السنة العاشرة/ العدد السادس والعشرون /  كانون أول 2014م / ربيع أول 1436هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

بين الصحابة والقرابة

الشيخ حاتم إسماعيل

 

تمهيد

وردت جملة من الروايات عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) تحثّ على الاقتداء بعليّ (عليه السلام) وآل البيت، من قبيل حديث المنزلة، أي قوله (صلى الله عليه وآله)  له: [أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي].

وحديث السفينة، أي قوله (صلى الله عليه وآله): >مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق<.

وحديث الثقلين، أي قوله (صلى الله عليه وآله): [إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض].

وحديث الغدير، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): [من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه].

وقوله (صلى الله عليه وآله): [علي مع الحق والحق مع علي].

إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة الواردة في حقهم (عليهم السلام).

ويمكن القول على العموم أنه (صلى الله عليه وآله)  لم يترك مناسبة أو فرصة سانحة إلاّ وبيّن  فيها مكانة أهل البيت (عليهم السلام)، وأظهر فيها موقعهم ووجوب مودتهم والاقتداء بهم، وخصوصًا موقع سيدهم وعميدهم علي (عليه السلام)، منذ بعثته الشريفة وحتى التحاقه بالرفيق الأعلى.

وهذا لا يجادل فيه أحد من المسلمين، وقد امتلأت به سائر المجاميع الحديثية، وهي في مجملها أحاديث متواترة.

في مقابل ذلك رُويَت عنه (صلى الله عليه وآله)  عدة روايات، تُظهر موقع الصحابة، وتحكي بعض فضائلهم، وتحثّ على احترامهم وتقديرهم، ووجوب الاقتداء بهم، من قبيل قوله (صلى الله عليه وآله): [أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم].

وقوله (صلى الله عليه وآله): [مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام فلا يصلح الطعام إلا بالملح].

وقوله (صلى الله عليه وآله): [الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه]([1]).

وقد يبدو للوهلة الأولى أنه لا منافاة بين الطائفتين من الناحية النظرية، إذ يمكن الاقتداء بالآل والصحابة معًا، من دون وجود أي محذور في البين. وهذا ما تبناه عامة أهل السنّة، حيث التزموا بعدالتهم جميعًا، وبراءة الذمة في الاقتداء بهم والسير على خطاهم، شرط ألا يؤثر ذلك في كرامة أي فريق، أو يؤدي إلى توهينه.

وبرّروا ذلك بأن الجميع من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأسسوا لذلك قاعدة أطلقوا عليها مصطلح "عدالة الصحابة"، ومحصلها: أن كل صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  عدول، لا يجوز الطعن فيهم، ولا النيل منهم، ولا التعرض لأشخاصهم، أو نقد أفعالهم([2]).

وهذه النظرية شاملة لجميع الصحابة بلا استثناء أو تفريق بينهم، مهما كانت درجة صحبتهم، ومدى معرفتهم أو التزامهم بما صدع به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال ابن حجر: [وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) مؤمنًا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيَهُ من طالت مجالسته أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يروِ، ومن غزا معه أو لم يغزُ، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى] ([3]).

المحاذير العملية لنظرية عدالة الصحابة

ونحن لا نريد مناقشة هذه النظرية، وإثبات صحتها أو عدم صحتها، فإن ذلك قد أشبعه علماؤنا رضوان الله عليهم بحثًا وتدقيقًا، وأثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك زيفها وبطلانها وبعدها عن الصحة، ومجافاتها للواقع والصواب، وإنما نريد أن نعرض -بإيجاز- إلى ما يعترضها من محاذير من الناحية العملية، ومعالجة مواطن التعارض بينها، بعد التسليم بصحتها وقبولها نظريًا.

وهذا ما يتوقف على بيان أمور:

الأمر الأول: إنه لا إشكال ولا خلاف في أن القرآن الكريم هو الكتاب المنزل على قلب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وقد وصل إلينا متواترًا كما أنزله الله تعالى، من دون أي تحريف أو تلاعب فيه، زيادة أو نقيصة، كما وعد تعالى بحفظه وصيانته من أن تناله أيدي الإثم والبغي، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}([4]). رغم وجود بعض الروايات من طريق كلا الفريقين، الدالة على تحريفه. إلا أن جميع المسلمين تبرّؤوا منها، وتعاملوا معها معاملة الموضوعات والمفتريات.

