموقف المسؤول لأمير المؤمنين
(عليه السلام)،
هي التوازن في بيان الأسباب، بحيث ينسجم موقفه مع مصلحة
الإسلام العليا في
ظرفٍ
استثنائيّ من جهة، وبما يكفل استمرار تداول هذه الحقائق
والمفاهيم على مرّ الأجيال من جهة أخرى().
ثانيًا: مقتضيات فرضها القرآن وأَمْلَتْها
السنّة
الأمر الآخر الذي
كان يحول دون
إشاعة الأسباب
بشكل واسع،
هو
مسألة الاقتداء
بسيرة رسول الله
(صلى الله عليه وآله)،
الذي تخلّق
بأخلاق
القرآن، والتي تقوم على
أساس
عدم فضح المنافقين، وغيرهم ممّن ستر القرآن أسماءهم،
فـ:"إنّ سيرة النبي
(صلى الله عليه وآله)
مع المنافقين تأبى ذلك، فإنّ دأبه تأليف القلوب، والإسرار
بما يعلمه من نفاقهم، وهذا واضح لمن له أدنى اطّلاع على
سيرة النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
"()،
ولا يُقاس ذلك "بذكر أبي لهب المعلن بشركه ومعاداته للنبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
مع علم النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
بأنّه يموت على شركه"().
ولا شكّ أنّ عددًا كبيرًا من أسباب النزول،
ترتبط بالمنافقين وأسمائهم، وهذا ما يجب تجنّبه، وقد صرّح
صلوات الله عليه بذلك حين قال: "ولو
شئت
أن أسمّي القائلين بأسمائهم لسمّيت وأومأت إليهم بأعيانهم،
ولو شئت أن أدل عليهم لدللت، ولكني في أمرهم قد تكرّمت..."([56])،
اللهم إلا فيما من شأنه التعريف بحقائق ومفاهيم من
الضروريّ أن يعتقد المسلم بها، وكذلك ما يرتبط ويؤثّر على
حالة الدعوة الإسلاميّة في مختلف الفترات والأزمنة.
هذا
الأمر
بلا شكّ قد منع من وصول عدد كبير من أسباب النزول، ومن عدم
إشاعتها في المجتمع.
وقفة مع مصحف عليّ (عليه السلام)
ختامًا لهذه
المرحلة،
لا بدّ أن نلقي ضوءًا على مسألة مصحف عليّ (عليه السلام)،
وما يُنسب إليه من دور على صعيد
أسباب النزول.
فقد
جمع
عليّ
(عليه السلام)،
بعد وفاة الرسول
(صلى الله عليه وآله)،
القرآنَ
في كتاب عُرف بمصحف عليّ، وقد بيّن في هامش الآيات شيئًا
من تفسيرها، كبيان المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ...
ولا كلام في أنّه (عليه السلام) قد تعرّض
في كتابه
لبعض أسباب النزول،
وذلك
في معرض بيانه لعدد من الآيات
()،
ولكنّ الكلام في أنّه هل
صحيح
ما يظهر من بعض الباحثين من أنّه (عليه السلام) استقصى تلك
الأسباب، وأنّه جعلها بابًا مستقلاً
بحدّ ذاتها
فأوردها
منفصلة
في مصحفه()،
ليكون بذلك أوّل من جعل هذا الباب مستقلاً، وأوّل من دوّن
كتابًا فيه؟
في
الحقيقة
أغلب الشواهد تشير إلى خلاف ذلك:
أوّلاً:
قد
مرّت الإشارة إلى
تأكيد
أمير
المؤمنين
(عليه السلام)
غير مرّة على
عدم رغبته في إشاعة أسباب النزول ونشرها بشكل واسع، لما
تقدّم من الموقف المسؤول في تلك الفترة الحساسّة
والمصيريّة من تاريخ الإسلام،
فكان يُجيب حين
يُسأل عن الأسباب: "لولا أنّكم سألتموني ما
أخبرتكم..."()...
ثانيًا:
إنّ ما رُوي
عن
عليّ (عليه السلام) في تعريفه بمصحفه ليس فيه ما يشير إلى
ذلك المطلب، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف
كتابه: "ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل
والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط
منه حرف"().
ثالثًا:
لم تظهر
فكرة
أنّ مصحف عليّ (عليه السلام) قد خَصّ أسباب النزول بذاك
الشكل إلا في فترة متأخّرة، وذلك بعد أن شاع هذا العلم عند
أهل العامّة، فبينما لا نرى مثل الشيخ الصدوق والشيخ
المفيد يأتي على ذكر ذلك عند حديثه عن مصحف عليّ (عليه
السلام)،
نرى المتأخّرين هم من حاول استفادة هذا المعنى؛ فما يذكره
الصدوق في الاعتقادات حول هذا المصحف هو نَقْل
ما رُوي عن عليّ (عليه السلام): "قال أمير المؤمنين (عليه
السلام)،
لمّا جمعه، فلمّا جاء به فقال لهم: هذا كتاب الله ربّكم
كما أُنزل على نبيّكم، لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف"()،
وغاية ما يذكره المفيد أنّ "عليًّا (عليه السلام) كتب في
مصحفه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل"()،
وأنّه (عليه السلام): "قدّم المكيّ على المدنيّ، والمنسوخ
على الناسخ، ووضع كلّ شيء منه في محلّه"(]).
ونُقل عن ابن سيرين
قوله:
"إنّ عليًّا كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وعنه تطلّبت
ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه"().
