السنة العاشرة/ العدد الخامس والعشرون /  حزيران 2014م / رمضان  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الشاعر أحمد الصافي النجفي

شاعر السخرية والكبرياء

د. حسن جعفر نور الدين

 

لا أظن أن أحدًا كتبَ في السخرية والكبرياء، أو ضاهى في كليهما شاعر الزهد والبساطة أحمد الصافي النجفي، قيثارة العراق وشَبَّابة الرافدين، الذي حمل آلامه وأحلامه إلى خارج أمّ النخيل مِسْكِيَّة شطِّ العرب، بعد أن ضاق به الأمر وهو الشاب الثائر تطارده عيون الإنكليز، فيَمَّم وجهه صوب إيران، وهناك لاقى من الترحيب ما لم يكن بالحسبان، فانكبّ على مطالعة اللغة الفارسيّة حتى أتقنها، ثم مال إلى الترجمة ونشرِ المقالات في الصحف الإيرانية، وأنجز نقلَ رباعيات الخيام إلى العربية، وتقديرًا لكفاءاته عُيِّن أستاذًا للأدب العربي وعضوًا في دار الترجمة والنشر، وانتخب عضوًا في نادي القلم في طهران، وما لبث أن عاد إلى العراق سنة 1927م وفي صدره كنوز من الشعر والأدب، مما أثلج قلوب كثيرين من الذين التقوه فأعجبوا به واعتبروه نجمًا ساطعًا في سماء الشعر والأدب، ومن هؤلاء الزهاوي والشبيبي والرصافي والشيخ علي الشرقي ومحمد مهدي الجواهري وسواهم.

حاول الصافي بعد قدومه إلى بغداد الحصولَ على وظيفة حكومية بغية الاستقرار في الوطن، إلا أن صعوباتٍ حالت دون ذلك، علاوة على حالته الصحيّة التي ساءت كثيرًا، فنصحه الأطباء بالانتقال إلى سورية. وهكذا ترك العراق سنة 1930م، قاصدًا دمشق ثم متنّقلاً بينها وبين بيروت، وفي كليهما نسج أروع علاقات الوِدِّ والصداقة مع الأدباء والشعراء، وأصدر ديوان الأمواج سنة 1932م.

سبعة وثلاثون عامًا أمضى الصافي معظمها في وطن الأرز لبنان، مُطلِقًا خمسة دواوين لم ترَ النورَ وهي: "شباب السبعين"، "بلا اسم"، "كما جاء"، "تمرّد الشيب"، "المطعم".

أما مجموعاته المطبوعة فهي على التوالي: "الأمواج"،"أشعة ملونة"، "الأغوار"، "التّيار" "ألحان اللهيب"، "حصاد السجن"، "هواجس"، "شرر"، "اللفحات"، "الشلال".

إنه أحمد الصافي الذي اكسبه مسقط رأسه "النجف" لقبَه المعروف به، وخلال إقامته في لبنان كان حديث المعجبين والشعراء والأدباء، والسياسيين والصحافيين، يتحلَّقون حوله كما النحل على الزهر في مقاهي فاروق وأبي عفيف والحاج داوود ببيروت، ونَزْل رومانوس في صيدا، ومقاهي هانانا وكمال الصيفي في دمشق.

أحمد الصافي النجفي حَدَثٌ لا ينتهي، أبصرَته النجف سنة 1897م، ووَارَته في ترابها عملاقًا من عمالقة الرافدين سنة 1977م، تاريخان ما بينهما جَلَبَةُ المجد عندما تصهل فوارسُه ويبقى صهيلها مالئًا سمع الزمان.

الشعر والشاعر

يَعتبِر النجفي أن الشاعر إما أن يكون ملكًا أو أن يكون قاطع طريق، الملك لسلطته وقاطع الطريق لتفلُّته من القيود، ويرى أن الشعر أساسه من الشعور، وهو إحساس إذا احتدم تولّدت عنه فكرة ما.

