السنة التاسعة / العدد الرابع والعشرون / كانون أول  2013م / صفر  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

احتجاج النبي محمد (صلى لله عليه وآله)(*)

في ذكر طرف مما جاء عن النبي (صلى لله عليه وآله) من الجدال والمحاجّة والمناظرة

" وما يجري مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم "

 

قال الإمام  أبو محمد الحسن بن علي العسكري (صلى لله عليه وآله): ذكر عند الصادق (عليه السلام) الجدال في الدين وأن رسول الله (صلى لله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) قد نهوا عنه، فقال الصادق (عليه السلام): لم يُنهَ عنه مطلقًا، ولكنه نُهي عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([1]) وقوله {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([2]).

فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرَّم حرَّمه الله على شيعتنا، وكيف يُحرِّم الله الجدال جملةً وهو يقول: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وقال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}([3]) فجعل الله علمَ الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.

قيل: يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟

قال (عليه السلام): أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطِلاً فيورد عليك باطلاً فلا ترده بحجة قد نصبها الله، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقًا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجة له على باطله، وأما الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقِّ في يد المبطِل.

وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيَّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله له حاكيًا عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }([4]) فقال الله تعالى في الرد عليه: {قُلْ [يا محمد] يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ}([5]) إلى آخر السورة، فأراد الله من نبيِّه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟

فقال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَفَيَعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى، بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرَّفكم أنه على إعادة ما بَلِيَ أقدر، ثم قال {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}([6]) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوّزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادق (عليه السلام): فهو الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شُبَهِهِم.

وأما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقًا لا يمكنك أن تفرِّق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا هو المحرَّم لأنك مثله، جحد هو حقًا وجحدت أنت حقًا آخر.

وقال أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام): فقام إليه رجل آخر وقال: يا ابن رسول الله أفجادل رسول الله (صلى لله عليه وآله)؟

فقال الصادق (عليه السلام): مهما ظننت برسول الله من شيء فلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} لمن ضرب لله مثلاً، أَفَتَظنّ أن رسول الله (صلى لله عليه وآله) خالف ما أمر الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به.

ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يومًا عند رسول الله (صلى لله عليه وآله) أهل خمسة أديان: اليهود، والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو العرب.

فقالت اليهود: نحن نقول عُزَير ابن الله. وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به. وقد جئناك لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة. وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران. وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك، وإن خالفتنا خصمناك.

وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [بالجبت والطاغوت و] ([7])بكل معبود سواه.

ثم قال (صلى لله عليه وآله) لهم: إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرًا ونذيرًا وحجة على العالمين، وسَيَرُدّ كيد من يكيد دينه في نحره.

ثم قال (صلى لله عليه وآله) لليهود: أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا: لا.

قال (صلى لله عليه وآله): فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرًا ابن الله؟

قالوا: لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت، ولم يفعل بها هذا إلاّ لأنه ابنه.

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فكيف صار عُزير ابن الله دون موسى، وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورؤي منه من المعجزات ما قد علمتم. ولئن كان عُزَير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة فلقد كان موسى بالبنوة أولى وأحق، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعُزَير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجلّ من البنوة، لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون مُحدَثًا مخلوقًا وأن يكون له خالقٌ صنعَه وابتدعَه.

قالوا: لسنا نعني هذا، فإن هذا كفر كما دللت، لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره "يا بني" و"إنه ابني" لا على إثبات ولادته منه، لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه، وكذلك لمّا فعل الله تعالى بعُزَير ما فعل كان قد اتخذه ابنًا على الكرامة لا على الولادة.

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عُزَير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وأن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته، إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم، لأنكم قلتم إن عظيمًا من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه "يا بني" و"هذا ابني" لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضًا هذا العظيم [يقول]([8]) لأجنبي آخر "هذا أخي" ولآخر "هذا شيخي" و"أبي" ولآخر "هذا سيدي" و"يا سيدي" على سبيل الإكرام، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول.

فإذًا يجوز عندكم أن يكون موسى أخًا لله أو شيخًا له أو أبًا أو سيدًا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعُزير، كما أن من زاد رجلاً في الإكرام فقال له: يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، أَفَيَجوز عندكم أن يكون موسى أخًا لله أو شيخًا أو عمًا أو رئيسًا أو سيدًا أو أميرًا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له([9]): يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي أو يا أميري؟

قال (عليه السلام): فبهت القوم وتحيّروا وقالوا: يا محمد أجِّلنا نتفكّر فيما قد قلته لنا.

