السنة العاشرة/ العدد الخامس والعشرون /  حزيران 2014م / رمضان  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أدب الدعاء .. الفنّ المنفي

القسم الثالث

الشيخ مصطفى الشيخ سليمان يحفوفي

 

ثانيًا: الحقيقة الإلهية في أدب الدعاء

والآن وبعد أن تمّ لنا استعراض ما يلزم من نماذج الوجود المحسوس، فإنه يبقى علينا أن نستعرض شيئًا من النماذج المتعلقة بمرتبة وجود الحقيقة الإلهية وما لها من الخصائص والشؤون.

النموذج الأول: ظهور الحقيقة الإلهية وتجلّيها للإدراك.

رأينا في نماذج الوجود المحسوس أن ما استشهدنا به من النصوص كان يسير بنا من معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق، ومن إدراك الأثر وما له من خصائص إلى إدراك المؤثر وما له من صفات، فكان المعلول هو دليلنا على العلة، وكان الظلُّ هو مرشدنا إلى ذي الظل، وقد تعرَّفنا بذلك على أحد المناهج المعرفية التي يتّبعها أدب الدعاء، وهو المنهج السائد والرائج بين عموم الناس.

ولكن ثمّة منهج آخر في البين يرشدنا إليه أدب الدعاء، وهو منهج المعرفة المباشرة، أي المعرفة التي تفضي بأصحابها إلى إدراك المبدأ والأصل مباشرة، ومن دون حاجة إلى التوسّل بالظلّ، أو توسيط الأثر والمعلول، وهو المنهج الذي سنطَّلع على فحواه عبر النصوص التالية:

أ- دعاء الصباح

يقول الإمام علي (عليه السلام) في دعاء الصباح: [يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ وَجَلَّ عَنْ مُلاءَمَةِ كَيْفِيّاتِهِ، يا مَنْ قَرُبَ مِنْ خَطَراتِ الظُّنُونِ وَبَعُدَ عَنْ لَحَظاتِ الْعُيُونِ وَعَلِمَ بِما كانَ قَبْلَ أنْ يَكُونَ]([1]).

تصرِّح العبارة الأولى من هذا النص بأن الله تعالى قد دلّ على ذاته بذاته، فذاتُه سبحانه هي الدالُّ وهي المدلولُ في آنٍ معًا، ومن كان هذا هو شأنُه فأيَّةُ حاجةٍ تبقى بالمرء لكي يتوسًَّل إلى معرفته بالأغيار من الظلال والآثار؟!

وتأتي العبارتان الثانية والثالثة لتؤكدا على المعنى نفسه وتزيداه وضوحًا، ولذلك نجدهما تقولان: [وَتَنَزَّهَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ وَجَلَّ عَنْ مُلاءَمَةِ كَيْفِيّاتِهِ]، فهو سبحانه أرفع شأنًا من أن يشابه مخلوقاته، وصفاتُه أجلُّ وأسمى من أن تلائم الصفاتِ والكيفياتِ التي جعلها لتلك المخلوقات، فكيف لنا بعد هذا أن نتعرف عليه عزَّ اسمه عن طريق تلك المخلوقات وما يخصّها من الكيفيات، مع تساميه عليها، وبُعد الشبه بينه وبينها؟!

وعلى هذا المنوال تنسج العبارة الرابعة، فترشدنا إلى أن الله سبحانه قريب من خطرات العقول وبواطن النفوس، وهو في الوقت ذاته بعيد عن لحظات العيون ونظراتها، ولذلك فإنّ معرفتنا به تعالى لا تحتاج إلى توسيط قوانا ومداركنا الحسّية، وذلك لأن هذه المعرفة كامنة فينا، وممتزجة بطينة وجودنا.

وتشير العبارة الأخيرة إلى أن الله تقدسَّ اسمه قد علم بالأشياء قبل أن تتكوّنَ وتظهرَ على صفحة الوجود، فكان وجوده متقدمًا على وجودها، وعلمه سابقًا على ظهورها، فهي مفتقِرَة في وجودها إليه، لأنه هو علتها ومفيض وجودها.

