"لست وحيدًا في الميدان"، عنوان
مجموعة شعرية للشاعر اللبناني خليل عكاش، تقع في مائة
وخمسين صفحة من القطع الوسط، صادرة عن دار الفارابي لعام
2012م، وهي السادسة بعد سلسلةٍ من المجموعات نذكرها
تباعًا وفقًا لتاريخ صدورها، "أناشيد السفر" 1983م، "كتاب
الهدى" 1988م، "أسميك الأميرة في النساء" 1995م، "أغنيات
الفجر" 2006م، "من كروم النصر" 2011م.
يمتد عُمْرُ الشاعر الشعري أربعين عامًا، كانت محطته
الأولى بيروت حيث أودعت فيه محارةً شعرية من بحرها
الفيّاض، إذ كان يجالس الشاعر العربي الكبير عمر أبو ريشة،
فيُسمِعَه قصائدَه ويستمع إليه، وشدّت مجالسته الشعرية
أيضًا للشاعرين الكبيرين سعيد عقل ومحمد علي شمس الدين من
عصبه الشعري وأورثته عدوى الشعر الخلاق، فانطلق ينسج على
نَولِه أثوابًا من الشعر الموشّى بأعراس الجمل ويواقيت
العبارات، وهو في الأساس متهَمٌ بِلَوثة الشعر، مُدانٌ
باقتراف الشعرية الهادفة.
عين على الشعر والشاعر
كانت أعظم أحزان الشاعر خليل عكاش استشهاد ابن أخيه
وعائلته جميعهم في أول غارة شنتها طائرات الكيان الصهيوني
على لبنان في اليوم الأول من حرب تموز 2006م، عندما قصف
العدو الغاشم منزلهم عند صلاة الفجر من اليوم الرابع عشر
من تموز، فكانوا أول شهداء تلك المرحلة، ولعل ديوانه الذي
نحن على ضفته الآن، كان عصارة ذلك الحدث وما تلاه، وهو
يذكر أنه لم يكن وحيدًا في الميدان، كان معه النهر والطير
والوادي والأحلام، جنود المعركة المثاليون مع رجال
المقاومة.
وعناوين القصائد هي نفسها شواهد على كمية الحزن التي أدمت
قلب الشاعر، ابتداءً من "أحوال الليل"، و"لست وحيدًا"، إلى
"الشجر المقتول" و"وادي الأسرار"، وما بينهما من عناوين
أخرى، هي أغصان هذه الشجرة الشعرية الوارفة التي أولدتها
أحوال النفس الإنسانية التي تكتوي بنار التحدي، وهي صامدة
صلبة كسفوح الجبال الجنوبية وقممها الشمّاء.
والشاعر في هذا السياق يُلحّ على مفرداتٍ محدّدة أكثر من
غيرها، إذ لا تكاد تخلو قصيدة من ألفاظ الليل والطير
والذئب والوحش والنهر والأحلام والأوهام، وفي أجوائها تغلب
النزعة الوجدانية المتألّمة على معظم النصوص، إلا أنها
سرعان ما تتقلّص في نهاية الديوان لتشيع أجواء التفاؤل في
قلب الشاعر، وتتحقق أحلامه التي تغلّبت على الأوهام التي
أقضّت مضجعه وحوَّلته إلى إنسان قلق، حزين.
ولم تكن المجموعات آنفة الذكر وحدها رصيد عكاش الشعري، فهو
ذو ماضٍ شعري حافل، وهي مع سواها -مما لم ينشر أو هو على
طريق النشر- خزّان عكاش الشعري وثروته الذهبية التي نسجها
بإبرة وعيه وموهبته، وصقلها تحت أفياء شجيرات الجنوب
العنيدة، وضفاف أنهاره الفضية الحالمة، لقد حقنها بنسيم
المروج المصبوغ بدم الشهداء، وصهرها مع أحزان الأمة
وأفراحها.
وهو على كل حال من أوائل الشعراء الذين اعتنوا بالشعر
المعاصر في مطلع الستينات، عندما كانت مجلة (ورود) واحة
قصائده وإبداعاته، إلا أنه ومنذ أواسط السبعينات ابتعد عن
الأجواء الشعرية كغيره من بعض الشعراء الذين لم تسمح
ظروفهم بسبب الحرب الأهلية من مواكبة حركة الشعر، علمًا
أنه لم تكن تنقصهم الإمكانية والمقدرة والإرادة، وقد
أضرّتهم الحرب من ناحيتين:
أولاً: فقدان معظم ما نظموه من شعر.