ولهذا نجد أن كل طائفة منهم قد نسبت القول بالتحريف إلى الفئة الأخرى، واتهمتها بالدسِّ والتزوير، بحيث لم تلتزم أية فرقة منهم بالقول بالتحريف، وهذا يعني وجود إجماع مركب بينهم على سلامة القرآن الكريم من التلاعب والتحريف.

الأمر الثاني: إن من الواضح أن الدين الإسلامي واحد، وأن الحق واحد كذلك لا يتجزأ، فإذا حصل الاختلاف بين الباحثين عن الحق والساعين إليه، فيستحيل أن يكونوا جميعهم محقين، وهذا أمر بديهي.

وبناء عليه، فإما أن يكون الجميع مبطلين، بحيث لا يصيب أحدهم الواقع أصلاً، وإما أن تصيب الحق فئة واحدة فقط، إذ من غير الممكن أن يتعدد الحق والصواب كما أسلفنا، مما يعني ضرورة وجود الفيصل بين الآراء، وهو يقتضي معرفته بالحق والباطل، وقدرته على التمييز بينهما.

ولا بد أن يكون الفيصل قادرًا على حسم مادة النزاع والتخاصم، وعالمًا بحقائق هذا الدين، أصولاً وفروعًا وتشريعات وقوانين، وبكل ما يتعلق بقضاياه ومسائله، وإلا لم يكن مستندًا في الحقيقة إليه، وهذا واضح، وإليه أشار قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}([5]).

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة -أعني وحدة الحق وعدم تفرقه بين فئات الناس- في عدة آيات شريفة، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}([6])، وقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ}([7]). وغيرها من الآيات المباركة.

الأمر الثالث: إن من الثابت أيضًا أن رواة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)  مختلفون في مدى وثاقتهم وعدالتهم، فإن منهم الصادق والكاذب، ومنهم العالم والجاهل، ومنهم الأمين في نقل الحديث والوضاع، وغير ذلك.

وهذا أمر طبيعي في حياة الناس، حيث تختلف المصالح والرؤى والغايات، باختلاف الأشخاص في اتباعهم واقتدائهم بالشخص الذي يرونه قدوة لهم، وإن كان إنسانًا عاديًا، فكيف إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإن دواعي الكذب والتزوير والاختلاق عليه كثيرة، وقد أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله)  نفسه عن هذه الحقيقة بقوله [ستكثر عليَّ الكذَّابة].

والميزان الحق في قبول الحديث ومدى صدقيته وإمكان التعبد به هو مدى موافقته للقرآن الكريم، وعدم منافاته معه. وقد بيّن هذه الحقيقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، في جملة من الروايات الواردة عنهم.

الأمر الرابع: إن أفكار الناس وآراءهم مختلفة ومتفاوتة، نتيجة لاختلاف أشخاصهم وطبائعهم، وهو ما تقتضيه طبيعة الاجتماع البشري.

من هنا فَهُمْ بحاجة -بحكم الضرورة- إلى من يوحِّد بين رؤاهم، ويجمع شتاتهم، ويبيِّن لهم ما ينبغي ويصلح نظام معاشهم ومعادهم، إذ بقاء الاختلاف من دون مرجع يرجعون إليه، يؤدي بالضرورة أيضًا إلى فساد النظام، ونقض الغاية التي وجِدوا من أجلها.

والصحابة -بل جميع الناس في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) - غير خارجين عن هذه القاعدة، ما داموا بشرًا تختلف سلائقهم، وتتفاوت مصالحهم في هذه الحياة، وينطبق عليهم ما ينطبق على سائر الناس، من الحاجة إلى جمع شتاتهم، ويوضح لهم طريق الحق والهداية إلى ما فيه صلاحهم.

ويكفي للدلالة على ذلك، ما رواه مسلم في صحيحه، عن عمار عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله)  أنه قال: [في أصحابي اثنا عشر منافقًا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط...] ([8]).

إذا تبيّنت هذه الأمور:

فيقع الكلام في أنه إذا حصل الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم، أو بينهم وبين أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ، فهل يوجد ميزان يمكن الرجوع إليه في حسم النزاع، ويكون منسجمًا مع الأوامر الإلهية، سواء كانت قرآنًا كريمًا، أو سنّة شريفة متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، قولاً أو فعلاً أو تقريرًا، أو لا يوجد مثل هذا الميزان؟.