ومما لا شك فيه أن موجَد الأشياء ومفيضَها هو آكد وجودًا، وأجلى ظهورًا من تلك الأشياء التي هي معلولاته والتي تستمد وجودها من وجوده، ومن البديهي عندها أن تكون معرفته أكثر وضوحًا وأقرب منالاً من معرفتها، ويغدو حينئذ التوسل بها لأجل الوصول إلى معرفته ابتعادًا عن الطريق، ومحاولةً لنيل الداني بما هو ناءٍ بعيد.

وخلاصة القول هي أن عبارات الدعاء المتقدمة تضعنا أمام منهج آخر لمعرفة الحقيقة الإلهيّة، هو منهج المعرفة المباشرة، والتي تتجه إلى موضوعها مباشرة، ودون أن تتخذ من الوجود المحسوس وسيلة، أو تنصِّبه جسرًا للعبور.

ولهذا المنهج منشؤه القرآني أيضًا، حيث ترجع أصوله إلى بعض آيات الكتاب العزيز، من قبيل قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}([2]).

وقد فسَّر العلامة الطباطبائي هذه الآية بقوله: [وقد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورًا عامًا تستنير به السماوات والأرض، فتظهر به في الوجود بعدما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أن ظهور شيء يستدعي كون المُظهِر ظاهرًا بنفسه، والظاهرُ بذاته المُظهِرُ لغيره هو النور، فهو تعالى نور يُظهِر السماوات والأرض بإشراقه عليها، كما أن الأنوار الحسّية تُظهِر الأجسام الكثيفة للحسّ بإشراقها عليها، غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها، وظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسّية غير أصل وجودها]([3]).

فالله تعالى ظاهر بذاته، وهو المُظهر لغيره من الموجودات، وهذا يقتضي أن تكون معرفته أوضح وأجلى من معرفة مخلوقاته.

غير أن أكثر الناس قد ضلّوا عن سلوك هذه السبيل، وذلك نتيجة لعوامل شتى أقامت بينهم وبين هذا النوع من المعرفة العديد من الحُجب، مما اضطرهم للاقتصار على سلوك الطريق الأول، بينما ظل سلوك الطريق الثاني مُقْتَصرًا على بعض الخواص فقط.

ولقد نسب إلى خاتم النبيين (صلى لله عليه وآله) أنه أشار في بعض كلماته إلى هذا الطريق الأخير، وذلك لمّا سأله سائل: [بماذا عرفت ربك؟]، فأجاب (صلى لله عليه وآله): [بالله عُرِفت الأشياء]([4])، وكذلك عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن المعنى نفسه حين قال: [ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله]([5]).

وإلى جانب آية النور، يمكننا أن نمثّل بآيات أخرى تدل على منهج المعرفة المباشرة إياه، ومنها الآية المباركة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}([6])، ومنها أيضًا قوله سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}([7]).

والآيتان تشيران إلى أن معرفة الله تعالى هي معرفة فطرية مغروزة في أعماق النفس الإنسانية، يلقاها الإنسان في طيّات نفسه، وقبل أن يتّجه نظره إلى الوجود المحسوس، وما ينطوي عليه من آيات ودلالات.

وربما يكون من المفيد هنا تقريب حقيقة المنهج المباشر بمثال من الواقع المحسوس، وهو مثال أستمدّه من إحدى تجاربي الشخصيّة، حيث كنتُ أُلقي في أحد الأيام محاضرة حول أدب الدعاء، ولما وصل بي الكلام إلى بيان حقيقة هذا المنهج سألت الحضور أن يخبروني عما تراه أعينُهم في تلك اللحظة. فكان أن جاءت إجاباتُهم بما هو متوقع عادة في مثل هذا المقام، حيث قالوا: إننا نراك، ونرى المنبر، والجدران، والنوافذ...، ولم يصرّح أيّ شخص منهم بأنه يرى النور، وذلك على الرغم من أنه ما كان يمكن للأشياء التي ذكروها أن تصير مرئية لولا رؤية النور أولاً.

