النموذج الثالث: تزييف الحقائق - تزوير النصوص
يقول شريعتي في كتابه "الأمة والإمامة": ((علم الأخلاق هو
العلم الذي يدرس [كيف يجب أن يكون] والإنسان لا يعرف ذلك!
فقد أضحت الأسس البديهية للفضائل الأخلاقية مورد تشكيك
وتردد في عصرنا الحاضر. بل نجد شخصية كسارتر يهاجم أعزّ
وأقدس المسائل الأخلاقية التي
يعتقد بها الجميع على الدوام، ويعدّها غير
قابلة للتحليل المنطقي.
ويتحدّث في مسرحية الجدار عن شخصية سجينة، تطرح الاستفهام
التالي: ماذا يعني إخلاصي لأصدقائي وبقائي الدائم في هذا
العذاب أسيرًا؟ لِمَ أبقى في هذه المعاناة؟ لأجل ماذا،
ومقابل ماذا؟ ألأجل أن يتمتع جمع بالحرية والاطمئنان؟ ماذا
يعني ذلك؟
بعد ذلك يتهيّأ للاعتراف على عنوان أصدقائه وهو مقبرة
المدينة، فتهاجم الشرطة المقبرة ويقبضون على زعيم الجماعة،
وبعد أن يرى السجين صديقه بقبضة الشرطة يقهقه ضاحكًا، ثم
تفرج الشرطة عنه!
لمَ ؟ لأن التضحية والفداء بما له من عظمة وإنسانية ليس له
أيّ توجيه منطقي اليوم، والإنسان متردّد حتى أمام الفضائل
والإيمان بالأصول الإنسانية
التي كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة،
فالإنسان لا يدري واقعًا ومنطقًا: هل أن الصيرورة والحياة
على هذه الفضائل أمر حسن أم لا؟))([23]).
ربما يتعجّب القارئ من اختياري مثل هذا النص لأجعله شاهدًا
من شواهد اللغة المثيرة التي تسبّب العمى ودليلاً على
التزييف والتزوير اللذين يصطنعهما شريعتي في مؤلفاته! بل
لعل بعض القرّاء المتحمّسين حين يقرأ هذا النص لشريعتي
تنبثق في نفسه آيات التقدير ويتملّكه الشعور بالإعجاب،
فينبري لتبيان ما ينطوي عليه النص من معارف وما يدعو إليه
من مواقف. كيف لا ؟ وهو نصٌّ لا تكاد تتجاوز مساحته الصفحة
الواحدة، ولكنها صفحة قد تغنيك قراءتها عن قراءة العديد من
الصفحات.
فانظر كيف يعرّفك شريعتي فيها على الأصول الأخلاقية التي
كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة، ثم انظر كيف يدلّك
على طبيعة عصرنا الحاضر وما يحمله من تشكيك وتردد تجاه تلك
الأصول. ولاحظ بعد ذلك ما تشتمل عليه هذه الصفحة من غنىً
بالموضوعات الفلسفية والأدبية. ولا تنس أيضًا أن الموضوعَ
موردَ البحث هو موضوع إسلامي ولكنّ صفحتنا هذه لم تقتصر في
معالجته على المعارف الإسلامية وحدها، بل يمّمت وجهها شطر
الثقافة الغربية أيضًا لكي تأتي المعالجة شاملة ووافية.
وتأمّل أخيرًا كيف تنير هذه الصفحة عقولنا وتشحذ إرادتنا
مما يزوّدنا بالشجاعة كلها لكي نقف إزاء الفكر الغربي موقف
الباحث الناقد، ولا نغترّ بسمعته فنسلك تجاهه سلوك
المستلَب المأخوذ...
بهذا النحو أو ما يماثله قد يؤثر نص شريعتي السابق على
القرّاء الذين يقرأون بطريقة انفعالية.
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث فيما لو قرأنا النص قراءة
متفحّصة متدبرة؟ إننا لو فعلنا ذلك فإن الواقع المرّ
سيصدمنا، لأننا سوف نتفاجأ بأمرين خطيرين هما: تزييف
الحقيقة وتزوير النصوص. ولنبدأ بالأمر الأول.
تزييف الحقيقة
قرأنا في هذا النص قول شريعتي: [بل نجد شخصية كسارتر يهاجم
أعزّ وأقدس المسائل الأخلاقية
التي يعتقد بها الجميع على الدوام، ويعدّها غير
قابلة للتحليل المنطقي]. وكذلك قوله: [لأن التضحية والفداء
بما له من عظمة وإنسانية ليس له أيّ توجيه منطقي اليوم،
والإنسان متردّد حتى أمام الفضائل والإيمان بالأصول
الإنسانية التي كانت على
الدوام أصولاً بديهية ومقدسة].
والذي يهمّنا الآن من كلام شريعتي هو ادّعاؤه أن المسائل
والأصول الأخلاقية التي يتحدّث عنها هي من المسائل والأصول
التي كان يعتقد بها الجميع وعلى الدوام، ولذلك كانت دائمًا
أصولاً بديهية ومقدّسة.
