أما الشاعر، فالحديث عنه، تنقلُك أطرافه إلى حيث التجلّي
صفة من صفات المبدعين الكبار، هو شاعرُ الملاحم،
والمطولات، والمذّهبات، لا تخرج القصيدة من تحت أنامله،
إلا تحفةً فنيّة، تضاف إلى متحف الإبداع الإنساني الخالد.
وأما اللُّغة فعجينةُ تَبْرٍ، والكلماتُ عرائسُ وَجد، ترفل
هانئةً في عرس الوجود...
وأما المربّي فحدِّث بنعمة التربية الحقيقية التي خَرَّجت
أجيالاً من الرجال المميزين والقياديين الذين تسلّحوا
بالمُثُل وبالعلم وبالمعرفة الشاملة..
كان أستاذ اللغة العربية في الجامعة اللبنانية -فرع
البقاع- كما درّس في دار المعلمين والمعلمات في زحلة، فكان
مرجعًا لغويًا فريدًا..
وأما الناقد فهو الذي ما تناول موضوعًا من الموضوعات
الأدبية أو الفنية إلا وغاص في جمالاته، وأضاء عليه وغضّ
الطرف عن نقاط الضعف وأخطاء اللغة والطباعة، حسبه في ذلك
أنه صاحب المدرسة النقدية التي تقول :
"إنَّ نقدَ الجمالات أخصبُ من نقد العيوب"
فهو ما جرح شعور كاتبٍ أو شاعرٍ أو أديب، بل كان الموجِّهَ
والمرشد..
وأما الإنسان، فسبحان الخالق العظيم على هذا الخَلْقِ
والخُلق، فقد خصَّه الله سبحانه وتعالى بحدسٍ صافٍ ورؤيةٍ
صائبةٍ، وإيمانٍ لا يتزعزع ما قرَّبه من الأولياء
والصالحين، فكان رقيقًا مثل قميص الفجر، عذب الروح مثل
الماء الزلال، جمَّ التواضع كبنفسجةٍ تبوح بأسرار الخلق
ونِعَمِ الخالقِ كلما لامستها نسمة هواء..
ولعلّ إنسانيته ومحبّته قد جعلتاه يضحّي بكل ما هو مادّي
في سبيل الإنسان، ما قصَده طالب حاجةٍ، إلا وحصل على
مبتغاه. هذه الصفات النبيلة قرّبته كثيرًا من الإمام علي
بن أبي طالب × فإيمانه بالإمام وهو الماروني الزَّحلي،
فاقَ إيمان الكثيرين من المسلمين بهذه الشخصية الفذّة التي
لا تتكرّر في تاريخ الإنسانية..
تحوّلت علاقته بالإمام إلى نوع من التجلّي والانصهار
الروحي، فغدا اسم عليّ على لسانه، تسبيحًا وتسليمًا. وكان
أن أصابه داء في الساق أقعده، وقرّر الأطباء بَتْرَ
السّاق، وقد روى لصفيّهِ الشاعر نجيب جمال الدين وشريكه في
حبّ الإمام وقائع تجربته هذه، فقال :
" بقيت يا صاحبي عشرة
أيام، ورجلي هذه، وأشار إلى اليسرى، مرفوعة إلى
العلاء بحبل، بعد أن احتبس فيها الدم واعتصم، وأبى
أن يدور، وذلك بسبب انخفاض السكر أو ارتفاعه لا
أدري... وتهدّد الجسد كلّه، لا الرجل، عندها اجتمع
الأصدقاء من الأطباء إليّ في البيت، وكان القرار
بالقطع...
ولم أعترض إنما قلت : لديّ مشوار إلى عليّ()،
فإن قطعتم، فكيف أمشي؟
ولم يفهموا.. إلا صديقتك جورجيت -يعني السيدة
قرينته- فقد قالت : كفى بربك ! ودعنا الآن من
الشعر، فالمسألة فيها حياتك، يعني نحن جميعًا!
وأجبتها : ولأنها كذلك، فهذا موقفي !
وأكمل :
ثم انصرفوا، وبعد يوم واحد، فككت رجلي من المشنقة،
وقمت ولم أعُدْ بعدها للفراش... أفلا ترى أن
الإمام هو الذي أمرني بالرحلة، فكيف أتخلّف ! ثم
إلا ترى أنه كان كما يجب، فكيف لا أكون كما
يُحبُّ، وبخاصة كما يجب ؟!
وأضاف: يا أبا فيصل، لن توحش الطريق، ما دام فيها
ذلك الرفيق!.."().
عندها بدأ بكتابة ديوانه الشهير : "في محراب عليّّّ"()
هذا الكتاب هو حصيلة إيمان رؤيوي لشاعر، ربما كان آخر
العمالقة من شعراء الملاحم في هذا العصر..
قيل الكثير في خليل فرحات، الشاعر والمربّي والناقد
والإنسان. لكنَّ الذي لم يُقَلْ فيه هو أكثر بكثير مما
قيل، ولهذا نستعيد ذكراه في الكتابة عنه، وبخاصة عن
مُذَهّبتِه الشعرية : " في محراب عليّ "
إنها حقًا مفخرة الشعر العربي من آخر ماردٍ في هذا الزمن
القزم.
خليل فرحات !
هنيئًا لك في المحراب، وهنيئًا لنا أننا عرفناك عن قرب،
وعشنا معك رُبْعَ قرنٍ من الزمن، لم تكن مُدّة كافية
لنستزيد من معين شعرك الصافي، لقد علمتنا الحبّ والإيمان
والصدق، وأدخلتنا معك إلى محراب عليّ وأنت الماروني
المؤمن، فكنت برائعتك هذه دليلاً للكثيرين من المفكّرين
والمثقفين المسلمين وغير المسلمين، إلى المحبّة المطلقة
للإمام الذي لا يتكرّر.. طيّبَ الله ثراك ونوّر مثواك .