والسر في ذلك هو أن أذهاننا قد اعتادت الانتباه للمرئيات، مع غفلتها عن السبب الذي هو علّة انكشافها. والأمر الذي يقف وراء تكوّن تلك العادة هو طبيعة حياتنا العملية التي تتعلق أغراضها غالبًا بالمرئيات أنفسها، مما يجعلنا نصبّ كل اهتمامنا عليها ونُشيح بوجوهنا عن النور الذي يظهرها ويجعلها قابلة للإدراك. وهذا ما دعا بعض أهل المعرفة لأن يصف النور بقوله: لشدة ظهوره اختفى.

والأمر عينه ينطبق على مسألتنا، إذ إننا نجد هنا أيضًا أن الحقيقة الإلهية هي أسبق وجودًا من العالم المحسوس، بل هي علة وجوده وسبب انكشافه، ولكننا مع ذلك نلتفت عادة، وننتبه أولاً للوجود المحسوس، ثم نتوسل به إلى معرفة علته وسبب انكشافه.

وأما أصحاب البصيرة النافذة فإنهم يوجهون أنظارهم نحو السبب الكاشف أولاً، ثم يرَوْن الأشياء وقد ظهرت للعيان بفضل انعكاس نوره عليها.

ب- دعاء السحر

يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء السحر: [بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ وَدَعَوْتَني إِِلَيْكَ، وَلَوْلا أََنْتَ لَمْ أََدْرِ ما أََنْتَ]([8]).

لا يحتاج هذا المقطع من دعاء السحر إلى مزيد شرح أو بيان، فهو يدل على المضمون نفسه الذي يدل عليه دعاء الصباح، وإن جاء ذلك بلون تعبيري مختلف، فدعاء الصباح يقول: [يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ]، ودعاء السحر يقول: [بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ] ، فمدلول الدعائين واحد، وإن استخدم الدعاء الأول في ندائه ضمائر الغيبة، بينما استخدم الدعاء الثاني في ندائه ضمائر الخطاب.

ج- دعاء عرفة

تُلحق([9]) بعض كتب الأدعية جزءًا أخيرًا بدعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)، ومن هذا الجزء نقرأ المقطع التالي: [إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟ أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيبًا]([10]).

يستبطن هذا المقطع من الدعاء وعيًا نافذًا بالوجود، يتجاوز وعينا المألوف ويتعدى إدراكنا المعهود، فنحن نوجّه أنظارنا عادة إلى مظاهر الوجود المحسوس، فنتجوّل بينها ونتأمل حقائقها، لنستدل بها بَعْدُ على علتها ومبدأ وجودها، وما ذاك إلا لأنا اعتدنا أن نرى الآثار المحسوسة أجلى ظهورًا وأوضح حضورًا من موجِدها ومبدع حقائقها.

بينما يأتي هذا الدعاء ليعلمنا -وعلى ديدن الدعائين السابقين- أن الحقيقة الإلهية أظهر وجودًا وأقرب إدراكًا من الوجود المحسوس وما ينتمي إليه من الكائنات والحقائق. ولذا فإن التوسل بالوجود المحسوس لمعرفة مبدعه وعلة صدوره، إنما يُؤدي إلى إطالة الدرب وتبعيد المقصد، وهو ما عبّر عنه الدعاء بالقول: [إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ]، والسرّ في ذلك هو أن وجوده تعالى دائم لا يغيب، وحاضر لا يأفل، وقريب لا تفصلنا عنه فاصلة، فما حاجتنا بعد هذا إلى إقامة البرهان أو اصطناع الدليل؟!

ولذا يُردِفُ الدعاءُ بطرح سؤاله الاستنكاري: [مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيبًا]؟!

وَزِد على ذلك أن الله تعالى هو الغني القائم بذاته، وغيره مفتقِر في وجوده إليه، ومن البديهي أن تكون العلة الغنية، القائمة بذاتها، والمفيضة لوجود غيرها، أجلى حضورًا من معلولاتها وأوضح ظهورًا من آثارها، وهذا ما حدا بالدعاء لأن يطرح سؤالاً استنكاريًا آخر: [كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟!].