ومن حقنا هنا أن نسأل: ما الحجة وما الدليل اللذان استند
إليهما شريعتي لكي يبيح لنفسه أن يجزم هذا الجزم القاطع،
وأن يعمّم هذا التعميم الواسع مدعيًا بأن الجميع وعلى
الدوام كانوا يعتنقون هذه الأصول الأخلاقية ويقدسونها؟
وليته كلّف نفسه القيام ولو باستقراء عجول قبل أن يطلق
كلامه هذا ويرسله إرسال المسلمات. ولكنه لم يفعل، ولا
يناسبه أن يفعل، وإلا لما تسنّى له عندها أن يجزم ويعمّم،
وهذا ما كان سيُفقد كلامه بعض قوّته، ويحرم بلاغته بعض
مؤثراتها، لأنه من الواضح أن الإنسان حين يقف مدافعًا عن
الحقائق العامة الدائمة، والبديهية المقدسة، سيكون كلامه
أشد وقعًا وأبلغ أثرًا ممن يدافع عن حقيقة ليست لها
القداسة نفسها عند الجميع، بل إن البعض يدعو إلى خلافها.
وشريعتي كما عهدناه هو في صف البلاغة ولو على حساب الدليل
الذي هو من شأن عشّاق المنطق.
وعليه نقول: إن دعوى شريعتي وعلى الرغم مما تتصف به من جزم
وتعميم هي دعوى باطلة لا تؤيدها أية حجة صحيحة، والتاريخ
يشهد على ما نقول، فهو يحدّثنا عن أناس ممن لا تنطبق عليهم
دعوى شريعتي الآنفة، نذكر من بينهم -وعلى سبيل المثال-
أصحاب مذهب اللذة، هؤلاء الذين يرون: ((أن اللذة خير حتى
لو نجمت عن أشد الأمور مَجلبة للعار. إن الفعل هو العار،
أما اللذة الناجمة عنه فهي في ذاتها فضيلة وخير))
([24]).
ولا يتّسع المجال للإفاضة بالحديث عن الناس والحكّام
والشعراء.. ولا عن الفلاسفة والمنظّرين.. ولا عن أصحاب
مذهب (الشك)، ممن تكذّب آراؤهم ومعتقداتهم دعوى شريعتي
الآنفة.
بهذا يتبيّن لنا جليًا كيف قام شريعتي بتزييف الحقيقة،
فجزم حيث لا ينبغي الجزم، وعمّم حيث يقبح التعميم، وذلك
لغاية في نفسه قضاها.
والطريف في المسألة أن شريعتي نفسه يحذّرنا كما يحذرّنا
كتّاب آخرون من الانزلاق في مهاوي الجزم والتعميم.
ولنقرأ أولاً هذا النص لشريعتي - وهو يحكم على نفسه - حيث
يقول: ((إن من شروط النظرة العلمية الصحيحة أن تكون شاملة
ومتعددة الزوايا والأبعاد،
وذات طابع نسبي، خلافًا للعوام الذين يميلون عادةً إلى
تعميم الأحكام، وإضفاء صفة الجزم عليها))([25]).
وهذا كلام يُغنينا فعلاً عن الإدلاء بأي تعليق، وقد كان
بالإمكان أن نجعل من مسألة التناقض بين دعوة شريعتي إلى
عدم الجزم والتعميم وبين ارتكابه لخطيئة الجزم والتعميم
التي هي من شأن (العوام) محورًا مستقلاً، ولكننا اكتفينا
بهذه الإشارة إذ ليس غرضنا في هذه المقالة سوى التنبيه
وضرب الأمثال.
ولنقرأ بعد هذا تحذيرًا آخر كتبه المفكّر الاجتماعي الرصين
"مالك بن نبي" في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم
الإسلامي" حيث يقول: ((والمجتمع الذي يقع في مثل تلك
الطفولية يكشف عن
ظاهرة غريبة من التعويض عن
افتقاره إلى الأفكار (...) إلى أن يقول: فعدم
التماسك تبدو علاماته حين تنعدم الأفكار، حينئذ
يأتي الصوت ليعلو كيما يحلّ محل
حجة افتقدت.
ويبرز التصنع البلاغي في الأدب:
الإفراط في أدوات التفضيل، التشدّق في الأوصاف (...).
إنها حجة الإثارة
أن يقال إنه أمر خطير جدًا، بدلاً من أن تعطي مجرد فكرة
محدودة عن الموقف.
إنها المبالغة في التهويل أو التهوين بأن يقال: [كل الدنيا
تعلم بذلك] لتأييد رأي، أو [لا أحد يصدق ذلك] للانتقاص من
قيمة رأي.
والخلاصة إنه حشو الكلام حيث
كل كلمة تلقي ظلالاً من الغموض على الموضوع بدلاً من أن
تجلّيه، فعندما يسيطر التشويش وانعدام التماسك
على عالم الأفكار، تظهر علاماتها في أبسط الأعمال))([26]).
وهذا لعمري وصف دقيق وجليل حقًا للظاهرة التي يمثّل شريعتي
أحد مصاديقها البارزين: بدءًا بعدم التماسك، ومرورًا
بالصوت الذي يعلو ليحلّ محلّ حجة افتقدت، وعطفًا على حجة
الإثارة والتصنّع البلاغي، وانتهاءً بالتعميم أو التهويل..