وحول القديم والجديد يرى أن الشاعر متى صار شاعرًا، أي متى تأصلت فيه الملكة الشعريّة، لم يعد بحاجة إلى هذا الانزلاق في تيار التقسيمات التي لا تخلو من تصنُّع، والشاعر الحقُّ فيه القِدَمُ والجدَّة، بل هو متجدّد على الدوام، دون أن يتنازل عن أصوله القديمة، يقول في معرض هذا الحديث:

تفلسفَ في اكْتِناهِ الشعرِ قومٌ
فدعْ عنك التفلسفَ وارْوِ شعرا

 

 

فضاعَ الوقتُ وامتدَّ الطريقُ
فلي عين ترى وفمٌ يذوقُ

 

وإذا لم يكن للإنسان هذه الأصالة الشعرية، فعبثًا يتكلم عن قديم وجديد، بل يكون هنالك تكلّف وتصنّع.

وقد أجابه الشاعر رئيف خوري عن سؤاله: [ما رأيك في التهمة التي يوجّهها دعاة الشعر الحر إلى الشعر العامودي، من أن الوزن والقافية يمنعان الشاعر من الانطلاق في أداء معانيه؟]، إذ قال له: [العامل الرديء يتهم الآلة دومًا].

وكان الصافي لا يستسيغ الرمز في الشعر، ومن آرائه أنه معجب بجبران، ولكن لا يستسيغ رمزيته، ولا يؤيد تقسيم الشعر إلى مدارس، وليس من مؤيدي أعمال النقّاد، وعنده أن على الشاعر أن يعطي سجيّته دون أي اعتبار مسبق أو مفروض، وإذا شاء مؤرخو الأدب والنقّاد أن يصنّفوا الشعر، فهذا شأنهم، ورغم كل ذلك حظي الشاعر الطريف الظريف بمديح القريب والبعيد، خاصة من الأدباء والشعراء الذين عايشوه.

ولقبّه الأديب رئيف خوري بالشاعر العالمي، وكان يرى أنه لا يشبه أي شاعر عربي، القديم منه والحديث، ويماثله بجلال الدين الرومي صاحب كتاب المثنوي الذي يعتبره الفرس قرآن الشعر.

كذلك لقبّه نقيب الصحافة آنذاك كرم ملحم كرم بالشاعر العالمي، وحَسْبُه قول الشاعر أكرم زعيتر عن شعره إنه وحي يوحى. واعتبره الشاعر الزهاوي شاعرًا كبيرًا خليقًا بالإكبار، وأنه كوكب وقّاد في سماء الأدب. ولشدة إعجاب الجنرال ديغول بقصيدته التي مدحه فيها، أرسل إليه كتابًا بخط يده، يثني فيه على شاعريته بعد أن تُرجِمت القصيدة إلى الفرنسية.

وقد أكبر شاعريته الزعيم الإيراني محمد مصدّق، خلال زيارته للنجفي أثناء لجوئه إلى إيران.

هذا غيض من فيضٍ من آراء الأدباء والمفكرين في الصافي النجفي.

وكان يطرب للإطراء الحسن، والمديح الجميل، خاصة إذا صدر من أفواه بسطاء الناس، كما جرى له مع سائق سيارة أجرة وصاحب كراج، مدَحَا شعره وأثنيا عليه عندما التقى بهما خلال تنقّله من منزله إلى مقاهي بيروت، أو كما جرى له مع فتيات رأيْنَه في باب إدريس وصرخْنَ بلهفة: هذا هو أحمد الصافي النجفي، ثم مِلْنَ إليه ودار بينهنّ وبينه حديث عن الشعر والجمال.

كان يفتخر بهذه الإطراءات الشعبية ربما أكثر مما يسمعه من كبار القوم، وهو على كل حال كان حديث الناس والمجتمعات خلال عقدين من الزمن، يُسأل عن إمارة الشعر، فيكشف عن موقفه بدون تردد قائلاً: [إيليا أبو ماضي أحقّ بها من شوقي]. وله في ذلك بيتان([1]):

سألتني الشعراء أين أميرهم
قالوا وأنتَ فقلتُ ذاك أميركُم

 

 

فأجبتُ إيليا بقول ٍمطلقِ
فأنا الأميرُ لأمّةٍ لم تُخلَقِ

 

ومن سمات الصافي الأدبية أنه كان يحبّ الشعر الجاهلي، وهو يعلّل ذلك قائلاً: [إنه جاء من النبع، وفيه مشاعر الروح الصادقة، وبساطة الصحراء وامتدادُها، وجمال البداوة].

وكان يرفض الدعوة إلى العامية، أو إلى تغيير النحو أو إبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني مما كان يذكر على الساحة الأدبية، خوفًا من أن تنقطع الصلة بين الأمة العربية وتراثها العظيم، وقد ردّ عليه المهندس ميشال نحّاس قائلاً: [لا تخشَ على العربية ما دام القرآن موجودًا، فكل كلمة فيه تلمع مثل الألماس].