بل ويمكننا المضي إلى ما هو أبعد من ذلك لنقول: إننا لو أنعمنا النظر قليلاً في أدواتنا الحسية التي نتوسل بها للاطلاع على كائنات الوجود المحسوس، لأدركنا أن هذه الأدوات أنفسها هي أيضًا من مبدعات الله تعالى، وأنها واقعة تحت رقابته سبحانه، ولذا نرى الدعاء يعلن هنا أنه أيّما عين لا تستشعر وجود تلك الرقابة، فليست هي في حقيقة أمرها سوى عين عمياء: [عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيبًا].

والنتيجة التي ننتهي إليها من كل ذلك، هي أن توجيه الهمّة نحو الدليل لأجل البرهنة على ما هو جليّ بذاته، وظاهر بنفسه، إن هو إلا تطويل للمسافة وتنكّب عن الطريق المستقيم.

غير أنه لا بد لهذه النتيجة من أن تثير سؤالاً وجيهًا في البين، إذ لسائل هنا أن يسأل: إذا كان التوسل بالدليل يؤدي إلى إطالة الطريق وبُعد المقصد، فما هي الوسيلة إذًا إلى طلب المراد وبلوغ الغاية؟

يجيبنا الدعاء على هذا السؤال بالقول: [فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ]، أي أرشدني إليك بعمل أو طاعة آتيهما فيقودانني نحوك، ويفتحان بصيرتي على معرفتك، ويهيئان قلبي لتلقي أنوار تجليك. وعلى هذا فإن الطريق الأقرب هو طريق السلوك والتكامل الإنساني، لا طريق التوسل بالكائنات والتردد في الآثار.

وأخيرًا، وقبل الانتقال إلى النموذج التالي، أودّ أن أشير إلى أننا اكتفينا بالنصوص السابقة للتمثيل على منهج المعرفة المباشرة لأننا وجدناها وافية للتنبيه على استخدام أدب الدعاء لهذا المنهج المعرفي، إلى جانب استخدامه للمنهج المقابل، وهو المنهج الحسّي([11]). كما وجدناها وافية أيضًا في التدليل على ما يختص به الأدب المذكور من القدرة على التعرض لمثل تلك المسائل الفكرية الدقيقة والعميقة، ولكن بأسلوب أدبي ساحر ومحبب.

النموذج الثاني: محبة مبدأ الوجود

تصدينا في النموذج السابق لطبيعة العلاقة المعرفية بالحقيقة الإلهية كما يصوّرها أدب الدعاء، ونمضي الآن إلى ذكر نبذة عن طبيعة الأحاسيس والمشاعر المتولدة عن تلك المعرفة القلبية المباشرة والعميقة.

ونقرأ لأجل ذلك المقطع التالي من مناجاة المحبين للإمام السجاد (عليه السلام) والذي يقول فيه:

[إلهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلا؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلا؟ إلهِي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ، وَأَخْلَصْتَه لِوُدِّكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَشَوَّقْتَهُ إلى لِقَائِكَ، وَرَضَّيْتَهُ بِقَضآئِكَ، وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِكَ، وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَأَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقِلاكَ]([12]).

يستخدم الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع صيغة استفهامية تقريرية تشي هي نفسها بحقيقة الجواب، فيمسي من نافل القول أن نقرر أن من ذاق حلاوة محبة ذاك الحبيب، فإنه لن يروم منه بدلاً، ومن أنس بقربه فلن يبتغيَ عنه حولاً، بل سيغدو حاله مثالاً واضحًا لقول الشاعر:

ملأت به قلبي وسمعي وناظري

 

 

وكلّي وأجزائي فأين يغيب؟!

 

ولا مِريَة في أن هذه المناجاة قد استطاعت أن تعبِّر خير تعبير عن الإحساس بمبدأ الوجود وعن الامتلاء بمحبته، حيث تسنى لها أن تفصح بأجمل بيان عن أحلى حالات العشق، وعن أقصى مراتب الهيام بالحبيب.