هذا فيما يرتبط بالأمر الأول من محورنا وهو تزييف الحقيقة،
ويبقى أن نبين الأمر الثاني وهو تزوير النصوص.
تزوير النصوص
قرأنا في النص الآنف لشريعتي تلخيصه لأحداث (مسرحية)
الجدار للفيلسوف الفرنسي سارتر، مستدلاً بهذا التلخيص على
موقف سارتر ومهاجمته لأعزّ وأقدس المسائل الأخلاقية التي
يعتقد بها الجميع على الدوام..
ولكي لا أكرر الكلام فإنني أرجو من القارئ الكريم أن
يراجع التلخيص كما أورده شريعتي، ثم ليرافقني بعدها للكشف
عن وجه الحقيقة.
والحقيقة هي أن قصة الجدار -وهي قصة قصيرة وليست بمسرحية-
بريئة كل البراءة مما نسبه شريعتي إليها. إذ ليس صحيحًا أن
الشخصية السجينة قد طرحت الاستفهام حول معنى إخلاصها
وبقائها في العذاب الدائم لأجل أن يتمتّع جمعٌ بالحرية
والاطمئنان، ثم خلصت إلى أنه لا معنى لذلك.
كما أنه ليس صحيحًا أيضًا أن هذه الشخصية قد تهيّأت
للاعتراف والذي كانت نتيجته مهاجمة الشرطة للمقبرة والقبض
على زعيم الجماعة، حتى إذا رأى سجيننا صديقه بقبضة الشرطة
قهقه ضاحكًا، ثم أفرجت عنه الشرطة.
وإنما الصحيح هو عكس ما يخبرنا به شريعتي تمامًا من أحداث
القصة، فالقصة تقول أن هذا السجين ظلّ محافظًا على سرّ
صديقه إلى آخر لحظة موطّنًا نفسه على الموت قبل أن يفشي
السرّ، بل إنه علاوة على هذا أراد أن يهزأ بسجّانيه فقال :
((أنا أعرف أين هو. فهو مختبئ في المقبرة)). وهو يُوضح سبب
تصرّفه هذا بالقول: ((كان ذلك لأهزأ منهما، أودّ أن أراهما
يقفان، ويشدان حزاميهما ويعطيان الأوامر)). إلى أن يقول:
((كنت أضحك من وقت لآخر من الوجه الذي سيقابلونني به))،
وذلك لأنه كان يعلم علم اليقين أين يختبئ صديقه وأنه ليس
في المقبرة. ولكن الصدفة لعبت دورها فلجأ صديقه إلى
المقبرة دون علم سجيننا بذلك، فكان أن وجدته الشرطة هناك
وقتلته.
وحين علم سجيننا بالأمر بدأ يرتجف، وقال: ((كل شيء بدأ
بالدوران، ووجدتني جالسًا على الأرض، كنت أخجل بقوة، إلى
حدّ أن الدموع بانت في عينيّ))([27]).
فيا سبحان الله كيف انقلبت الحقائق وتبدّلت الوقائع على
لسان شريعتي فصار الهُزء بالسجانين استسلامًا، وغدا حفظ
السر وشاية، واستحال الارتجاف والخجل والبكاء قهقهةً
وضحكًا؟!
وأين يحدث كل هذا؟
إنه يحدث في بحث حول الأخلاق يدافع فيه المعلم شريعتي عن
الأصول الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي كانت على الدوام
أصولاً بديهية ومقدسة.
ولا أدري ما الذي علينا أن نصدّقه: أقوال المعلم أم
أفعاله؟
ولكنني على يقين من أن النزهة في حدائق شريعتي والتجوال
بين مؤلفاته هما من الأمور الطريفة والممتعة، لذا دعنا
نقرأ له هذا النص من كتابه " التشيع العلوي والتشيع الصفوي
" والذي يصف فيه جماعة السوفسطائيين وهم يقلبون النهار إلى
ليل ببيانهم الساحر، فيقول:
(( وكانت اليونان في ذلك العهد انتشر فيها السوفسطائيون،
وهم أشخاص ذوو حذاقة عالية في الجدال والمناقشة، وكانوا
قادرين ببيانهم الساحر على قلب
الليل إلى نهار والنهار إلى ليل. وقد هيمن السوفسطائيون
بقوة استدلالهم وسحر بيانهم على مقاليد الأمور
في اليونان على كافة الأصعدة السياسية والفكرية
والقضائية))([28]).
ولا أدري ما إذا كان هؤلاء السوفسطائيون يقلبون الليل إلى
نهار والنهار إلى ليل، بقوة استدلالهم وسحر بيانهم فقط، أم
أنهم كانوا علاوة على ذلك يزيّفون الحقائق ويزوّرون
النصوص؟!
وهنا لا بد أن نسأل: إننا لو قبلنا التصنيف المحبّب على
قلب شريعتي، وهو تصنيف التشيّع إلى تشيّع علوي وتشيع صفوي،
فأين يمكننا أن ندرج عملية تزييف الحقائق وتزوير النصوص؟
أم لعله يجدر بنا اختراع صنف ثالث لكي نتمكن من إدراج مثل
هذه العملية فيه، لأن الصنفين الأولين لا يتسعان لها.
ولنطلق على هذا الصنف اسم: التشيع (الميتاصفوي).
