السنة التاسعة / العدد الرابع والعشرون / كانون أول  2013م / صفر  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

اختصاص قوم نبي الله يونس (عليه السلام) برفع العذاب

السيد عباس أبو الحسن

 

مقدمة

إنّ من يتدبر في آيات القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى قد تحدّث عن كثير من الأمم السابقة، وقصَّ قصصهم، وأنّ أنبياء تلك الأمم قد بذلوا الوسع ولم يدّخروا جهدًا في سبيل هدايتهم ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى، إلا أنهم عتوا وأصروا على كفرهم وعنادهم فأنزل الله سبحانه وتعالى العذاب عليهم، قال تعالى حاكيًا عن نزول العذاب على قوم نبي الله صالح (عليه السلام): {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ* قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ* وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}([1]).

ولكن القرآن الكريم يحدّثنا عن أمَّتين لم ينزل الله العذاب عليهما:

الأولى: أمَّة سيد المرسلين محمد |، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([2]).

والثانية: أمَّة نبي الله يونس على نبينا وآله وعليه السلام.

موضوع البحث: اختصاص قوم النبي يونس (عليه السلام) بكشف العذاب عنهم

قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حاكيًا عن قوم نبيه يونس (عليه السلام) {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}([3]).

خلاصة القصة

قال صاحب الميزان في تفسيره: [خلاصة ما يُستفاد من الآيات بضم بعضها إلى بعض واعتبار القرائن الحافّة بها، أن يونس (عليه السلام) كان من الرسل، أرسله الله تعالى إلى قومه وهم جمعٌ كثير يزيدون على مائة ألف، فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب والردّ، حتى جاءهم عذابٌ أوعدهم به يونس، ثم خرج من بينهم، فلما أشرف عليهم العذاب وشاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان والتوبة إلى الله سبحانه، فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا] .([4]).

وهنا ترد عدة أسئلة

السؤال الأول: لماذا كُشف العذاب عن قوم يونس (عليه السلام) دون غيرهم؟

والجواب: إن من يطالع قصص الأنبياء وينظر إلى عناد قومهم وكفرهم وتعنتهم، يرى أنهم لم يؤمنوا بأنبيائهم ولم يسلموا لهم مع ما جاءوهم به من معجزات، حتى أنزل الله سبحانه العذاب عليهم، بل تجد بعض الناس حتى مع رؤيتهم العذاب لم يسلموا ولم يقنعوا، بل اعتقدوا أنه حادث عابر، فهذا ابن نبي الله نوح (عليه السلام)، مع ما رأى من الطوفان وعلى الرغم مما خاطبه به نبي الله (عليه السلام) من أنه لا راحم اليوم من أمر الله ، إلا أنه اعتقد أن الماء لن يصل إليه إذا صعد إلى أعلى الجبل، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}([5]).

وهؤلاء قومُ عادٍ لما أنذرهم نبي الله ورأوا العذاب قالوا هذا عارض ممطرنا، قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}([6]).

إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من الأحداث التي مرّ بها أقوام الأنبياء، ولكن فيما يخص قوم يونس نجد أنها الأمة الوحيدة من أمم الأنبياء التي آمنت حق الإيمان قبل نزول العذاب، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}([7]).

قال صاحب تفسير الأمثل:

إن كلمة [ لولا] تعني هنا النفي كما ذكر بعض المفسرين، ولذلك تمَّ الاستثناء منها بواسطة " إلا " ....

إلا أن البعض الآخر يعتقد بأن كلمة "لولا" لم تأتِ بمعنى النفي، بل أتت دائمًا بمعنى التحضيض -ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض- إلا أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون النفي ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ"إلا" ([8]).

فعلى المعنى الأول -أي أنها للنفي- يكون المعنى: لم تكن قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب، أو آمنت فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس فلما آمنوا نفعهم إيمانهم.

وعلى القول الثاني -أي أنها للتحضيض- يكون المعنى: هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها لكن لم يكن شيء من ذلك إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي، فكان رفع العذاب عن قوم نبي الله يونس (عليه السلام) مسببًا عن إيمانهم الحقيقي، وتكون هذه الأمة هي الوحيدة التي آمنت بأجمعها قبل نزول العذاب.

السؤال الثاني متفرع عن جواب السؤال الأول : وهو أنه لماذا قبل الله سبحانه إيمان قوم يونس (عليه السلام)، ولم يقبل إيمان فرعون، وما الفرق بين الموقفين؟

وبكلمة أخرى إن الإيمان قبل نزول العذاب لم يقتصر على قوم يونس (عليه السلام) بل نجد أن فرعون ومعه آخرون من قومه أيضًا عندما رأوا العذاب، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}([9]).