ثانيًا: أنهم لم يرافقوا جيل الشعراء الذين
تابعوا مسيرة الشعر وأثَّروا فيها.
كان من إطلالات الشاعر عكاش أواخر التسعينات وما تلاها،
مشاركتنا في مهرجانات شعرية كثيرة، وكان أحدها مهرجانات
اتحاد الكُتّاب العرب في دمشق، والتي جمعتني وإياه مع
مجموعة من الشعراء منهم: جورج طربيه، ومكرم حنوش، ومهى
قنوت، وهدى ميقاتي وحسين حموي، وعبد القادر الحصني، ومحمد
رجب، وعصام ترشحاني، وإبراهيم ياسين، وراتب سكر، وعبد
الرزاق عبد الواحد، وزهير هدله، وسواهم، كنّا آنذاك في عرس
شعري دائم.
وفي مجمل الأحوال، كانت مساحات من الشجن والحياة القاسية
والأمل الجميل لوّنت شعر عكاش، وشحذت موهبته، وخلقت نسيجًا
من الألفاظ انطوى عليها نتاجه الشعري، فهو شاعر الوطن وابن
الجنوب الصامد والقرية المناضلة (الدوير) والبيت القروي
الأصيل، من مرارات الطفولة والفتوّة والشباب عجن خميرة
شعره، وأطعمنا خبزًا شعريًا طازجًا من قمح الوجدان.
خلقت منه هذه الحياة الشاقة رجلاً ثابت الجأش، مصممًا على
خدمة الشعر، فأنشأ دار الغد العربي التي أصبحت سلوته
ومنتجعه الساحر.
التكرار اللفظي ورمزيته
تعتبر الألفاظ المكررة من زوائد الكلم إن لم يكن لها دور
في معنى الجملة وصياغتها، إلا أن قضية التكرار اللفظي في
قصائد الشاعر خليل عكاش ذات صلة عميقة بمزاجه الشعوري
والنفسي الذي رافق ولادة قصائده، بمعنى أنها عبارة عن رموز
استعان بها الشاعر لتفسير الهواجس التي رافقت رحلته
الشعرية وكتابة قصائده التي وُلدت على حدّ السكين، ومن بين
هذه الرموز المكررة التي بدت وكأنها من لوازم عمله الشعري
مِن ألِفه إلى يائه: الليل والوحش والنهر والطير والذئب
وغيرها، وفي أجواء هذه الرموز كان معلقًا في ما يشاهده
ويسمعه بين الأوهام التي يتخيلها والأحلام التي يتمناها.
ولذلك نلاحظ أن نسبة هذه المفردات (الرموز) قد خفّت كثيرًا
حتى أنها تلاشت في الصفحات الأخيرة من المجموعة، لأن
الغلبة كانت للأحلام على الأوهام، وهاتان المفردتان لم
تخلُ منهما معظم صفحات الديوان.
وللنهر في شعر عكاش حضورٌ لافت، لا يغيب خرير مائه عن أي
صفحة من الصفحات، وهو عنده رمز للخصوبة والعطاء والتجدد
والوضوح والنضال، يبحث عنه لِيَتَّحِدَ فيه ([1]):
ولكي
أتنفس
أبحث عن منجمِ خيرٍ
|
|
عن نهر أفنى فيه فتشربني الأشجار
|
ذلك هو الحلول الذي يرمي إلى تماهي الشيئين ببعضهما، رمز
لحلول جسد الإنسان مع الطبيعة، مع التراب الذي جُبِل منه.
وفي لفتة بلاغية بارعة، يصنع الشاعر من أحلامه نهرًا يقوده
إلى شاطئ الأمان حيث تظلله أشجاره الشعرية الوارفة من سعير
الألفاظ الجوفاء([2]):
دعني أصنع من أحلامي نهرًا
|
|
تورق فيه الأشجار
|
وتحتدم الصور تألّقًا عندما يجسّد الشاعر فتى الأنهار
وحاملَ رايتها (الليطاني) بطلاً مقاتلاً يهزم المحتلين،
ويحتفل بالنصر وينام قرير العين في عرزاله الذي يسمى
الجنوب:
أسرار الوادي يعرفها الحامل رايات الأنهار([3])
نام النهر قرير العين وقد عبر الفرسان
فالنهر بهيُّ الوجه بقامته
لا توقفه الريح ولا تلويه الأحزان([4])
أما الطير فهو في قصائد الشاعر رمز الانطلاق والحرية
والانعتاق، يحمل مجموعة الشاعر بجناحيه ويوزع زقزقته في
جميع الصفحات.