ومن مآثر الصافي أنه كان لا يحبّذ مهرجانات الشعر حتى أنه رفض فكرة مهرجان لتكريمه، عرَضَها عليه الشاعران جورج شكور وفوزي سابا، ويقول في هذا:

يُقامُ لي مهرجانُ الشعر مُصْطَنعًا

 

 

هيهات لستُ بهذا الزيفِ أنخدعُ

 

علمًا أنه حضر مهرجان العرائس بالقرب من بكفيا في الستينات .

الكبرياء وعزة النفس

هما أبرز ميزتين في خصائصه النفسية والشخصية، تربّى منذ الصغر على القيم والمثل العليا، في بيئة دينية صهرته على توجيهاتها السديدة، وقد رافقته عزّة النفس طيلة حياته، يمارسها فعلاً وقولاً، وحتى أنه بعد تقدّمه في السن، قَبِلَ بعد إلحاحٍ وترجٍّ راتبًا شهريا قدره مائة دينار، قدّمته له الحكومة العراقية بشخص سفيرها في لبنان آنذاك ناصر الحاني، بعد أن رفض أن يكون الراتب مائة وخمسين دينارًا.

ومن آيات كبريائه قوله في ديوان "أشعة ملوّنة" أبياتًا مشتهرة([2]) :

لا أرى أكبرَ مني
إن أجدْ أكبرَ مني

 

 

لا أرى أصغرَ مني
واحدًا فالله أكبرْ

 

وتلوح ظلال المتنبي هنا مع الفارق في الشخصيتين.

ويجتمع الكبرياء مع عزّة النفس في ميميّةٍ بحرُها الطويل، وعنوانها "حياتي"، نشرها في ديوانه "الأمواج"، وهي تصوير حاذق لنفسيّته بكل مزاياها([3]):

وكم عن طريقِ الذلّ أمكنني الغِنى
كأني مليكٌ بالفَخارِ متوّجٌ
تراه ونورُ الحقِّ شارَةُ مُلكِه
وأيُّ مليكٍ عاشَ حرًّا كعِيشتي
فلا تَبْنِ إلا مثلَ مجدي وسؤددي
وإني إذا ما رام ضيمي مُعْتَدٍ

 

 

فعفتُ الغِنى والذلَّ للعزِّ والعُدمِ
وليس له جندٌ سوى البأسِ والحلمِ
وقانونُه نشرُ المحبةِ والسلمِ
وهل مجدُ أربابِ العروشِ سوى وهمِ
فكلُّ بناءٍ غيرِ ذاكَ إلى هَدمِ
عَمدتُ لحدِّ السيف لا القذفِ والشتمِ

 

إنها أنفاس أبي الطيب المشتعلة بالعزة والكبرياء، ولعل هذا التشابه هو الذي دفع بالشاعر الفارسي (فروز انفر) إلى مخاطبته بعد أن أسمعه إياها الصافي في طهران سنة 1922م "إنك متنبّي عصرك"، ولعلّ الفارق بين الشاعرَين أن كبرياء الصافي ممزوج بالقناعة والبساطة والعفوية، والبُعد عن التزلّف، بينما كبرياء المتنبي مختلف عنه.

حتى أن الصافي في احتفائه بأشعاره وافتخاره بها على غيره من الشعراء شبيه بافتخار المتنبي، يقول الصافي([4]) :

قد قيل في الشعر حلّقْ
فقلتُ أَعْلو وأدنو
ولي بكلِّ محلٍّ
والشاعر الحرّ نسرٌ

 

 

فأنتَ في الشِّعرِ فحلُ
وأين شئتُ أحلُّ
من الوجود محلُّ
يسِفُّّ حينًا ويعلو

 

وتقع المشابهة في همزيةٍ بحرها الطويل، من أبياتها:

سَمَوْتُ بشعري فوق جيلي ولم يزلْ
فإن لم أكن من أمةِ الشعرِ واحدًا

 

 

يشكُّ بشعري معشرُ البلهاءِ
أكنْ أمةً أعلى من الشعراءِ

 

هذا صحيح إلا أن المتنبي كان يسعى للمجد الدنيوي والصافي ينفر منه، وهو الذي رفض عباءة أهداه إياها رئيس جمهورية سوريا آنذاك شكري القوتلي، وذلك خلال مائدة غداء دعاه إليها في منزله في الزبداني، بينما كان المتنبي متهالكًا للحصول على إمارة من كافور، وسفَحَ من أجلها وجه الشعر دون أن يحقق مبتغاه.