وهنا نبادر إلى القول بأن من غير الممكن عدم وجود ميزان يكون حكمًا في موارد التنازع والاختلاف، لأن ذلك مناف للحكمة الإلهية، ولما يقتضيه القرآن الكريم، من أنه {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}([9])، و{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([10])، و{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}([11])، وغير ذلك من الآيات القرآنية الكريمة.

ذلك أن القرآن الكريم قطعي الصدور بإجماع المسلمين، كما أن الأحاديث المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله)  قطعية الصدور كذلك. وأما غيرهما من الروايات والسيرة، التي لم تبلغ حد التواتر فهي غير مأمونة من الاختلاق أو التلاعب والتزوير، وبالتالي فهي لا ترقى إلى أكثر من الظن بالصدور، مهما بلغت درجة الوثوق برواتها، و{إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً }([12]).

علاج التعارض:

إن إطلالة يسيرة على التاريخ الإسلامي تكشف، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه قد وقع الخلاف والتنازع، بين الصحابة على العموم من جهة، وبين آل البيت (عليهم السلام) من جهة أخرى، كما وقع الخلاف والتنازع بين الصحابة أنفسهم، وقد سُفِكت الكثير من دماء المسلمين نتيجة هذه الخلافات.

ومرد هذا الاختلاف إلى قضيتين أساسيتين، هما الحاكمية والقيادة، وفهم وتفسير قضايا الحياة على ضوء القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة.

وقد ظهرت هذه الخصومة والتنازع بعد التحاق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)  بالرفيق الأعلى، عندما انعقد مؤتمر السقيفة، بين عدد من المهاجرين والأنصار -كما يحدثنا التاريخ- واستمرت طيلة العصر الإسلامي الأول، وأسست لنشوء الدولة الأموية وما بعدها.

وأما في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) ، فلم يكن بمقدورهم معاندة الرسول والخروج على أوامره بشكل صريح وواضح، فكان (صلى الله عليه وآله)  الحكم الفصل في مختلف القضايا، التي كانت محل ابتلاء الناس، رغم ظهور بعض الاعتراضات من هنا وهناك، ورغم جرأة بعض الصحابة على مخالفة أوامره، بل وتخطئته في بعض الأحيان، إلا أنهم كانوا يعودون دائمًا إلى دائرة الامتثال والطاعة، وإن مكرهين، لصريح القرآن الكريم بخروج من يخالف أوامره (صلى الله عليه وآله)  من دائرة الإسلام إلى حظيرة الكفر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}([13]).

وقد أسست هذه الجرأة والمخالفات لظهور الأطماع والخصومات، التي نشأت وتأصلت في نفوس الناس في ما بعد، وتشكلت مدرستان في الأمة الإسلامية، إحداهما تدعو إلى التمسك بعلي (عليه السلام) ومن ورائه عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله). والأخرى مدرسة الصحابة -بحسب التسمية المشهورة- وهي التي جعلت من آل البيت مجرد رعايا في الدولة الإسلامية الناشئة.

وإذا لاحظنا أن القضايا المرتبطة بحياة الناس في العصر الأول، لم تكن من التعقيد والاتساع، بحيث يتشكل منها آراء اجتماعية واقتصادية وفكرية وغير ذلك، وإنما كانت منحصرة في المعالجة المباشرة للمسائل الناجمة عن الفتوحات، بل منذ بداية ما سمي بحروب الردة، أي بداية عهد الخليفة الأول، نجد أنها كلها ترجع إلى مسألة واحدة، وهي مسألة السلطة والحكم.

ذلك أن أحدًا من المسلمين لم يجادل في أفضلية علي (عليه السلام) على سائر المسلمين في مختلف المجالات، وأنه كان يشكل المرجعية الأخيرة لهم، في ما يرتبط بقضايا الدين، وأن حقيقة الصراع بدأت يوم السقيفة كما أسلفنا، بحثًا عن السلطة والسيطرة على رقاب المسلمين، وما تستلزمه من مصالح ترتد إلى الحاكمين وأتباعهم، وما يمكنهم جنيه أو فقدانه من مكاسب وأرباح. وقد صدق هارون الرشيد عندما خاطب ولده المأمون، حين سأله عن سبب عدم إرجاع الحق إلى أصحابه الحقيقيين، وهم أهل البيت (عليهم السلام)، فقال له: [يا بُنَيّ والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، إن الملك عقيم]([14]).