الجواب: إن الفرق بين الإيمانين هو أنه مما لا شك فيه أنّ إيمان قوم يونس (عليه السلام) كان حقيقيًا وناجمًا عن اختيارهم، وعن توبة صادقة، ولأجل ذلك بقَوْا على إيمانهم واستقر وثبت الإيمان في قلوبهم، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}([10])، والظاهر من الآية أن نبي الله يونس (عليه السلام) بعد ما نجا مما ابتلي به، أُرسل إلى نفس قومه فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجل في علم الله عز وجل.

أما فرعون وقومه فكانت سيرتهم ادعاء الإيمان عند نزول العذاب، وبعد رفع العذاب يرجعون إلى الفساد، وهذا ما صرح به الله تعالى في كتابه العزيز {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}([11]).

روى عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار، قال حدثني علي بن محمد بن قتيبة عن حمدان بن سليمان النيسابوري، قال حدثني إبراهيم بن محمد الهمداني قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): لأي علة غرّق الله فرعون وقد آمن به؟ قال: [لأنه آمن عند رؤية البأس، وهو غير مقبول...]([12]).

ولقائل أن يقول: إن هذه الرواية تذكر أن الله لا يقبل التوبة عند نزول العذاب فكيف قبل توبة قوم يونس (عليه السلام).

وقد تصدى غير واحد للإجابة عن هذا التساؤل، ومنهم العلامة المجلسي حيث نقل في البحار احتمالات ذكرها الرازي فقال:

[تحقيق: قال الرازي: فإن قيل: ما السبب في عدم قبول توبته؟ والجواب أن العلماء ذكروا وجوهًا:

الأول: أنه إنما آمن عند نزول العذاب والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، لأنه تصير الحال حينئذ وقت الإلجاء، وفي هذه الحال لا تكون التوبة مقبولة.

الثاني: أنه لم يكن مخلصًا في هذه الكلمة بل إنما تكلم بها توسلاً إلى دفع تلك البلية الحاضرة.

الثالث: أن ذلك الإقرار كان مبنيًا على محض التقليد، ألا ترى أنه قال: {أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}([13]).

الرابع: أن أكثر اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم، ولذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حلَّ في جسده، فكأنه آمن بالإله الموصوف بالجسميّة وكل من اعتقد ذلك كان كافرًا.

الخامس: أنه أقرَّ بالتوحيد فقط، ولم يُقِرْ بنبوة موسى (عليه السلام) فلذا لم يقبل منه.

والأول هو الأظهر كما دلَّ عليه الخبر، إذ التوبة لا يجب على الله قبولها عقلاً إلا بما أوجب على نفسه من قبول توبة عباده تفضلاً، وقد أخبر في الآيات الكثيرة بعدم قبول التوبة عند رؤية البأس، فلا إشكال في عدم قبول توبته عند معاينة العذاب]([14]).

أقول: نعم إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل توبة العبد إذا كانت صادرة عن لقلقة لسان، بل لا بد من توفر شروط التوبة، والتي من أهمها: الندم على ما فعل، والعزم على عدم العود، وإصلاح ما أفسد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}([15])، وهذا ما حصل لقوم يونس، فإنهم لما رأوا العذاب ضجوا بالبكاء والرجوع إلى الله كما ورد في بعض الأخبار.

أما فرعون فإنه كان يظهر الإيمان عند نزول العذاب وبعد رفع العذاب يعود لكفره وعناده، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا}([16]) التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يدي نبيه موسى (عليه السلام) في مواجهة فرعون، من الطوفان والجراد والضفادع واليد البيضاء، والعصا التي انقلبت إلى ثعبان، والتي جعلت السحرة يذعنون ويخرون لله سجدًا، وهذه كانت كلها آيات ومعجزات دالة على نبوته سلام الله عليه، وعلى أنه رسول من رب العالمين، {فَكَذَّبَ وَأَبَى}([17])، فكان دأب فرعون إظهار الإيمان عند ظهور هذه الآيات المعجزة، ثم بعد رفعها كان ينكرها ويتهم نبي الله بالسحر، {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} ([18]).

والذي يظهر من بقية الآيات أن فرعون لم يتلفظ بشهادة الإيمان الحقيقية، ولم يعترف لله بالألوهية، ولم يعتقد بها، بل قال آمنتُ بالذي آمنتْ به بنو إسرائيل، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}([19]).

فيتضح من ذلك كله أن فرعون كان دأبه عند رؤية العذاب التظاهر بالإيمان، ولكنه بعد رفعه عنه يعود لإنكاره وكفره، وهذا بخلاف قوم يونس، فإنهم عندما رأوا العذاب، توجهوا إلى خالقهم، وتابوا توبة نصوحا.