النموذج الرابع: اضطراب الميزان
يقول شريعتي في كتابه "العودة إلى الذات": (( الخلاصة:
أنني لا أطرح قضية الدين في المجتمع بهذا الشكل على أساس
فكرةٍ ما أو عاطفة ما، لأن منطلقي من الدين من نوعٍ يستطيع
معه حتى مفكر علماني أن يأتي وينطلق معي منه، والفرق بيني
وبينه أن منطلقي يُعدّ إيمانًا ومسئولية اجتماعية، بينما
يستطيع ذلك المفكر أن يشترك معي من موقع المسئولية
الاجتماعية فحسب.
على كل حال، أريد هنا كمفكر مسئول عن عصره وجيله أن أحدّد
الهدف من مسئوليتنا، وأن أحدّد الدور الاجتماعي الملقى على
عواتق المفكرين والمتعلمين والمثقفين في المجتمعات
الآسيوية أو الإسلامية. وذلك على أساس الشعار نفسه الذي
قَبِله المفكرون الدينيون وغير الدينيين -خصوصًا بعد الحرب
العالمية الثانية- مثل عمر اوزجان وإيما سيزار وفرانز
فانون ويوجين يونسكو، فهم يعتقدون أن من حق كل مجتمع أن
يكون المفكر فيه مرتكزًا على تاريخه وثقافته، وعليه أن
يلعب دوره كمفكّر ويقوم برسالته على أساس تاريخ السواد
الأعظم وثقافته ولغته، أجل على أساس هذه المبادئ الثلاثة.
على كل حال فإن شعار العودة إلى الذات، شعار لم يطرح الآن
في عالم المتدينين، بل إن أكثر المفكرين التقدميين
العلمانيين من أمثال إيما سيزار وفي إفريقيا مثل فرانز
فانون وجوليوس نيريري وجومو كينياتا وسنغور في السنغال
وكاتب ياسين الجزائري وجلال آل أحمد في إيران هم الذين
طرحوا هذه القضية لأول مرة.))
([29]).
يريد شريعتي في هذا النص أن يطرح قضية [العودة إلى الذات]،
ولكنه يمهّد لطرحه هذا بمقدمة يبيّن لنا فيها جملة من
الحيثيات المرتبطة بموضوع كلامه.
وأول هذه الحيثيات هي انطلاقه من موقع المسؤولية
الاجتماعية، الأمر الذي يفسح المجال حتى للمفكر العلماني
لكي يشاركه في منطلقاته..
ويمضي بعد ذلك ليبيّن لنا ماهية الصفة التي يتحدّث إلينا
من خلالها، وما هي المسائل التي يشتمل عليها موضوع بحثه.
ولذلك قال: [على كل حال، أريد هنا كمفكر مسئول عن عصره
وجيله أن أحدّد الهدف من مسئوليتنا، وأن أحدّد الدور
الاجتماعي الملقى على عواتق المفكرين والمتعلمين والمثقفين
في المجتمعات الآسيوية أو الإسلامية].
ينمّ هذا التمهيد عن خبرة عالية بالأساليب البلاغية، فهو
يثير في نفس القارئ شعورًا بالتهيّب أمام ما سيلقى عليه من
كلام.
كيف لا ؟! وهو كلام يتميّز بجلال مصدره [مفكر مسؤول عن
عصره وجيله]، وبخطورة موضوعه (تحديد الهدف من مسؤوليتنا،
وتحديد الدور الاجتماعي الملقى على عاتق المفكرين
والمتعلمين والمثقفين).
وحين يتملّك القارئَ الشعورُ بالتهيّب فإنه غالبًا ما يميل
إلى قبول الأفكار المطروحة دون أن ينتبه لما قد يتضمنه
الكلام من خطأ أو بطلان.
لكنه ومن حسن الحظ يبقى بين القرّاء أشخاص يستطيعون الفكاك
من أسر البلاغة، وتبقى عقولهم متنبّهة لمضمون الكلام
فيميزون الغثّ من السمين، غير متأثرين ببهارج البلاغة
وزخارفها.
وهذا ما حدث للنص الذي بين أيدينا. فنحن نجد فيه أن شريعتي
وبعد أن وصف نفسه بأنه مفكر مسؤول عن عصره وجيله، وأنه في
مقام تحديد الأهداف والمسؤوليات الملقاة على عواتق
المفكرين والمتعلمين والمثقفين، إنه وبعد هذا كله يقدّم
لنا: "جوليوس نيريري" و"جومو كينياتا" و"سنغور" كمفكرين
تقدميين.