ولا يخفى أن حصر مسألة الحاكمية بدائرة السلطة والسيطرة، قد نشأت من جهل المسلمين الأوائل بأبعاد وحقيقة الولاية ومعناها، التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله)  لأهل البيت (عليهم السلام)، والتي تشمل كل مناحي الحياة في الدنيا والآخرة، ومن ضمنها مسألة الحكم والسلطة.

ولهذا نجد أن الخلفاء الأوائل، رغم سيطرتهم على رقاب المسلمين، لم يستطيعوا تجاوز علي (عليه السلام) والاستغناء عنه، بل كانوا لا يجدون مفرًا من الرجوع إليه في كل معضلة كانت تواجههم. ولم يبخل (عليه السلام) في تصويب المسار وتصحيح الخطأ، الذي ربما يؤسس لانحرافات كبرى في أسس الدين، وكل ذلك من موقع الحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين، وهو ما عبَّر عنه بقوله (عليه السلام): [لأُسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة].

ومهما يكن من أمر، ففي مقام علاج التعارض، إذا لم يمكن الجمع بين المتعارضين، على نحو يرفع التعارض والتنافي، لا بد من إعمال المرجحات، من خلال إبراز الشواهد والقرائن الدالة على تقديم أحدهما، وهي إما موافقة أحدهما لكتاب الله تعالى، وعدم موافقة الآخر، أو مخالفته للقرآن، فيقدم الموافق بالضرورة. ولا يحتمل موافقتهما له معًا، لأن لازمه ضياع الحق وعدم إمكان تحصيله، وهو نقض للغرض الإلهي من البعثة النبوية أصلاً، أو انقسام الحق بين المتخالفين، وكونهم جميعا مصيبين للواقع، وقد تقدَّم عدم إمكانه.

وإما تواتر أحدهما، بمعنى أن يكون مرويًا بطرق متعددة ومتكثرة، بحيث يمتنع تواطؤ رواته على الكذب، أي أنه وصل إلينا بطريق قطعي، ونجزم بأنه قد صدر فعلا عن النبي (صلى الله عليه وآله)  دون الآخر، فيقدم المتواتر على معارضه بلا إشكال ولا خلاف، بل لا معنى لفرض التعارض في مثل ذلك.

ولا يحتمل تواتر كلا المتعارضين، لأن لازمه أن يصدر عنه (صلى الله عليه وآله)  كلا الحديثين المتعارضين، مما يعني أنه يأمر بالشيء ونقيضه، وهو ما لا يصدر من عاقل، فضلاً عن حكيم، فكيف يصدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإن ذلك تكذيب لنبوته، وهو خروج عن الإسلام.

وإذا لم يترجح أحد المتعارضين، بمرجح قطعي، أمكن الرجوع إلى المرجحات الأخرى، من خلال جمع القرائن المرجحة، داخلية كانت أم خارجية، أم من ناحية السند.

موقف القرآن الكريم:

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، وأجرينا مقارنة بين الطائفتين، مستندة إلى آياته الشريفة، لوجدنا:

أولاً: بالنسبة إلى روايات التمسك بالعترة المطهرة، وعلى رأسها سيدها علي (عليه السلام)، نجدها متوافقة تمام الموافقة مع الآيات القرآنية.

وللدلالة على ذلك يكفي أن نذكر آية التطهير، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}([15]).

وآية المودة، وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}([16]).

وآية الولاية، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}([17])، فإن مما لا شبهة فيه أنها نزلت في علي (عليه السلام).

وغيرها كثير من الآيات المباركة، الواردة في بيان فضل علي (عليه السلام) وإبراز حقه على الأمة كلها، والتي أنهاها عبد الله بن عباس إلى ثلاثمائة آية أو تزيد.

ثانيًا: بالنسبة إلى روايات الاقتداء بالصحابة، فإنّا لا نجد في القرآن الكريم أية آية تدل على لزوم اتباعهم أو الاقتداء بهم، فيما إذا خالفوا عليًا (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام).

إلا أنه قد يتمسك ببعض الآيات المباركة لإثبات ذلك، بل قد استند إليها علماء مدرسة الصحابة، وهي في مجملها لا تدل على المدعى، إما لكونها أجنبية عنه، أو لأنها عامة قابلة للتخصيص، بحيث تنحصر دلالتها على اتباع فئة خاصة منهم، وهي التي تولت آل البيت (عليهم السلام)، بقرينة آيات أخرى كثيرة تُوَجِّه الخطاب إلى جيل الصحابة نفسه، وتحذرهم من الانحراف عن جادة الحق والصواب، أو لأن دلالتها مجملة لا يستفاد منها ما يدعونه، إلا بنحو من التكلف وَلَي أعناق النصوص، وهي جملة آيات:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}([18]).