رابعًا:
إنّ الشواهد تُشير
إلى أنّ استقرار هذا العلم قد تأخّر عقودًا
عن تلك الفترة التي عاش فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)
حياته المباركة، كما سيأتي.
خامسًا:
وهذه ملاحظة عامّة، يمكن أن تُسجّل بالنسبة لمجمل هذه
الفترة، ذلك أنّه لم يرد في أيّ من الوثائق التي
ارتبطت بهذه
الفترة مصطلح خاصّ بعلم أسباب
النزول، لا بعنوان "سبب النزول"، ولا بأيّ
عنوان غيره، بل إنّه يرد تارة بتعبير: "فيمن نزل"، وأخرى:
"في أيّ شيء نزلت" أو "فيمَ أنزلت"، وثالثة: "على من
نزلت"، فيما ترد على ألسنة السائلين بصيغة أعمّ: "سألته عن
قوله تعالى".
وكذلك لم يُفْصَل
عنوانُ
"أسباب
النزول" عن بقيّة عناوين تفسير القرآن الأخرى، وإنّما ترِد
جنبًا إلى جنبٍ بلا تمييز بينها، فتارة يرد: "..فيمن
أنزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت..."()،
وأخرى: "أعرف فيمن أُنزل، وفي أيّ يوم، وفي أيّ موضع..."()،
وثالثة: "..أين نزلت،
وفيمن نزلت، وفي أيّ شيء نزلت، وفي سهل
نزلت أو جبل"()،
فيما نرى أنّه قد تمّ فصل مثل عناوين الناسخ والمنسوخ،
والمحكم والمتشابه، في نفس تلك الأحاديث، بشكل واضح(]).
مع هذه الحال لا يمكن
أن نطمئنّ إلى أنّ أمير المؤمنين (عليه
السلام) قد ذكر كلّ أسباب النزول المرتبطة بالآيات
القرآنيّة، وأنّه جعلها تحت عنوان
مستقلّ
خارج إطار التفسير العامّ للآيات؟!،
وغاية الأمر أنّه تعرّض لبعض الأسباب عندما اقتضت المصلحة
ذلك عند بيان وتفسير بعض الآيات، وبما ينسجم مع الموقف
العامّ الذي اتّخذه في تلك الفترة، وذلك
إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّ هذا الباب لم يستقرّ بعد
ضمن بابٍ مستقلٍّ، ولم يأخذ عنوانًا خاصًّا حتّى تاريخه.
وتكون النتيجة أنّ مصحف عليّ (عليه السلام)،
لم يخرج عن الإطار العامّ لحركة أمير المؤمنين (عليه
السلام) في مجال أسباب النزول، من الإشارة إلى
ضرورة
الاطّلاع عليها، وأنّها يمكن أن تحدّد مسار الإسلام بعد
الرسول
(صلى الله عليه وآله)،
بالإضافة إلى التعريض بمن حاول أن يتجاهلها أو يتغاضى عنها
في مرحلة كان المجتمع فيه بأمسّ الحاجة إليها، أمّا دعوى
استقلال الأسباب بعلم خاصّ به على يد أمير المؤمنين
(عليه السلام)،
فهي دعوى بعيدة المنال.
تقييم المرحلة
في مجال تقييم هذه
المرحلة
يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
إنّ أبرز ما يميّز
هذه
المرحلة هو
بروز ظاهرة تحاول
تسيير أمور الإسلام وفهم القرآن،
على أساس
التغاضي عن أسباب النزول، ويمكن أن نقول بأنّ الأسباب قد
تعرّضت لمحاولة تجاهل منظّمة، وقد كان دور أمير المؤمنين
(عليه السلام)
الوقوف بوجه هذا الأمر، والتأكيد على ضرورة الرجوع إلى
أسباب النزول.
بالإضافة إلى
ذلك،
نلاحظ أنّ أمير المؤمنين
(عليه السلام)
قد قام في هذه الفترة بنشر مجموعة من
روايات أسباب النزول، بما يتناسب مع الظروف الموضوعيّة.
فما هو مسلّم أنّ الأمير
(عليه السلام)
قد رفع من شأن أسباب النزول وأثْرى هذا
الباب، في وقت كانت تفقد الكثير من رصيدها، بسبب عدم عناية
كبار
الصحابة
بها.
في المقابل، لم يرد حتّى هذا الزمان، في
أيٍّ من الوثائق التي وصلتنا، مصطلح "سبب النزول"، بل لم
يستقرّ لهذا الباب مصطلح معيّن، فورد بتعابير مختلفة، كما
أنّ هذا الباب لم يُفْصَل
عن الأبواب والعناوين التفسيريّة الأخرى، حتّى في روايات
الأمير
(عليه السلام)
التي أشارت إلى أهميّة الاطّلاع على
الروايات المرتبطة بأسباب النزول، وإنّما ورد مقارنًا
لغيره من أبوابٍ وفروعٍ مرتبطة بالقرآن، بلا تمييز ظاهر
بينها.
وفي النتيجة بدا أنّ حركة أمير المؤمنين
(عليه السلام)
في مواجهة تجاهل الأسباب من جهة، وبثّ عدد
من أسباب النزول من جهة أخرى، قد زرعت بذور الاهتمام بهذا
الباب، ممّا ألهم اللاحقين تأسيس وتكوين باب بهذا المعنى،
فكانت هذه المرحلة تقوم على ثنائيّة الوقوف بوجه التنكّر
للأسباب
وبوادر التكوّن والتأسيس.
* * *
|