والغريب هو أن هؤلاء جميعهم معروفون بدورهم المشبوه،
وبخدماتهم التي أدّوها للاستعمار. ولذلك نجد أن هذا النص
قد أثار حفيظة مترجم كتاب شريعتي، فكتب حاشية يعلّق فيها
على كلامه -وهي من المرات النادرة التي يكتب فيها واحد من
مترجمي كتب شريعتي حاشية تنتقد كلامه- وقد جاء فيها:
((على مدى هذا الكتاب يذكر الزعماء الأفارقة الذين أمسكوا
بمقاليد الحكم في بلادهم بعد استقلالها الصوري على أساس
أنهم من كبار المفكرين الأصلاء، في حين أنه مهما كانت
لبعضهم بعض الاجتهادات الفكرية علينا أن نلاحظ عدة نقاط من
أهمهما أن أغلب هؤلاء الزعماء قد تقلّدوا الزعامة في
بلادهم (لا)([30])
على أساس اختيار شعبي عام أو سابقة ممتدة في الكفاح بل كان
معظمهم مباركًا من السلطة الاستعمارية ربيبًا لها، إما في
جيشها أو في جامعاتها، ومعظمهم الجيل الأول المرتد من أسر
مسلمة، ولا أدري كيف فات علي شريعتي أن معظم هؤلاء مسيحيون
من أبوين مسلمين، وأن بعضهم يحكم شعوبًا أغلبيتها مسلمة
وهو مسيحي، وجواز السلطة الوحيد أنه مسيحي، أما
[أفريقانية] سنغور فهي [أفريكانية] فرنسية للاستهلاك
العالمي، وهدفها الوحيد الحيلولة دون أفريقيا وواحدٍ من
أهم مقومات ثقافتها وهو الإسلام، ولا أدري أيضًا كيف لم
يلحظ شريعتي المصير الذي لقيه بعض حكام أفريقيا الذين
حاولوا الحفاظ على إسلامهم من تشنيع وتلويث ثم إقصاء،
وأفضل هؤلاء الحكام هم بالفعل الذين يتظاهرون بالفكر ووضع
النظريات، وهم أرحم حالاً من الميجورات الذين انقلبوا في
يوم وليلة إلى جنرالات ثم سُلّطوا على شعوبهم بمساعدة من
الفرقة الأجنبية، ويعمل التبشير العسكري في بلادهم على قدم
وساق، بينما يُحْرَمُ المسلم في بلادٍ غالبيتها من
المسلمين من أبسط الحقوق المدنية،
ليس نيريري وسنغور وكينياتا ذوي
الروابط الوثيقة جدًا بإسرائيل بالنماذج والمثل التي تضرب
هنا، بل هم من وجوه الاستعمار الجديد.))([31]).
إن ما جاء في هذه الحاشية يضعنا أمام صورة موجزة لما هو
معروف من مآسي هؤلاء الحكام، لكن وعلى الرغم من ذلك فقد
شاء شريعتي أن يصنّفهم بين المفكّرين التقدميين.
ولست أدري، ما هو الميزان، بل ما هو الدافع الذي حدا
بشريعتي لكي يعتبر أمثال هؤلاء المشبوهين مفكرين تقدميين.
وعلى كل حال فإن هذا يبيّن لنا مدى اضطراب الميزان لدى
شريعتي، هذا الميزان الذي نجده هنا يقدّر "نيريري"
وأصحابه، بينما نراه في أماكن أخرى يلفظ أشخاصًا آخرين
ولأدنى سبب مما يعتبره شريعتي خطأً في توجّههم السياسي.
وأخيرًا نسأل: هل إن شريعتي مؤهّل حقًا للدور الذي نسبه
إلى نفسه في مقدمة كلامه ؟ وهل يحقّ له أن يضع نفسه في
مقام المفكّر المسؤول عن عصره والذي يناط به تحديد الدور
الاجتماعي الملقى على عواتق المفكرين والمتعلمين
والمثقفين، وهو يجهل في الوقت ذاته واقع أمثال هؤلاء
الحكّام من أبناء عصره، ويغفل عن حقيقة أمرهم ؟!
وهكذا نجد أن الأسلوب البلاغي الذي مهّد به شريعتي لفرض
هيبته الفكرية على القارئ، لم ينفعه هنا، بل تصدّى له هذه
المرة حتى مترجم كتابه ليقول لنا أن الحقيقة قد فاتت
شريعتي. ومن طرائف الصدف أن يأتي هذا الاحتجاج من المترجم
على شريعتي في الموضع الذي يُنصِّب فيه شريعتي نفسه قيّمًا
على العصر والجيل، ومرشدًا للمفكرين والمتعلمين والمثقفين.
النموذج الخامس: شهادة الواقع
بيّنت في النماذج الأربعة السابقة جوانب من الوهن الفكري
والمنهجي الذي تنطوي عليه اللغة الملونة والبلاغة المثيرة
لدى شريعتي.
وأوّد الآن أن أنتقل من عالم النصوص إلى عالم النفوس
لأبيّن كيف يمكن أن تنطلي تلك اللغة المثيرة على القرّاء
فيصدحون بأناشيدها ويتراقصون على أنغامها رغم أنها تطعنهم
في الصميم وهم لا يشعرون.
لذا سألجأ هذه المرة إلى الواقع لأستقي منه النموذج الخامس
والأخير.
نشر أحد الإخوة الكرام في أحد المنتديات الحوارية على
الانترنت([32])
رسالة يوجّهها السيد مقتدى الصدر للنساء.
وقد كان هذا سببًا لإثارة نقاش سياسي بين أعضاء المنتدى،
سألخّص منه الجانب المتعلق بموضوع هذه المقالة.
كتب ناشر الرسالة في إحدى مداخلاته العبارة التالية :
[وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد القائد مقتدى الصدر
ذو حسب ونسب قديم مشرق أضاء لكل الأجيال، وذو حسب جديد
شاهق ببصمات التشيّع العلوي
لا الصفوي].