فقال (صلى لله عليه وآله): انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.

ثم أقبل على النصارى فقال (صلى لله عليه وآله) لهم: وأنتم قلتم إن القديم عزّ وجل اتحد بالمسيح ابنه، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار مُحدَثًا لوجود هذا المُحدَث الذي هو عيسى، أو المُحدَث الذي هو عيسى صار قديمًا كوجود القديم الذي هو الله، أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدًا سواه، فإن أردتم أن القديم صار مُحدَثًا فقد أبطلتم، لأن القديم محال أن ينقلب فيصير مُحدَثًا، وإن أردتم أن المُحدَث صار قديمًا فقد أحلتم، لأن المُحدَث أيضًا محال أن يصير قديمًا، وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى مُحدَثًا وكان الله اتحد به -بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده- فقد صار عيسى وذلك المعنى مُحدَثَين، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.

فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدًا على جهة الكرامة.

فقال لهم رسول الله (صلى لله عليه وآله): فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه.

ثم أعاد (صلى لله عليه وآله) ذلك كله، فسكتوا إلا رجلاً واحدًا منهم، فقال له: يا محمد أَوَلَستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟

قال (صلى لله عليه وآله): قلنا ذلك.

قال: فإذا قلتم ذلك فَلِمَ منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟

قال رسول الله (صلى لله عليه وآله): إنهما لن يشتبها، لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلّة([10])، والخَلّة إنما معناها الفقر والفاقة، فقد كان خليلاً إلى ربه فقيرًا وإليه منقطعًا وعن غيره متعفِفًا مُعرِضًا مستغنيًا، وذلك لما أُريد قذفه في النار فَرُمِيَ به في المنجنيق فبعث الله جبرائيل فقال له: أدرك عبدي. فجاء فلقيه في الهواء، فقال له: كلّفْني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك.

فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلاّ إليه. فسمّاه خليله، أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه، وإذا جعل معنى ذلك من الخُلّة، وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه. ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده، لأن معنى الولادة قائم به.

ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه، وجب أيضًا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى، فقولوا إن موسى أيضًا ابنه، وإنه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى أنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرتُه لليهود.

فقال بعضهم لبعض: وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال: "أذهب إلى أبي وأبيكم".

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه "أذهب إلى أبي وأبيكم" فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه، ثم إن ما في هذا الكتاب مبطِل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنًا له، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره. وأنتم تعلمون أن الذي خصّ به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى "أذهب إلى أبي وأبيكم"، فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها، لأنه إذا قال "أذهب إلى أبي وأبيكم" فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه، وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح، وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم، وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح، بل ما أراد غير هذا.

قال (عليه السلام): فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادِلاً ولا مخاصِمًا مثلك وسننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله (صلى لله عليه وآله) على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟

فقالوا: لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد، ولم نجد للأشياء حدَثًا فحكمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاءً وفناءً فحكمنا بأنها لا تزال.

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): أَفَوَجَدتم لها قِدَمًا أم وجدتم لها بقاءً أبد الآبد. فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم.

قالوا: بل لم نشاهد لها قِدَمًا ولا بقاءً أبد الآبد.

قال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فَلِمَ صرتم بأن تحكموا بالقِدَم والبقاء دائمًا لأنكم لم تشاهدوا حدوثها، "وانقضاؤها أولى من تارك التميّز لها مثلكم"([11])، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قِدَمًا ولا بقاءً أبد الآبد، أَوَلَستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ فقالوا: نعم.

فقال (صلى لله عليه وآله): أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا: نعم.

فقال (صلى لله عليه وآله): أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا: لا.

فقال (صلى لله عليه وآله): فإذًا مُنقطع أحدهما عن الآخر، فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريًا بعده. قالوا: كذلك هو.

فقال (صلى لله عليه وآله): قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار([12]) لم تشاهدوهما، فلا تنكروا لله قدرته([13]).

ثم قال (صلى لله عليه وآله): أتقولون ما قبلَكم([14]) من الليل والنهار متناهٍ أم غير متناه، فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء منهما. قالوا نعم.