بدعوى أن الآية الشريفة تخاطب الصحابة، وتصرح بأنه تعالى جعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس. وهو يقتضي نفاذ أقوالهم، كما تفيده الوسطية، وكونهم حجة على سائر الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كما تفيده شهادتهم عليهم.

ويلاحظ عليه:

أولاً: أن الخطاب فيها متوجّه لعامة المسلمين، حاضرهم وغائبهم، ومعاصرهم للنبي (صلى الله عليه وآله)  والآتي بعد زمانه (صلى الله عليه وآله). لأن مقتضى الأمة الوسط أنها وسط بين سائر الأمم، فالأمة هي التي تشكل نظامًا اجتماعيًا وعقائديًا وسياسيًا، خاصًا وجامعًا. وهو يستلزم أن تكون الأمة الوسط هي الأمة الإسلامية كلها، بجميع أعراقها وألسنتها وأزمنتها. فالآية أجنبية عن المدعى.

وثانيًا: إنه لو سلمت دلالتها على المدعى، وأن المراد بالأمة الوسط خصوص الصحابة، فإنما تتم دلالتها على ما اجتمع الصحابة -ومنهم آل البيت وعلى رأسهم علي (عليه السلام)- عليه، دون ما كان موضع نزاع وخلاف بينهم، لأن المفروض أن شهادتهم على الناس من حيث هم أمة، أي من حيث هم مجتمعون.

ولازم ذلك أن تكون هذه الآية مخصصة بما دل على انحراف بعضهم عن جادة الحق، كما لا يخفى.

وثالثًا: إن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله)  عليهم، تدل على أن من الممكن انحراف بعضهم عن جادة الصواب، والبعد عن الحق، وإلا لكان الصحيح أن يقول شهيدًا لكم، لا شهيدًا عليكم، فما لم يكن انحراف في البين لم يكن للشهادة عليهم أي معنى، إذ من الظاهر أن شهادته (صلى الله عليه وآله)  عليهم من سنخ شهادتهم على الناس كما يقتضيه ظاهر الآية الشريفة.

الآية الثانية: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}([19]).

بدعوى أن الآية الكريمة قد وصفت الذين بايعوه تحت الشجرة بأنهم مؤمنون به حقًا، وصرحت بأنه تعالى قد أعلن رضاه عنهم، وأنه أنزل السكينة عليهم نتيجة لذلك. ومن غير المحتمل أن يصفهم بالمؤمنين، وأنهم موضع رضاه تعالى، وينزل السكينة عليهم، ولا يكونون عدولاً، فإن عدم كونهم عدولاً ناتج عن وقوعهم في المعاصي، وهو يتتبع الغضب عليهم وعقابهم، لا رضاه تعالى عنهم.

ويلاحظ عليه:

أولاً: أنه لا ملازمة بين البيعة والإيمان، لأن من الممكن أن يبايعه شخص لمصلحة يبتغيها، أو مفسدة يدفعها بتلك البيعة، أو نتيجة تعصب قبلي، أو اندفاع عاطفي، وهذا ما نلاحظه في الكثير من العلاقات عبر التاريخ، والآية الشريفة تعلن الرضى عن خصوص المؤمنين ممن بايعوه، دون كل من بايعه.

وثانيًا: لو سلمت دلالتها على رضاه تعالى عن كل من بايعه تحت الشجرة، فهي لا تشمل جميع الصحابة، وهذا ظاهر. فإن الصحابي -كما يقولون- هو كل من رأى النبي مؤمنًا به ولو مرة في حياته، مع أن بيعة الرضوان قد حصلت في السنة السادسة من الهجرة النبوية الشريفة، فالدليل أخص من المدعى.

وثالثًا: إن رضاه تعالى في هذه الآية الشريفة ليس رضى مطلقًا وغير مشروط، ليستفاد منه لزوم الاقتداء بهم، وذلك لقرينتين:

الأولى: أنه بين سبب الرضى وهو زمني، لأن التعبير جاء بـ{إذ}، وهي سواء كانت تعليلية أو ظرفية، فهي تدل على أن الرضى ناتج عنها، وهو لا ينافي عدم الرضى بملاك آخر، لو حصلت معصية ما.

الثانية: أنه ترتب على هذا الرضى فتح خيبر، الذي أشار إليه بقوله تعالى {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}، يعني أن جزاءهم على هذا الرضى الناتج عن البيعة قد تحقق لهم في فتح خيبر.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}([20]).