وكتب أيضًا: [وهل محاربة أرباب
التشيّع الصفوي
جريمة؟!]
وهذا ما دفعني لأن أوجه إليه السؤال التالي: [.. الرجاء أن
توضح معنى التشيّع العلوي
والتشيّع الصفوي حتى نفهم كلامك بصورة جلية،
ونرى مدى صحة هذا التصنيف وفائدته، لنعرف بعدها من يخدم
هذا التشيّع أو ذاك، ومن هم الذين يجب أن نحاربهم من أرباب
التشيّع الصفوي؟].
فكان جوابه: [ومن يسأل ما الفرق بين التشيع العلوي
والتشيّع الصفوي فليراجع كتب الدكتور علي شريعتي].
وبعد ذلك أضاف: [أما بالنسبة للتشيّع العلوي والتشيع
الصفوي، تستطيع فهمهما من كتاب الشهيد الدكتور علي شريعتي
في كتابه الرائع "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"].
وأجبت: [أقول لك (...)
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
|
|
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
|
فلو أنك قرأت هذا الكتاب الذي تقول عنه أنه رائع لوجدت أن
التشيّع الصفوي إنما ينطبق على الشهيد السيد محمد الصدر
رحمة الله عليه، ولا يقتصر على باقي العلماء، ولكنك على ما
يبدو لا تعرف من الكتاب سوى اسمه، كما أنك تُردّد ما
لُقّنتَ من مصطلحات دون أن تدرك ما الذي يراد منها.
فبالله عليك اقرأ أولاً، وافهم ثانيًا، ثم بعد ذلك أطلق
أحكامك، ولا تكن ببغاء تردد دونما وعي (...).
وما دام تصنيفكم للتشيّع يتّبع قواعد الدكتور علي شريعتي،
فيا مرحبًا بالتشيع وبالإسلام، وهنيئًا لكم.
وإنما هذا سيكون ظلمًا للشهيد السيد محمد الصدر رحمه الله،
وإساءة إليه. فانظروا على أيّ أرض تقفون].
فكان رده: [الحمد لله رب العالمين أنني
قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة،
والحمد لله الذي جعل الذي يدّعي أنه شيعي يبهت الشيعي،
ويرميه بما ليس فيه، وهو اتهامه بأنني لم أقرأ الكتاب.
أثبت بالدليل أن الكتاب يتكلم على كل العلماء، وأثبت لي
بأن التشيع الصفوي ينطبق على المرجع الأعلى السيد الشهيد
محمد الصدر. طبعًا وفق أطروحات الشهيد شريعتي].
وأجبت: [ (...) إن كتاب الدكتور الشهيد علي شريعتي فيه
الغث والسمين، ومن يقرأه بتفهّم فإنه يجد أن صفة التشيّع
الصفوي تطال شريحة واسعة من العلماء، ومنهم الشهيد السيد
محمد الصدر، ولم يأتِ في كلامي أن الكتاب يتكلم على كل
العلماء حتى أثبت ذلك. نعم إنما قلت أن التشيّع الصفوي
ينطبق على الشهيد السيد محمد الصدر -حسب الكتاب- وإلا فمن
وجهة نظري فإن الشهيد السيد محمد الصدر صاحب فكر أصيل، ولا
أزال أستفيد مما كتب رحمه الله سواء في موسوعته القيمة عن
الإمام الحجة، أو موسوعته الأخرى "ما وراء الفقه" كما
استفيد من باقي كتبه.
وقبل أن أثبت دعواي دعني أوضح أنني أردت الدفاع عن الشهيد
الصدر من الظلم الذي يقع عليه من مؤيديه قبل غيرهم حين
يريدون أن ينتصروا له بمصطلحات الدكتور علي شريعتي].
ثم قلت: [والآن إلى بيان أن مصطلح التشيّع الصفوي ينطبق
على الشهيد الصدر بحسب الدكتور شريعتي، وسأعطيك مثالاً
واحدًا كافيًا وافيًا.
يقول الدكتور شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع
الصفوي"، دار الأمير، الطبعة الأولى، ص157-158: ((حقًا هذه
الأمور ليست بشيء ! إذا ما قيست بما هو أخطر وأفدح منها من
قبيل مسألة استرقاق العبيد، الظاهرة التي حاربها النبي
وعليّ بكل شدة،
ومع ذلك استمرّت الروحانية الأموية والعباسية والصفوية
بتدريسها لقرون تارة باسم الفقه السنّي وأخرى باسم فقه أهل
البيت... وتحت عنوان جذاب وعصري هو (العتق) يتمّ الحديث
علنًا ودون حياء عن أحكام بيع وشراء الرقيق،
وما زالت هذه البحوث تتداول حتى في زماننا الحاضر بما يوحي
للناس أن الدين الإسلامي هو دين الاسترقاق الذي يبيح للمرء
أن يبيع إنسانًا أو يشتريه،
أليس هناك من يفتي بحرمة الاستماع إلى السمفونية الخامسة
لبيتهوفن والتي تجسد صورة حية لحرية إرادة الإنسان قبال
قوى الهيمنة والاستعباد،
وفي نفس الوقت يبيح اقتناء فتى أو فتاة بمثابة عبد أو
جارية!))