قال (صلى لله عليه وآله) لهم: أقلتم إن العالم قديم غير مُحدَث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا: نعم.

قال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به، كما نرى البناء محتاجًا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم، وكذلك سائر ما نرى.

وقال (صلى لله عليه وآله) أيضًا: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان مُحدَثًا كيف كان يكون؟ وماذا كانت تكون صفته؟

قال (عليه السلام): فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمُحدَث صفة يصفونه بها إلاّ وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم، فوجموا وقالوا: سننظر في أمرنا.

ثم أقبل رسول الله (صلى لله عليه وآله) على الثنوية الذين قالوا: النور والظلمة هما المدبران، فقال (صلى لله عليه وآله): وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟

فقالوا: لأنا وجدنا العالم صنفَين خيرًا وشرًا، ووجدنا الخير ضدًا للشر، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضده بل لكل واحد منهما فاعل، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعَين قديمَين ظلمة ونورًا.

فقال لهم رسول الله (صلى لله عليه وآله): أَفَلَسْتم قد وجدتم سوادًا وبياضًا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلَين منها في محل واحد، كما كان الحَرّ والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا: نعم.

قال (صلى لله عليه وآله): فهلاّ أثبتم بعدد كل لون صانعًا قديمًا ليكون فاعلُ كل ضد من هذه الألوان غيرَ فاعل الضد الآخر؟ قال: فسكتوا.

ثم قال (صلى لله عليه وآله): فكيف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول([15])، أرأيتم لو أن رجلاً أخذ شرقًا يمشي إليه والآخر غربًا أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرَين على وجههما؟ قالوا: لا.

قال (صلى لله عليه وآله): فوجب أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف [وجدتم]([16]) حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبَّران جميعًا مخلوقان. فقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله (صلى لله عليه وآله) على مشركي العرب فقال: وأنتم فَلِمَ عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بذلك إلى الله تعالى.

فقال (صلى لله عليه وآله)لهم: أَوَهي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا: لا.

قال (صلى لله عليه وآله): فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا: نعم.

قال (صلى لله عليه وآله): فلئن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمَرَكم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.

قال (عليه السلام): فلما قال رسول الله (صلى لله عليه وآله) هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن الله قد حلَّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصوَّرنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حلَّ فيها ربنا.

وقال آخرون منهم: إن هذه صورُ أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثّلنا صوَّرهم وعبدناها تعظيمًا لله.

وقال آخرون منهم: إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له [فسجدوه تقربًا بالله]([17]) كنا نحن أحق بالسجود لآدم [إلى الله] من الملائكة، ففاتنا ذلك فصوَّرنا صورته فسجدنا لها تقربًا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أُمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها، وقصدتم الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها.

فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله): أخطأتم الطريق وضللتم، أما أنتم -وهو (صلى لله عليه وآله) يخاطب الذين قالوا: إن الله يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صوّرناها فصوّرنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حلّ فيها ربنا- فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات، أوََيحِلُّ ربكم في شيء حتى يحيط به ذاك الشيء، فأي فرق بينه إذًا وبين سائر ما يحلّ فيه من لونه وطعمه ورائحته، ولينه وخشونته، وثقله وخفته، ولِمَ صار هذا المحلول فيه مُحدَثًا قديمًا دون أن يكون ذلك مُحدَثًا وهذا قديمًا، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كان لم يزل، وإذا وصفتموه بصفة المحدَثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فَصِفُوه بالفناء، لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه، وجميع ذلك متغيِّر الذات، فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شيء، جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن، ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحلّه الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها، حتى يكون فيه جميع صفات المُحدَثين ويكون مُحدَثًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

ثم قال رسول الله (صلى لله عليه وآله): فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحلّ في شيء فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم. قال (عليه السلام): فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.

ثم أقبل رسول الله (صلى لله عليه وآله) على الفريق الثاني فقال: أخبرونا عنكم، إذا عبدتم صوَر من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين؟!

أما علمتم أن من حقّ من يلزَم تعظيمه وعبادته أن لا يُساوى به عبده، أرأيتم ملكًا أو عظيمًا إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا: نعم.

قال (صلى لله عليه وآله): أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون([18]) على رب العالمين.