أضف إلى ذلك أن شروط رفع العذاب لم تكن متوفرة عند فرعون في حال الغرق بخلاف قوم يونس فإنها كانت متوفرة.

ولتوضيح ذلك نقول: إن العلة لا تؤثر بمعلولها إلا بتوفر شرطين، أحدهما وجود المقتضي والثاني عدم المانع من التأثير، فإنَّ النار لكي تؤثر في الورقة وتحرقها لا بد من وجود المقتضي وهو اقتراب النار من الورقة ولا بد من عدمية المانع، فالمانع من تأثير النار في الورقة وجود الرطوبة، فالرطوبة مانعة من التأثير.

نأتي للبحث: فإنه لكي ينزل الله العذاب على قوم فلا بد من وجود المقتضي وهو كفرهم وجحودهم وصدهم عن الحق قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}([20])، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}([21])، ولكن بيَّنا أن تحقق العذاب مشروط بعدم المانع، والمانع من نزول العذاب هو توبتهم واستغفارهم ورجوعهم إلى الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([22])، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}([23]).

فشروط نزول العذاب توفرت لدى قوم نبي الله يونس (عليه السلام)، فهم كانوا مشركين بالله، وكانوا قبل نزول العذاب مصرّين على عنادهم، ولكن لما رأوا العذاب وُجد المانع الذي رفع العذاب عنهم وهو توبتهم الصادقة، وهذا بخلاف ما جرى مع فرعون فإنه توفرت لديه شروط العذاب ولم يحصل له المانع وهو التوبة الحقيقية، لأن دأبه كان التظاهر بالتوبة عند رؤية العذاب، ولكن عند كشف العذاب كان يعود لعناده، فلم تكن توبته صادقة كتوبة قوم يونس (عليه السلام).

السؤال الثالث: هل كان كشف العذاب تكذيبًا لما أخبر به يونس (عليه السلام)؟

الجواب: إن الله سبحانه وتعالى قد وعد في كتابه العزيز بأن يؤيد رسله والذين آمنوا وينصرهم ولا يكذبهم وهو القائل عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ}([24])، وعليه فلو أخبر  أحد الأنبياء أو الأوصياء (عليهم السلام) عن وقوع حادثة أو نزول رحمة أو عذاب على قوم، فلا بد أن يتحقق المخبَر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم.

وذلك يكون من وجهين:

الأول: بوقوع نفس المخبَر به كما هو الحال في إخبار صالح (عليه السلام) لقومه: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ}([25]).

الثاني: ظهور علامات وأمارات دالة على صدق مقالة النبي وإخباره، ويكون عدم تحقق هذه النبوءة لأجل تغير التقدير بالدعاء والعمل الصالح قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([26])، وقال جلّ اسمه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([27])، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([28]).

فهذه سُنَّة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعها، فإنه ينزل العذاب لأجل فسادهم وطغيانهم وكفرهم فإن رجعوا وتابوا وأصلحوا ما أفسدوا فإن الله غفور رحيم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَعِنُونَ * إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}([29]).

النتيجة: إنّ الله سبحانه وتعالى وعد نبيه بإنزال العذاب على قومه، وقد ظهرت أمارات العذاب، ولكن بعد توبتهم الحقيقية رُفِع عنهم العذاب، وعاد إليهم نبي الله يونس (عليه السلام) بعد ذلك فوجدهم يوحِّدون الله بعدما كانوا يعبدون الأصنام، وهذا ما يدلنا عليه قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ([30])، فتكون هذه الأمة هي الأمة الوحيدة من أمم الأنبياء التي قصَّ علينا القرآن الكريم قصصهم، والتي آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها.

ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

 ([1]) الأعراف 70-78.

 ([2]) الأنفال33

([3]) سورة يونس آية 98.

([4]) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 17، ص 166.

([5]) هود 40 - 43.

([6]) الأحقاف : 21 - 25.

([7]) سورة يونس آية 98.

([8]) تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،  ج 6، ص 269.

([9]) سورة يونس 92.

([10]) سورة صافات 148. 

([11]) سورة الأعراف 136.

([12]) الجواهر السنية، الحر العاملي، ص 64-65، ورواها الصدوق عن الهمداني.

([13]) سورة يونس 90.

([14]) بحار الأنوار ج13، ص 131-132.

([15]) سورة البقرة 160 

([16]) طه : 56.

([17]) طه : 56.

([18]) طه : 57.

([19]) يونس : 90.

([20]) سورة القصص 59.

([21]) سورة النساء 173.

([22]) الأنفال 33.

([23]) سورة آل عمران 136

([24]) سورة غافر 51

([25]) سورة هود 68

([26]) سورة الأعراف 96

([27]) سورة الأنفال 53

([28]) سورة الأنفال 33

([29]) سورة البقرة 161

([30]) سورة الصافات: 139-148.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع والعشرون