وغيرُ كثيرٍ أن يزورك راجلٌ

 

 

فيرجع ملكًا للعراقين واليًا

 

وأين هذا من قول الصافي:

أعشق العيش بسيطًا هادئًا

 

 

أشتهي الأرض مِهادًا وسريرا

 

إنه الكبرياء الذي يُعِزّ النفس ولا يوهنها ويهينها، وكبرياء المتنبي الذي ينحني أمام المغريات، ولعل كلاً منهما أفرط في ما ذهب إليه.

ولا يفتأ الصافي يدافع عن شعره، ويجيد التباهي به، إنه كبرياء التواضع في آن معًا، غامزًا من قناة أبي الطيب([5]):

في الشعر قدمًا قد أتى المتنبي
أنا ليس لي عقلُ النبيِّ وفِيَّ من

 

 

وشعاعُ شعري للتنبّوءِ ماحِ
روح النبيِّ محبّةُ الإصلاحِ

 

ويكفيه بذلك غنى، إنه كبرياء الإيمان لا كبرياء الإذعان، ويردُّ على منتقديه بشموخِ موقفٍ وكبرياءِ جريحٍ([6]):

قالوا قريضُك لفظُه صدَفُ
فأجبْتُهم أصدافُه دُرَرٌ
شعري كقصرٍ منه لو رفعوا

 

 

حينًا وحينًا لفظُهُ دُرَرُ
لو كان يُدرك كُنْهَهَا الفكرُ
حجرًا تَهَدَّمَ ذلك القصرُ

 

وخلال الصراع بين الجسد الواهن الضعيف والقلب الصلب الشجاع تنتصر الروح والقلب([7]).

إن ضعفي يحطني لحضيضٍ

 

 

وفؤادي يطير بي للسماء

 

هذا غيضٌ من فيضٍ من خواطر الصافي الشامخة المتواضعة، تحارُ في أيهما أمامك، المتواضع أم المتكبر، المبتسم أم العابس، الساحر أم الجادّ، فلنفتح جعبته الساخرة ونَعِشْ معه لحظات فيها من الغرابة الكثير.

الفكاهة والسخرية

محطات جذّابة ماتعة، اتّسمت بها قصائد النجفي، حتى أنها فاقت ما سواها قُربًا إلى النفس، ومتعةً للروح وأُنسًا للقلب، وهي نسيجُ شخصيته المفطورة طباعُها على السخرية النافذة، مواجهًا بها الشدائد والصعاب، وقد أدمن عليها مذ ألهمه الله حِرفة الشعر، تلك التي كانت آخر ما كان يحلم به، إذ كان مشغولاً بالعمل السياسي إلا أن الأزمات الصحية التي داهمته جعلته يعزف عنه، خاصة بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنكليز، والتي كان يدعمها ويؤيدها، ولذلك يقول هو نفسه: [لقد جعَلَت مني الأمراض شاعرًا يجيد نظم الشعر ولا يجيد خوض الحروب].

في جعبته الشعرية عشرات القصائد الساخرة، سخرية تعبر عما يجيش في نفسه من ردّات فعل تجاه ما يعانيه، لقد تجسدت فيه شخصيتَا ابن الرومي وأبي الشمقمق دون أن يذوب فيهما، أخذ من ابن الرومي بعض تشاؤمٍ ممزوجٍ بالسخرية ومن أبي الشمقمق الهزل الساخر، وهو على كل حال شاعر لا يُشَقُّ له غبار في انتقاء ما ومن يثير مزاجه النفسي.