قال (عليه السلام): فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.

ثم قال رسول الله (صلى لله عليه وآله) للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلاً وشبهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك أنّا عباد الله مخلوقون مربوبون، نأتمر له فيها أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدَّ إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه، فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه، ولم نخرج في شيء من ذلك من اتباع أمره، والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه، لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثم قال لهم رسول الله (صلى لله عليه وآله) أرأيتم لو أَذِن لكم رجل دخول داره يومًا بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره؟ أَوَلَكُم أن تدخلوا دارًا له أخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوبًا من ثيابه أو عبدًا من عبيده أو دابة من دوابه أَلَكُم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم.

قال (صلى لله عليه وآله): فإن لم تأخذوه أَلَكُم أخذ آخر مثله؟

قالوا: لا، لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أَذِن في الأول.

قال (صلى لله عليه وآله): فأخبروني الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا: بل الله أولى بأن لا يُتصرَف في ملكه بغير إذنه.

قال (صلى لله عليه وآله): فَلِمَ فعلتم؟ ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصور؟

قال (عليه السلام): فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا.

وقال الصادق (عليه السلام): فوَالذي بعثه بالحق نبيًا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله (صلى لله عليه وآله) فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً من كل فرقة خمسة وقالوا: ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.

احتجاج النبي (صلى لله عليه وآله) على جماعة من المشركين

وقال الصادق (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنزل الله {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}([19]) الآية، وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم:

لما قال { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} فكان ردًا على الدهرية الذين قالوا: إن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة.

ثم قال {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فكان ردًا على الثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما مدبران.

ثم قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} فكان ردًا على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة.

ثم أنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}([20]) إلى آخرها، فكان ردًا على من ادعى من دون الله ضدًا أو ندًا.

قال (عليه السلام): فقال رسول الله (صلى لله عليه وآله) لأصحابه: قولوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}([21]) أي نعبد واحدًا، لا نقول كما قالت الدهرية: إن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة، ولا كما قالت الثنوية: إن النور والظلمة هما المدبران، ولا كما قال مشركو العرب: إن أوثاننا آلهة فلا نشرك بك شيئًا، ولا ندعو من دونك إلهًا كما يقول هؤلاء الكفار، ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدًا تعاليت عن ذلك.

قال: فذلك قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}، وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا، قال الله تعالى يا محمد {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} التي يمنّونها بلا حجة {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} وحجتكم على دعواكم {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}([22])، كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها.

ثم قال {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} تعالى، يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في علمه {فَلَهُ أَجْرُهُ} وثوابه {عِندَ رَبِّهِ} يوم فصل القضاء {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} حين يخاف الكافرون مما يشاهدون من العقاب {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}([23]) عند الموت لأن البشارة بالجنات تأتيهم.


 
ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* اخترنا هذه الرواية من كتاب الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت548هـ)، ج1 ص14-25، تحقيق: السيد محمد باقر الخرسان، ط 1386هـ-1966م، دار النعمان، النجف الأشرف ؛ والرواية موجودة في تفسير الإمام العسكري ط1 1409هـ ، قم ؛ ورواها أيضًا العلامة المجلسي في بحار الأنوار ج9 ص255 عن تفسير الإمام العسكري .

 

([1]) العنكبوت: 46.

([2]) النحل: 125.

([3]) البقرة: 111.

([4]) يس: 78.

([5]) يس: 79-80.

([6]) يس: 81.

([7]) هذه الزيادة في بعض النسخ.

([8]) الزيادة في بحار الأنوار.

([9]) كذا في الأصل .

([10]) قوله (صلى لله عليه وآله): (من الخَلّة أو الخُلّة) والأولى بالفتح وهي بمعنى الفقر والحاجة، والثانية بالضم وهي بمعنى غاية الصداقة والمحبة، اشتق من الخلال، لأن المحبة تخللت قلبه فصارت خلاله، أي في باطنه، وقد ذكر اللغويون أنه يحتمل كون الخليل مشتقًا من الخلة بالفتح أو الضم (بحار الأنوار ج9 ص267).

([11]) كذا في الأصل .