بدعوى أن الآية الشريفة قد صرحت برضاه تعالى عن جميع الصحابة، حيث دلت على أن السابقين من المهاجرين والأنصار قد نالوا رضاه تعالى، وكذلك الحال في الذين ساروا على خطاهم واتبعوهم. وهذا يعني رضاه عن الجميع بلا استثناء.

ولازمه وجوب الاقتداء بهم واتباعهم، لتحصيل رضاه تعالى أسوة بهم.

ويلاحظ عليه:

أولاً: أن الآية الشريفة قد وردت في سياق بيان أقسام الناس في زمانه (صلى الله عليه وآله)  ممن اتبعوه لأسباب مختلفة، وسياقها سياق الحث على الجهاد، وتبيّن أن منهم منافقين، ومنهم من يستأذنون النبي وهم أغنياء، ومنهم من وقع في الذنب ولكنه اعترف بذنبه وتاب، وهكذا. والمفروض أن كل هؤلاء من الصحابة، بحسب التعريف الذي ذكروه للصحابي كما تقدم.

فالآية الشريفة لا عموم لها.

وثانيًا: إنه لو سلم عموم الآية لتشمل قسمًا من الصحابة، وهم المقصودون بأصل سن قاعدة تحقق العدالة بالصحبة، فإن مثل هذا العموم غير آبٍ عن التخصيص، فتكون مخصصة بالكثير من الآيات التي وردت في مقام اللوم والتقريع والذم، خصوصًا أولئك الذين تمنعوا عن الجهاد، من قبيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}([21]).

هذا فضلاً عن سائر المخالفات التي ابتلوا بها، ونزل في بيانها قرآن يتلى إلى يوم القيامة.

وثالثًا: إن الآية قد قيدت السابقين بالأولين، فليس المراد كل من دخل الإسلام في مرحلة متقدمة، وإنما أرادت خصوص الأولين الذين آمنوا وتحملوا ونصروا الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وهم فئة خاصة يمثلها علي (عليه السلام) بالدرجة الأولى. وإلا فكثير من المؤمنين الذين دخلوا هذا الدين لا تنطبق عليهم المواصفات المذكورة، خصوصًا وأن التقريع الوارد في جملة من الآيات وقعت على الذين آمنوا، كما في الآية المذكورة قبل قليل.

وهناك آيات أخرى ادعيت دلالتها على لزوم إتباع كل الصحابة، وإمكان الاختيار بينهم، لا تختلف عن هذه الآيات المذكورة، في قصورها عن الدلالة على المدعى.

والحاصل أن القرآن الكريم يدل على وجوب اتباع آل البيت (عليهم السلام) المتمثلين بعلي (عليه السلام)  والذين اتبعوه وساروا على نهجه وخطاه، دون سواهم.

وأما سائر الصحابة فلا دلالة فيه على لزوم إتباعهم مطلقًا، بل يؤكد على لزوم التمييز بينهم والاقتداء ببعضهم، ممن اتبع سبيل الحق والهدى، لا جميعهم.

موقف السنّة المتواترة:

وأما السنّة المتواترة فموقفها لا يختلف عن موقف القرآن الكريم، في مسألة حسم النزاع وفض الخلاف، فيما لو حصل بين الصحابة، وفيما بينهم وبين علي وأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا أمر ظاهر بملاحظة ما تقدم، فإنه بعدما تبيّن أن القرآن الكريم لا يمكن أن يأمر بالمتناقضات، لأنها لا يمكن أن توصل إلى الحق، كذلك بالنسبة إلى السنّة المتواترة، فإنها لما كانت قطعية الصدور فإن نتيجة مخالفتها للقرآن الكريم، أو تناقضها فيما بينها تؤدي إلى نفس المحذور المتقدم، وهو نقض غرض المولى، وبطلان الدين نفسه.

وذلك أنّا نجد أن الروايات الآمرة بإتباع العترة، والمبيِّنة مكانة علي (عليه السلام) في الإسلام، وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، نجدها كلها متواترة، كما شهد به عامة علماء المسلمين، وقد أثبت تواتر خمسة عشر حديثًا منها الشيخ أحمد الماحوزي، في كتاب "سلسلة الأحاديث المتواترة في النص على الإمام علي (عليه السلام)، برواية أهل السنّة والجماعة"، واستقصى فيه مختلف المصادر المعتمدة لديهم.