يتشاءم ابن الرومي من صاحب اللحية الطويلة، هكذا خطر له، فراح يَسِمُه بأقذع الألفاظ، ويسخر الصافي منها طرافةً ومتعةً في التسلي وإظهار التبرّم والامتعاض مستحضرًا صديقه في رائيته المشهورة:

يا لحيةً أشبهُ شيءٍ بالدُّجى
نُبِّئتُ أن القِردَ من آبائه
تنتشرُ الأمراض من طياتِها
وهي تصيرُ في الشتاء غابةً
وهي كبيتِ العنكبوتِ عندَه
إذا رآها العنزُ هبّ نحوها

 

 

ضلَّ صاحبُها بها وما اهتدى
وأن ذا الشَّعر كان له رِدَا
إذ كلُّ مكروب بها قد اختفى
للقملِ فيها مكمنٌ ومختبا
يصيدُ فيها للغداء ما يَشَا
مقبلاً بها وفيها عفطَا

 

بهذه اللغة الواضحة العذبة الساخرة ينهال الشاعر على أصحاب اللحى الطويلة، هكذا دون ذنب أو جرم، إنها النزعة الفنية التي لا يفسرها هوىً في النفس وموقف من الشكل، والصافي ينتقي أدواته من محيطه الذي يعيش فيه، ثم يمعن فيها تهشيمًا وتعريةً، في نصوص لا تنقصها المتعة والتماسك وخفة الظل.

وويل أعدائه من صواعقه النارية كما نقرأ في يائيةٍ قاصمة:

صعقتُهم حتى بَرَى صَفْعُهُم يدي
وكلّمتهُمْ دهرًا فأصبحتُ أعرَجَا

 

 

ودِسْتُهُمو حتى غدَا النعل بالِيا
وألقمتهم نعلي فأصبحتُ حافيًا

 

إنه الهجاءُ المرُّ المذابُ في إناءٍ من السخرية الفجّة، تُرى أيُّ أعداءٍ هؤلاء...

والصافي صاحب نظر ثاقب وعينٍ لاقطة، وويلٌ لمن تُشَظّيه كلماته المختارة، ها هي تقع بين يديه "مستشفى" لم يُرَ فيها إلا الموت لمن يدخلون طالبين النجاة([8]):

ومستشفى متى يدخلْ إليه
كأنّ به كعزرائيل جندا
فللمِكْروبِ أكداسٌ تعالَتْ
مريدُ الانتحارِ إليه عجِّلْ

 

 

مريضٌ يسترِحْ من ذي الحياةِ
يُميتُ الناسَ من قبلِ الوفاةِ
على جدرانِه والنافذاتِ
يُرِحْكَ بدون ضربِ مسدساتِ

 

وتلوح في طيفه روح الحُطيئة، فينحو إلى نفسه ساخرًا من وجهه بأبيات ميمية قلّ مثيلها بين هَجَّائي أنفسهم([9]):

وجهي دميمٌ وقلبي
لو أستطيعُ حكمتُ
ولستُ أهوى وإني
لو كان وجهي بكفِّي
لو أن ربي بَرَاني
جَفَا المصوّر رسمي

 

 

عدوُّ كلِّ دميمِ
المرآةَ بالتحطيمِ
الدميمُ غير الوسيمِ
ألقيتُه في الجحيمِ
طيرًا براني كبومِ
إذ لاحَ بين الرسومِ

 

ومن أجمل ما قرأت في السخرية قوله في جارة له:

لي جارةٌ متقاعدهْ
زادت عَناي فأصبحت
هي مثلُ ساعتِها
كالميتِ جاوَرَ مَيتا

 

 

ليست لها من فائدهْ
للجسم مثلَ الزائدهْ
عقاربُها دوامًا جامدهْ
منذُ العصورِ البائدهْ

 

 لم يوفّر حتى نفسه في البيت الأخير، وما ضرّه لو كانت متقاعدة، لكن لا يُسألُ الشاعر عما يغريه في المدح أو في الهجاء.

هذي بعض متع الصافي وما أكثرها، ففي دواوينه أطباقٌ شتّى من ألوان الشعر لا يتسع المقام لذكرها، يكفي أن أودِّعَه بآخرِ بيت قاله على سُلّم الطائرة التي أقلّته إلى العراق بعد إِصَابَتِه في لبنان برصاصة طائشة من وطيس الحرب الأهلية، وكان قد فَقَد بصره، وعندما أطلّ أنشد والدموعُ تملأ وجهه:

يا عودةً للدارِ ما أقساها

 

 

أسمعُ بغدادَ ولا أراها

 


ــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) هواجس، ص35 .

([2]) أشعة ملونة، ص79.

([3]) أمواج، ص16.

([4]) أشعة، ص18 .

([5]) أشعة ، ص41 .

([6]) أشعة ، ص21.

([7]) أمواج، ص122.

([8]) أمواج، ص80 .

([9]) أمواج، ص99.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس والعشرون