مقتطفات من ديوان "في محراب عليّ"
قصيدة بعنوان : " المحبة أقوى "
أميرَ المَلا .. ماذا ؟
عَطَفْتَ على الملا !
غَداةَ بُغَاثُ الطّيرِ في ملعبِ النَّسرِ !
أرادوكَ في الجُلَّى
لِتدفعَ عنهمُ ...
وعند اقتضاءِ الحقِّ
نالوكَ بالشَّتْرِ !()
وأَمْعَنَ طمَّاعٌ
وباعدَ كارِهٌ
وأخلّفَ وعَّادٌ
وأَقْصَرَ ذو بَرِّ
وظنَّ الألى أمُّوا "السقيفةَ"()
أنهُ سيلجأُ ...
رِئْبَالُ()
الرُّجولةِ
للزَّأرِ ...
ولكنَّ للأرحامِ وَصلاً
وللعُلى خِلاقًا
وللإسلامِ حقًا ...
... على الحرِّ
وظلّ بمنأى ،
عن غَوَاياتِ سُلطةٍ ،
أمينًا على كِبْرِ العزيمةِ ،
ذو الكِبْرِ !
وظلَّ ، بلا حقٍّ
إلى جنبِ ربِّه
وظلُّوا بلا ربٍّ
على الجانبِ المزري ! ()
أقاموا عليك الحدَّ()
... ظلمًا
فهل دَرَوا
بأنَّ حدودًا منكَ
فيهم سَتَسْتَشري ؟ ()
وغايتُكَ المُثلى
بقاؤك هاديًا
تُعمِّرُ أرواحَ العِطَاشِ
إلى العَمْرِ !
من قصيدة " على دروب النهج"
.... ....
كلامٌ كوجهِ السَّعْدِ
طارِفُ ()
لَفظِهِ
وتالِدُهُ ()
كالكنزِ ...
في أَمْنعِ الجُزْرِ
يُريكَ ، بلا حَصْرٍ
عجيبًا من الرُّؤى
ويُسمعُ فذَّ النَّغْمِ ، أيضًا
بلا حصْرِ
وتأخُذُكَ الآياتُ ،
بعضٌ معَ المَدى ،
وبعضٌ إلى الفِردوسِ ،
فالعرشِ ، فالسِّدْرِ()
كأنَّ بُنَى التركيبِ
رَفٌّ بأجْنُحٍ
وضرْبٌ من الأرياحِ
ترْفُقُ بالسَّفْرِ()
يحارُ بها المأسورُ
هلْ كانَ أَسْرُهُ
منَ النَّغَمِ المسحورِ
أم شِدَّةِ الأسرِ ؟ ()
مَقاصيرُ للنجوى
بها تُحرمُ الرؤى
كما يُحرمُ العُبادُ
في هيكلِ السِّحر !
هو النهج
... مِعراجٌ جديدٌ إلى السما !
بل النهجُ مِعراجٌ()
إلى قلبكَ العُذري !
وما النهجُ والقرانُ ...
إلا تلازَمَا
وإن يكن القرآنُ
أنأى()
عن الشعر
وما عَجَبٌ ؟
فالعارفون توافقوا
على أنه ظِلُّ الألوهةِ
في القَدْرِ ...
وفي النهجِ ...
أشياء الأناجيل جُملةً !
وليس يَحَارُ المرءُ
في المُلهمِ السِّري
بيانك لم ينهَضْ
لِكسفِ بيانِها ...
ولكنّكَ النَّقَّاشُ
يَخلُدُ في الصخرِ ...
بعينيَّ أفدي النّهجَ ...
إني ربيبُه!
فوَجْدٌ كلا وجدٍ
ودَرٌّ كلا دَرِّ !
تَتبَّعْتُهُ ، واللهِ
حتى رأيتُني
مليكَ ملوك الفِكرِ
والكَلِمِ البِكرِ
فأنت بِقَصْرِ القولِ
وحدَكَ رَبُّه
وكلُّ ملوك القولِ
من خَدَم القصْرِ ...
من قصيدة : " على الصراط"
وليِّي وليُّ النهجِ ...
دُنيايَ بيتُه
وصحْبٌ له عالونَ
في مُعجِزِ السِّفرِ
أراني على بِشْرٍ
إذا ضمني لهم مَعَادي ،()
وإلا ...
فالجُفونُ على عَبْرِ()
حسينٌ ، أبو الأبرارِ ،
سيد رحلتي
خلالَ دهاريري المُحمْلقةِ
الخُزْرِ()
وفي النفسِ نُعمَى
أنني اليوم داخلٌ
إلى حرم الأسيادِ
والعِترةِ الطُّهرِ
أجوزُ مجازَ النورِ
حتى يقودَني
إلى مِنبرِ التكوينِ
علاّمةُ النَّبْرِ
هنالك مَلقايَ الضمائرَ
حُرَّةً ...
هناك خلاصُ الروحِ
من ليلها الغَمْرِ ! ()
هنالك " للزهراءِ "
عَرشٌ مُؤَثَّلٌ
وهَنَّا لها زُهرٌ ..
يُجَلْبِبْنَ بالفخرِ
.... ....
قصيدة : "السُّكْر المقدس"
حَبَبْتُ عليًا ،
بل عبدتُ صِفاتِه !
بلى ... تَعبُدُ العطارَ
قارورةُ العِطرِ !
فيا سيد النهج العظيمِ
ترَفَّقنْ
بأحلاميَ السَّكْرى
وسبحان ذا السُّكرِ
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|