في مقابل ذلك، نجد أن روايات الاقتداء بالصحابة، لا ترقى إلى درجة اليقين، لو سلمت صحتها، وأمكن الاعتماد عليها، لكونها أخبار آحاد، بل إن قسمًا من أئمة الحديث ناقش في أسانيدها وضعفوها، وصرحوا بأنها لا يمكن الاحتجاج بها([22]). فلا ترقى إلى معارضة أحاديث العترة الطاهرة، فلا بد من الالتزام بسقوطها عن الحجية.

يضاف إلى ذلك أنها معارضة بجملة من الروايات الواردة في ذم الصحابة، وأن بعضهم يساق بهم إلى النار، وقد وردت في الصحاح والمسانيد المعتبرة عند أهل السنّة والجماعة.

من قبيل ما رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، أنه قال: [إنكم تحشرون حفاة عراة، وإن أناسًا من أصحابي يؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي أصحابي، فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم].

وما رواه البخاري عنه (صلى الله عليه وآله)  أنه قال: [بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين، قال: إلى النار والله، قال: إنهم ارتدوا بعدك القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم].

وما رواه مسلم عنه أنه قال: [ليردن ناس من أصحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا من دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك]([23]).

وهي روايات كثيرة، تدل بمجملها على أن الاقتداء بمثل هؤلاء الأصحاب يؤدي إلى النار لا محالة.

ولا يخفى أنه في مقام التعارض لا بد من تقديم هذه الطائفة، لموافقتها للقرآن الكريم والسنّة القطعية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فتسقط  الطائفة المعارضة، وهي الدالة على وجوب اتباع الجميع، عن الاعتبار.

ولو فرض تكافؤ الطائفتين، وعدم ترجيح إحداهما على الأخرى، ولم يمكن الجمع بينهما، أي استحكم التعارض والتنافي بينهما، فلا بد من الالتزام بسقوطهما عن الاعتبار معًا. ويكون المرجع هو الأصل، أي عدم جواز الاقتداء بأحد منهم.

ونتيجة لذلك تبقى أحاديث اتباع علي (عليه السلام) والعترة المطهرة (عليهم السلام) سليمة عن المعارض، فيجب الالتزام بها، كما هو مقرر وثابت في باب تعارض الأدلة.

ومن الظاهر أن هذه المعالجة مجرد معالجة فرضية، فإن المسألة ترتبط بالعقائد، لأن مرجعها إلى من يمكن أن يكون مفسرًا وقيّمًا على الدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومن تؤخذ منه معالم الدين، أصولاً وفروعًا، وهي مما لا يصح الاكتفاء فيها بالظنون.

محاذير الاقتداء بالصحابة:

إلا أن أتباع مدرسة الصحابة قد أصروا على أن الصحابة كلهم عدول، يصح الاقتداء بهم، وتبرأ الذمة بذلك، وأنهم من أهل الجنة، وأن من ينتقص أي واحد منهم يريد إسقاط الكتاب والسنّة، فهو من الزنادقة([24]).

ولا يخفى أن الالتزام بهذا القول يؤدي إلى محاذير كثيرة، نذكر منها:

أولاً: أن يكون القاتل والمقتول في الجنة، كما حصل في حروب الردة، وحرب الجمل، وصفين، والنهروان، وغيرها مما حصل بين الصحابة أنفسهم.

وهو قول مخالف لسائر الآيات القرآنية الناهية عن قتل النفس المحترمة. بالإضافة إلى تعدد الموازين، حيث قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً}([25]) ، وهذا الحكم سار على جميع الناس. فتمييز الصحابة وخروجهم عن عموم هذا الحكم نقض للقرآن الكريم، وتمييز ظاهر بين الناس.

ثانيًا: إن وقوع المعصية من الصحابي لا يخلُّ بعدالته وإيمانه، بل ربما تعد من حسناته، بخلاف حصولها من غيره، كما حصل مع خالد بن الوليد حينما قتل مالك بن نويرة، وتزوج امرأته ودخل بها من ليلته.

وغير خفي أن النص القرآني صريح في أن الزاني يثبت عليه الحد، فإنزال العقوبة على سائر الناس إلا الصحابة مخالف للقرآن الكريم والسنّة القطعية، وتمييز بين الناس.