إلى أن يقول: ((إلا أن وعّاظ السلاطين انتهجوا منهجًا آخر
أسهم في تكريس هذه الظاهرة إلى درجة أنه لم يعد اليوم من
يجرؤ على تحريم الاسترقاق أو على الأقل ترك تدريس أحكام
وبيع وشراء العبيد وذلك بالرغم من خلوّ الأسواق من العبيد
وانتفاء الموضوع لأبحاث من هذا القبيل.))
ويا تُرى، هل كتب الشهيد محمد الصدر وفي عصرنا هذا بحوثًا
حول الرقّ والعتق أم لا ؟!!
وهل يحرّم الموسيقى السيمفونية والتصويرية أم لا؟!
وهل هو ممن ينطبق عليهم مصطلح التشيع الصفوي -بحسب الدكتور
علي شريعتي-أم لا؟!]([33]).
وكانت النتيجة أن هذا الأخ ترك الحوار بعد مداخلتي الأخيرة
والتي كُتبت في العام 2005، ولم نره ثانية.
فكتبت أخيرًا: [نرجو أن يكون المانع من متابعتك الحوار
خيرًا فقد أطلت الغياب، وكنا نتمنى أن يستمر الحوار نقطة
نقطة لتظهر الحقيقة جلية، كما كنت أتمنى أن أعرف تعليقك
حول انطباق التشيع الصفوي -بحسب الدكتور علي شريعتي- على
السيد محمد الصدر.. وعلى كل حال، لا نعرف ما هي ظروفك،
فنتمنى لك التوفيق].
تبين هذه الواقعة كيف يمكن للغة المثيرة أن تنطلي على بعض
القرّاء فتحرّك نفوسهم وتثير حماستهم، ولكنها تعطل في
الوقت نفسه عقولهم، وتشلّ قدرتهم على الفحص والتمييز،
ولذلك نجد أن شخصًا مثل محاورنا الكريم قد قرأ كتاب التشيع
العلوي والصفوي عدة مرات، ووصفه بالكتاب الرائع، ثم راح
يتبنّى مصطلحاته ويستخدمها دون أن يشعر ولو للحظة واحدة أن
هذا الكتاب يطعنه في الصميم ويصيب منه مقتلاً !
وإذا كان هذا هو شأن من قرأ الكتاب عدة مرات، فما بالك بمن
يكون قد قرأه مرة واحدة فقط؟!
خاتمة
يروي جلال الدين الرومي في كتابه "المثنوي" حكاية مسافر
لجأ أثناء سفره إلى إحدى الزوايا ليبيت ليلته فيها.
وموجز الحكاية: أن هذا المسافر لما وصل إلى تلك الزاوية
قاد حماره إلى الحظيرة. وكان في الزاوية جماعة من الصوفية
المعوزين الفقراء، وهم لفرط فاقتهم قد اتفقت كلمتهم على
بيع الحمار. وقد عللوا فعلتهم هذه بالقول: [إن الضرورة
تبيح أكل الميتة، وكم من فساد جعلته الضرورة صلاحًا!].
وسرعان ما باعوا الحمار الصغير، واشتروا بثمنه طعامًا
شهيًا، وأضاؤوا الشموع!
وتعالت الصيحات في جوانب الخانقاه: [إن الليلة للطعام
الشهي والمسرّة ومجلس السماع!].
وذلك المسافر أيضًا كان متعبًا من الطريق الطويل، فرأى هذا
الإقبال والتكريم. ولما رأى ميلهم إليه قال: [لو أنني لم
أطرب الليلة، فمتى يكون ذلك؟].
فأكلوا لذيذ الطعام ثم بدأ السماع، فامتلأ جو الزاوية
بالدخان والغبار. دخان من المطبخ، وغبار يتصاعد من الأرض
تدقّها أقدام الراقصين! وأرواح ثائرة غلب عليها الاشتياق
والوجد!
وحينما اكتمل السماع من أوله إلى آخره، بدأ المطرب من جديد
يعزف نغمة قوية!
وبدأ يترنّم قائلاً: [ذهب الحمار!] فدفعت حرارة النغمة
جملة الحاضرين لمشاركة الغناء.
وبتلك الحرارة ظلوا يرقصون حتى السحر، ويصفقون بالأكف
مرددين: [إن الحمار مضى وولى يا فتى]،
وعلى سبيل التقليد بدأ هذا المسافر أيضًا يردد مترنمًا:
[ذهب الحمار].
وحينما انقضت هذه النشوة والانفعال وذاك السماع، بزغ
الصبح، فقالوا جميعًا: [الوداع].
وأخرج المسافر متاعه من الحجرة ليربطه فوق الحمار، ودخل
الحظيرة ولم يجد حماره، وأقبل الخادم فسأله المسافر: [أين
الحمار؟]. فقال له الخادم: [انظر إلى لحيتك]، فقام بينهما
عراك.
وقال المسافر: [إنني أسلمت إليك الحمار. وجعلتك موكلاً به،
فالزم حدود هذا البحث ولا تجادلني. وردّ إليّ ما أودعته
عندك].