فإذا نحن وجهنا انتباهنا شطر ما يصوِّره النص من سموِّ المعشوق وشدة الهيام به، لوجدناه يضعنا في حضرة معشوق متفرد، بَهِيِّ الحضور، مطلق الجاذبية، بحيث لا يكاد المرء أن يتذوق رشحة واحدة من رشحات فيض محبته حتى يغدو أسيرها، فيغلقَ حينئذ باب قلبه عن جميع الأغيار، ولا يبقي في الدار غير الحبيب من ديار.

وأما إذا التفتنا ناحية البيان والقيم التعبيرية للنص، لرأيناه يأتي من ذلك بما يتناسب وخصوصيةَ شأنِ هذا المحبوب، ويتناغم مع لا تناهي جاذبيته.

ورَوْمًا للاختصار نكتفي في المقام بالإشارة السريعة إلى ثلاثة جوانب مما يرتبط بهذه الناحية. فنشير أولاً إلى ما ينطوي عليه النص من حلو الألفاظ وعذب الكلمات مما ينسجم تمام الانسجام مع التعبير عن حلاوة المحبة وعن مشاعر الهيام بالحبيب، وكل ذلك ظاهر في النص يلمسه القارئ عند تلاوة المناجاة ويحسّ به إحساسًا جليًا.

ونشير ثانيًا إلى طريقة عرض المناجاة لموضوعها وأسلوب سيرها فيه، لنجدها قد اعتمدت أسلوبًا بيانيًا تصاعديًًا، ينتهج طريقةً مشوّقةً، هي طريقة التدرج المتنامية في الكشف عن الموضوع، وهي الطريقة الأكثر تناغمًا مع ما يمر به المحب من تصعيد شعوري، وما يطويه من سير تكاملي في أثناء خوض تجربته.

ولذلك نرى المناجاة تنطلق من مجرد تذوق حلاوة المحبة، لترتب على هذا التذوق الوقوعَ في أسر ذاك الحبيب، والإعراضَ عن كل محبوب سواه. حتى إذا ما شعرنا هنا بأن المحبَّ قد نال كل مراده وبلغ غاية مناه، فإذا بالمناجاة تفضي بنا إلى مرحلة جديدة وأفق أبعد، فتمضي بالمحب إلى طلب الثبات وسؤال ديمومة حالة العشق التي صار إليها. بل إنها تمضي به إلى رجاء الترقي في مراتب المحبة ومنازل وصل الحبيب، فيسأل الله تعالى أن يجعله من أهل الاصطفاء والخلوص، ولذا نجده يردف بالابتهال:

[فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطْفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَولايَتِكَ وَأَخْلَصْتَهُ لِوِدِّكّ وَمَحَبَّتِكَ وَشَوَّقْتَهُ إِلى لِقائِكَ وَرَضَّيْتَهُ بِقَضائِكَ وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَأَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقَلاكَ].

ونلاحظ أخيرًا ما يبديه النص من جمال موسيقي أخاذ يتجانس مع رقة المعاني ورهافة الأحاسيس، مما يشكل صورة سمعية مؤنسة، تقوي دلالات الكلام وتحبب معانيه إلى القلوب.

وقد توسل النص لبث سحر موسيقاه بمؤثرات صوتية متنوعة:

منها -على سبيل المثال- اللجوء إلى التكرار، كتكرار الجملة الاستفهامية [مَنْ ذا الَّذِي ..؟] مرتين، وكتكرار حرف (الذال) في مطلع المناجاة خمس مرات.

ومنها استخدام السجع، وأمثلته بارزة على امتداد النص كله.

ومنها الموازنة بين الجمل، كما في قوله (عليه السلام) [اصْطْفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَولايَتِكَ، وَأَخْلَصْتَهُ لِوِدِّكّ وَمَحَبَّتِكَ].

إلى غير ذلك من المؤثرات التي يستدعي الحديث عنها دراسةً مستفيضةً وبحثًا مستقلاً.