([12]) تدرّج (عليه السلام) في الاحتجاج فنزلهم أولاً عن مرتبة الإنكار إلى مدرجة الشك بهذا الكلام، وحاصله أنكم كثيرًا ما تحكمون بأشياء لم تروها كحكمكم هذا بعدم اجتماع الليل والنهار فيما سبق من الأزمان، فليس لكم أن تجعلوا عدم مشاهدتكم لشيء حجة للجزم بإنكاره (بحار الأنوار ج9 ص267).

([13]) قال المجلسي -رحمه الله- أي فلا تنكروا أن الأشياء مقدورة لله تعالى، وأن الله خالقها أو لا تنكروا قدرة الله على إحداثها من كتم العدم ومن غير مادة، ثم أخذ (صلى لله عليه وآله) في إقامة البرهان على حدوثها وهو يحتمل وجهين:

الأول: أن يكون إلى آخر الكلام برهانًا واحدًا، حاصله أنه لا يخلو من أن يكون الليل والنهار أي الزمان غير متناه من طرف الأزل منتهيًا إلينا، أو متناهيًا من طرف الأزل أيضًا، فعلى الثاني فالأشياء لحدوثها لا بد لها من صانع يتقدمها ضرورة، فهذا معنى قوله: "فقد كان ولا شيء منهما" أي كان الصانع قبل وجود شيء منهما.

ثم أخذ (صلى لله عليه وآله) في ابطال الشق الأول بأنكم إنما حكمتم بقدمها لئلا تحتاج إلى صانع، والعقل السليم يحكم بأن القديم الذي لا يحتاج إلى صانع لا بد أن يكون مباينًا في الصفات والحالات للحادث الذي يحتاج إلى الصانع، مع أن ما حكمتم بقِدَمِه لم يتميز عن الحادث في شيء من التغيرات والصفات والحالات، أو المعنى أن ما يوجب الحكم في الحادث بكونه محتاجًا إلى الصانع من التركب واعتوار الصفات المتضادة عليه وكونها في معرض الانحلال والزوال كلها موجودة فيما حكمتم بقدمه وعدم احتياجه إلى الصانع: فيجب أن يكون هذا أيضًا حادثًا مصنوعًا.

الثاني: أن يكون قوله: (أتقولون) إلى قوله: (قال لهم أقلتم) برهانًا واحدًا بأن يكون قوله: (فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله) إبطالاً للشق الأول بالإحالة على الدلائل التي أقيمت على إبطال الأمور الغير المتناهية المترتبة، بناء على عدم اشتراط وجودها معًا في إجرائها كما زعمه أكثر المتكلمين، ويكون بعد ذلك دليلاً واحدًا كما مرّ سياقه.

ويمكن أن يقرر ما قبله أيضًا برهانًا ثالثًا على إثبات الصانع بأن يكون المراد بقوله (صلى لله عليه وآله): (حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار) لبيان أن حكمهم بحدوث كل ليل ونهار يكفي لاحتياجها إلى الصانع ولا ينفعكم قِدَمُ طبيعة الزمان، فإن كل ليل وكل نهار لحدوثه بشخصه يكفي لاثبات ذلك.

([14]) وفي بعض النسخ : (تقدم) بدل قوله (قبلكم).

([15]) إشارة إلى ما ذكره المانوية من الثنوية وهو أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور، والآخر ظلمة، وأنهما أبديان لم يزلا ولا يزالان، ثم اختلفوا في المزاج وسببه فقال بعضهم: كان ذلك بالخبط والاتفاق، وقال بعضهم وجوهًا ركيكة أخرى، وقالوا: جميع أجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل، فرد النبي (صلى لله عليه وآله) عليهم بأنكم إذا اعترفتم بأن النور يقتضي بطبعه الصعود والظلمة تقتضي بطبعها النزول ولا تعترفون بصانع يقسرهما على الاجتماع والامتزاج، فمن أين جاء امتزاجهما واختلاطهما ليحصل هذا العالم؟ وكيف يتأتى الخبط والاتفاق مع كون الطبيعتين قاسرتين لهما على الافتراق؟ (بحار الأنوار ج9 ص267-269).

([16]) هذه الزيادة في بحار الأنوار ج9 ص263.

([17]) كذا في الأصل .

([18]) أي تعيبون وتعاتبون.

([19]) الأنعام: 1.

([20]) الإخلاص1.

([21]) الفاتحة من الآية 5.

([22]) البقرة من الآية 111.

([23]) البقرة38.

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع والعشرون