ثالثًا: أن يكون المؤمنون والمنافقون معًا في الجنة، وأن سيئاتهم تدوَّن في سجل الحسنات، وذلك لأن المنافق هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ومن الظاهر أن إبطان الكفر أمر نفسي مرتبط بالنوايا، التي لا يطلع عليها أحد. كيف؟ وقد قال تعالى لنبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله)  {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}([26]).

فلازم إظهارهم الإيمان، وعدم معرفة سرائرهم وبواطن نفوسهم، أن يكونوا من المؤمنين، وأنهم من أهل الجنة، ويجوز الاقتداء بهم، وهو مخالفة صريحة لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}([27]).

رابعًا: إن من الواضح أن الآراء قد اختلفت وتفاوتت بين الصحابة إلى حد التناقض، فالقول بصحة الاقتداء بأي منهم، وبراءة الذمة بإتباعه، وعدم جواز انتقادهم والتعرض لهم، يستلزم الدعوة إلى الاختلاف والفرقة والتناحر بالضرورة، لأن المفروض أن الجميع محقون ومصيبون، فاتباع جميعهم يستلزم اختلاف الآراء وتناقضها على مر الزمان.

هذا مع أن القرآن الكريم صريح في أن التنازع يستتبع الفشل، وفي التفرق النار، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}([28]).

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}([29]).

وقد بيّن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)  الملازمة بين التنازع والكفر بقول صريح، حين قال (صلى الله عليه وآله)  للصحابة: [لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض].

إن الالتزام مع كل ذلك بعدالة جميع الصحابة، وجواز الاقتداء بأي واحد منهم، يستلزم بالضرورة نقض الغرض الإلهي من البعثة النبوية الشريفة لجميع الناس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}([30])، وإبطال للدعوة والدين الإسلامي من الأساس.

نتيجة ما تقدم:

إن ما تقدم يدل دلالة حاسمة على أنه لا يمكن الالتزام بجواز أو وجوب الاقتداء بآل البيت (عليهم السلام) وبالصحابة في آن معًا، ولا يمكن الجمع بينهما، وأن الالتزام بذلك يعني ضياع الحق، وبطلان الدين، وتكذيب سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) ، وهدمًا للبنيان القرآني، وبالتالي إسقاط الدين الإسلامي من جذوره.

فإن التعارض مستقر ومستحكم بين الطائفتين، وليس بالإمكان الجمع بين القولين لتنافيهما.

وبناء عليه، فإن الأدلة القاطعة قد دلت على أن عليًا (عليه السلام) وأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) هم القدوة والأسوة، وهم الأئمة الذين يحفظون الدين من تحريف المبطلين، وتزييف المتربصين، وهم أمان الأمة من الاختلاف، فإن [مثَلَهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق]. فلا يمكن قياسهم بغيرهم. ومن أراد النجاة والسلامة فلا مناص له من اتباعهم والاقتداء بهم.

وصدق الإمام الشافعي حين قال:

يا آل بيت رسول الله حبكم
كفاكم من عظيم الفخر أنكم

 

 

فرض من الله في القرآن أنزله
من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) راجع: أضواء على السنّة المحمدية، محمود أبو رية، ص354-356.

([2]) الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجادي، ج1، ص10.

([3]) المصدر السابق، ص6.

([4]) سورة الحجر، آية: 9.

([5]) سورة يونس من الآية: 35.

([6]) سورة الأنعام من الآية: 153.

([7]) سورة يونس، آية: 32.

([8]) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين.

([9]) سورة النحل، آية: 89.

([10]) سورة الأنعام، آية: 38.

([11]) سورة فصلت، آية: 42.

([12]) سورة يونس: 36.

([13]) سورة الحجرات، آية: 2.

([14]) الدر النظيم، ابن حاتم العاملي، ص656.

([15]) سورة الأحزاب، آية: 33.

([16]) سورة الشورى، آية: 23.

([17]) سورة المائدة، آية: 55.

([18]) سورة البقرة، آية: 143.

([19]) سورة الفتح، آية: 18.

([20]) سورة التوبة، آية: 100.

([21]) سورة التوبة، آية: 38.

([22]) راجع أضواء على السنّة المحمدية، ص53 وما بعدها.

([23]) تقدم توثيق هذه الروايات.

([24]) الإصابة في تمييز الصحابة، ص10.

([25]) سورة النساء : آية 93 .

([26]) سورة التوبة، آية: 101.

([27]) سورة النساء، آية: 145.

([28]) سورة الأنفال، آية: 46.

([29]) سورة آل عمران، آية: 103.

([30]) سورة الأنبياء، آية: 107.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس والعشرون