على أن ما يجدر ذكره هنا هو أن أدب الدعاء لا يصطنع مثل هذه المؤثرات الموسيقية اصطناعًا، ولا يلجأ إليها كمجرد محسنات لفظية بقصد الزينة والزخرفة، وإنما هي تجيء كقيم جمالية تلقائية يتطلبها المعنى ذاته، فتتواشج لأجل هذا مع بنية النص، وتلتحم بخيوط نسيجه.

وللتدليل على ما نقول، يمكننا التمثيل بما ورد في مطلع المناجاة من تكرار لحرف (الذال)، وذلك في قوله (عليه السلام): [إِلهِي مَنْ ذا الَّذِي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً؟ وَمَنْ ذا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً؟].

فنلاحظ في المقام أن الحرف المذكور هو من الحروف الذلاقية السهلة الذي يشعر تكراره بسهولة ولوج هذا الذكر إلى القلوب.

كما نلاحظ أيضًا أن الموضع الذي يشكل مخرج النطق بهذا الحرف (ذ) هو طرف اللسان، وهو الموضع نفسه الذي يتم بواسطته تذوق الطعوم الحلوة، وبذلك يتحد الموضوعان، وتتماهى عملية النطق بعملية التذوق.

ولذلك نرى أن المناجاة حين أرادت التعبير عن حلاوة المحبة، قد جاءت بحرف (الذال) مكررًا، لتدمج بذلك عملية النطق بعملية التذوق، الأمر الذي يُشعِرُ المرءَ بأن تلاوته للكلمات تتعدى مسألة التلفظ بها، لتغدو فعل تذوق وعملية إحساس، وهذا ما ينحو بالكلمات إلى تجاوز وظيفتها الرمزية والدلالية، ليحيلها -علاوة على ذلك- إلى فعل عيني وواقع خارجي.

ويظهر لنا من كل ما تقدم أن المناجاة قد انطوت على أسمى عناصر القيم المعنوية والتعبيرية الممكنة، وهي عناصر لا تكاد تجتمع لعملٍ فنيٍّ، إلا وبلغت به الذروة العليا والمرتبة الفضلى في عالم الخلق ودنيا الإبداع.

ولما كان المجال لا يتّسع للإفاضة في نقل النصوص المعبّرة عن مشاعر الحبّ والهيام بمبدأ الوجود، فإننا نكتفي بسوق مثالين آخرين فقط من أمثلة هذا المقام.

ونستقي مثالنا الأول من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) إذا أحزنه أمر، حيث يقول:

[اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَفَرِّغْ قَلْبي لِمَحَبَّتِكَ، وَاشْغَلْهُ، بِذِكْرِكَ، وَانْعَشْهُ بِخَوْفِكَ، وَبِالْوَجَلِ مِنْكَ، وَقَوِّهِ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُ إِلى طاعَتِكَ،  وَاجْرِ بِهِ في أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَيْكَ، وَذَلِّلْهُ بِالرَّغْبَةِ فيما عِنْدَكَ أَيّامَ حَياتي كُلِّها]([13]).

وأما المثال الثاني فنستقيه من مناجاة المريدين وهو قوله (عليه السلام):

[فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَوآءُ عِلَّتِي، وَشِفآءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي. فَكُنْ أَنِيْسِي فِي وَحْشَتِي]([14]).

وأنتهز الفرصة هنا لأذكر بأنني كنت في أيام الدراسة الجامعية أحاولُ لفت أنظار زملائي إلى أهمية نصوص أدب الدعاء، وكنت أتعمّد حينها انتقاء النصوص التي تتحدّث عن محبة الله سبحانه، فأتلوها على مسامعهم، ولكن قلّما كان يحالفني النجاح في مسعاي هذا، ولذا صرت أعمد إلى تحويل تلك النصوص إلى نصوص غزلية، ثم أقوم بإلقائها بنغمة الشعر، لا بأسلوب تلاوة الدعاء. وإذا بهذه النصوص تبهرهم وتثير دهشتهم، فتتوالى منهم عبارات الثناء والتقدير ، فأعود حينها لأكشف لهم عن مصدر تلك النصوص.