فقال الخادم: [لقد كنتُ مغلوبًا على أمري، فإن الصوفية
تهجّموا عليّ فغدوت خائفًا على روحي].
قال المسافر: [فلنسلّم أنهم قد أخذوه منك ظلمًا، وأنهم
أصبحوا قاصدين دمي أنا المسكين. فإنك لم تجئ، ولم تقل لي:
[ها هم أولاء يأخذون حمارك، أيها المسكين!].
فقال الخادم: [والله، إني قد جئت إليك مرارًا، حتى أنبئك
بهذه الأعمال. فكنت تقول لي: (إن الحمار مضى وولى يا
فتى)!، وكنتَ أكثر انفعالاً من جميع الناطقين بهذا القول.
فكنت أرجع قائلاً: (إنه واقف على هذا الأمر. وهو راض بهذا
القضاء، فهو رجل عارف!)].
قال المسافر: [إنهم جميعًا كانوا يُحسنون ترديد هذا القول،
ولقد راق لي أنا أيضًا أن أردده!
وإن تقليد هؤلاء هو الذي أسلمني للريح. فعلى هذا التقليد
مئتان من اللعنات]([34]).
. . . .
ولولا أن يجيء الكلام مبتورًا ونابيًا عن العرف والمألوف،
لوضعت نقطة على السطر عند نهاية الحكاية، واكتفيت بها
خاتمة للبحث تُغنيني عن أية إضافة أو استطراد.
ولكنني وجدت نفسي مضطرًا إلى المتابعة قليلاً لا لأقول
جديدًا، وإنما مراعاة للذوق الشائع وللعادة الجارية.
ولذا أختم كلامي بالقول: ما أشبه حال اللغة الملونة بحال
الحكاية السابقة. إذ كثيرًا ما يُقبل القارئ على قراءة بعض
النصوص المثيرة فتأخذه النشوة، وتدفعه حرارة النغمة ليردد
مع صاحب النص وبانفعال يفوق انفعال الجميع: [إن الحمار مضى
وولى يا فتى]، وهو لا يشعر أن الحمار حمارُه، وأنه في غمرة
نشوته إنما يندب الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها للانتقال
والسفر.
إنه وعلى سبيل التقليد يردد ما يقرأ مترنمًا، ويفوته
الكثير مما ينطوي عليه النص المقروء من تهافت أو تزييف أو
تزوير أو قلب للحقائق..
ولذا حاولت في هذه المقالة أن أنبّه على بعض المخاطر التي
تحتفّ بها اللغة المثيرة لكي لا يغلب الطرب على عقل
القارئ، وتسقط الحقيقة شهيدة عند أقدام البلاغة الأخاذة
والبيان الساحر.
وأرجو أن تكون النماذج التي قدمتها كافية في تحفيز القارئ
على التدبّر عند قراءته لأي نص تغلب عليه اللغة الملونة،
سواء تعلّق الأمر بالدكتور علي شريعتي أم بغيره من
الكُتّاب والمؤلفين.
ونحن إنما طرحنا كلام شريعتي من باب المثال، وكان اختيارنا
له بالخصوص لأنه يُعدّ واحدًا من أبرز رواد هذا الميدان.
كما أن النماذج التي سقناها من كلامه إنما تمثل بعض
العيّنات مما قد تطفح به كتبه من مشكلات، وهي على كل حال
عينات كافية في التدليل على المراد، وقد استطاعت أن تُظهر
بجلاء:
أن بلاغة الدكتور علي شريعتي لا ترقى إلى مستوى الدليل.
(انتهى المقال)
الهوامش
([23])
د. علي شريعتي: الأمة والإمامة، دار الأمير،
بيروت، 1992م-1413هـ، ص96-97.
([24])
د. عبد الرحمن بدوي: الأخلاق النظرية، وكالة
المطبوعات، الكويت، ط2، أيار-مايو، 1976م، ص242.
([25])
د. علي شريعتي: التشيّع العلوي والتشيع الصفوي،
ترجمة حيدر مجيد، دار الأمير، بيروت، ط1، 1422هـ -
2002م، ص68.
([26])
مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم ألإسلامي،
دار الفكر المعاصر- بيروت، ودار الفكر - دمشق،
1423هـ-2002م، ص66-67.
([27])
كل ما أوردناه من القصة يمكن الاطلاع عليه في:
الجدار لجون بول سارتر، ترجمة هاشم الحسيني،
منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979م.
([28])
التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، مصدر سابق، ص43.
([29])
العودة إلى الذات، مصدر سابق، ص34-35.
([30])
غير موجودة في الأصل ولكن السياق يقتضيها.
([31])
العودة إلى الذات، مصدر سابق، هامش ص35.
([32])
اسم الموقع هو (واحات ينابيع المودة).
([33]) وليكن معلومًَا للقارئ أن الشهيد السيد محمد الصدر قد كتب في
موسوعته "ما وراء الفقه" بحثاحول الرق والعتق، كما
أنه ذهب في هذا الكتاب إلى تحريم الموسيقى
السيمفونية.
([34])
انظر تمام القصة في: مثنوي جلال الدين الرومي،
ترجمة د. محمد عبد السلام كفافي، دار المكتبة
العصرية، بيروت - صيدا، 1967، ط1، المجلد الثاني،
ص67-73.
|