وإذا أراد ا لقارئ أن يتحسّس معنى كلامنا هذا بطريقة سهلة، وبدون بذل أيّ جهد زائد فبإمكانه أن يعيد تلاوة بعض ما أوردناه من النصوص –كالنص الأخير مثلاً- مع تبديل بعض الضمائر فقط وبما يتناسب مع الخطاب الغزلي.

على أنه يجب الالتفات هنا إلى أن الطريقة المشار إليها لا تساهم في الإعلاء من شأن نصوص أدب الدعاء، بل هي تضعف من قيمتها حتمًا، ولكننا أردنا رفع بعض حجب الغربة عن هذا الأدب مساهمة منا في تقريب بعض ما يختزنه هذا الأدب من قِيَمٍ بيانية ومعنوية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) بحار الأنوار ج33 ص339 ، دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام).

([2]) النور من الآية 35.

([3]) السيد محمد حسين الطباطبائي: تفسير الميزان ج15، ص120. منشورات جامعة المدرسين في الحوزة العلمية-قم المقدسة.

([4]) محمد داود قيصري رومي: شرح فصوص الحكم، شركة انتشارات علمي وفرهنكي، ط1، ص477.

([5]) محمد صالح المازندراني: شرح أصول الكافي، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 1421هـ-2000م، ج3 ص83.

([6]) الروم 30.

([7]) الأعراف 172.

([8]) من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في السحر ، المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي .

([9]) يشك البعض في نسبة هذا المقطع من دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)، ويرى أنه لبعض المتصوّفة. ولكنّا بيّنا في المقالة السابقة أن الشك في نسبة بعض النصوص لا يضرّ بمطالب بحثنا، وذلك لأنه حتى على فرض عدم ثبوت النسبة فإن ذلك لا يُخرِج النصّ عن كونه واحدًا من نصوص أدب الدعاء، ولا عن كونه نصًا أدبيًَا له شأنه واعتباره. وللاطلاع على تفصيل المسألة يُرجَع إلى البحث الذي سطرناه في المقالة الأولى تحت عنوان: (الأسباب المحتمَلة لنفي أدب الدعاء: السبب الأول)، ويضاف إلى ذلك أنه وعلى فرض أن لا يكون هذا الجزء من الدعاء تابعًا لدعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة، فإنه على كل حال يبقى مستمدًا من أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، حيث أنه يكرر بعض مضامينها وهي أسبق منه زمانًا.

([10]) من تتمة دعاء عرفة للأمام الحسين (عليه السلام)، التي ذكرها السيد ابن طاووس في إقبال الأعمال. (راجع: بحار الأنوار ج59 ص227).

([11]) قد كان من الممكن لهذا البحث أن يكون أكثر استفاضة فيتوسع في شرح المنهجين المذكورين وفي بيان خصائص كل منهما، كما كان يمكنه أن يعرّج على ذكر الفلاسفة الذين استخدموا المنهج المباشر، ويبيّن طرائقهم المختلفة في كيفية استخدامه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن سينا، وصدر الدين الشيرازي، والغزالي، وديكارت ...، وكان من الممكن كذلك أن نستعرض بعض التسميات التي أطلقت على هذين المنهجين من قبيل: البرهان الإني والبرهان اللمي، أو البرهان الكسمولوجي والبرهان الأنطولوجي. إلا أننا آثرنا الاعراض عن تلك المباحث، وذلك إلتزامًا منا بما يتناسب وطبيعة بحثنا، ولكي لا يخرج بنا الأمر عن الموضوع الأدبي وما يلائمه من لغة ومصطلحات إلى موضوعات العلوم الأخرى وما تفرضه طبيعتها من لغة مناسبة ومصطلحات خاصة، غير أننا سطرنا هذا الهامش للتنبيه على المباحث المذكورة علَّها تنفع كمرشِد للمهتمين.

([12]) مناجاة المحبين، وهي المناجاة التاسعة من المناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد (عليه السلام).

([14]) مناجاة المريدين ، وهي المناجاة الثامنة من المناجاة الخمس عشرة للإمام السجاد (عليه السلام).

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس والعشرون