والشاعر يجسّد الطير ويفلسفه في صورة (البوعزيزي)، مفجر
ثورة تونس الحديثة، فهو طائر الفينيق نفسه الذي انتظره
الناس ليفكَّ الأغلال، القادم من قلب الواحات الخضر،
متغلغلاً في أنفاس النهر العاشق رمز الحرية والحركة
والانبعاث:
طير الفينيق البوعزيزي
الآتي من أحلام الزهر الأبيض
من وجع الأغصان
خاض الجرح العاتي بعصا موسى
فامتدت بين يديه الشطآن([5])
وهكذا يستحضر التاريخَ وعصا موسى ليكتمل في صوره البطل
الأسطوري، كل ذلك في أداء موفق وسيل من الصور البديعة
المتواترة بين النهر والطير.
ويخوض الشاعر صراعًا داميًا مع الليل، فهو خصمه اللدود،
رمز الحيرة والظلم والتشاؤم والاستبداد، ولنلاحظ هذا
التكرار المنطلق من كراهيته للّيل:
الليل الحائر يسألني عن نجم حطّ على يده وسرى
في ليل حطّ على نجم يسأل عن ليل مسكون في أحوال الليل([6])
فكان طير الفينيق (البوعزيزي) بالمرصاد لهذا الليل، فقد
أرابه وأرعبه ، وشقّ رمال النيل، إشارة إلى انتقال الثورة
إلى أرض النيل، إنه الصراع الدامي بين الطير (الحرية)
والليل (العبودية).
وفي قصيدة (طائر الوعد) ص65، يُنشب ليلُ اليأس أظافرَه،
لكن الأحلام تشق عراه، الأحلام عصا الشاعر التي يشهرها
دائمًا في وجه الريح، الذئاب، الوحش، الليل، في أماكن
متناثرة من الديوان:
ورأيت كيف تشقُّ ليلَ اليأس أحلامُ الرجاء
وكيف تبتكر الطيور على تلال النار
لحن الكبرياء([7])
والطير هنا رمز للمقاومين الذين يعزفون ألحان الكبرياء
والنصر، هكذا يوظف الشاعر الرمز للتعبير عن الأفكار التي
يطرحها في أداءٍ جاذب ولغة طبيعية آسرة، ويلتقي رمزا الريح
والليل في مقطع واحد كتعبير عن التعدي والظلم كما نقرأ في
قصيدة "رحماك يا أمي":
رحماك يا أمي ..الريح تعربد
في هذا الليل وراء الأبواب
الأحلام الوردية
في هذا الوطن المصلوب سراب([8])
هذا هو الليل ، عبء دائم على الشاعر، لا يبدّده إلا نور
العزيمة والإصرار:
هل جئنا للنزهة في هذا الليل
وأيّة شمس نبصرها ونهارات نسكنها([9])
بهذا التعبير اللافت والصور الراقية تأخذ الرموز في قصائد
خليل عكاش دورها في التعبير عن خفايا الأشياء ومكنوناتها:
ما أخفاه الصمت طويلاً تبديه الأيام([10])
الخلايا الموسيقية
برع الشاعر خليل عكاش في استخدام ألوان الموسيقى الشعرية
عبر استعماله للبحور المختلفة في مجموعاته الشعرية،
واقتصرت المجموعة التي تعنينا الآن على بحرين أو ثلاثة،
علاوة على استخدام النظام التفعيلي الذي استحوذ على معظم
نصوص المجموعة (فَعْلُن فَعْلن)، والذي يعتبر أحد أعمدة
الشعر الحديث مما يدعو إلى الاعتقاد أن الشاعر نظم قصائده
في أوقات متقاربة جدًا، حتى ليظن القارئ أن المجموعة تكاد
تكون قصيدة واحدة.
هكذا تتواءم الخلايا الموسيقية في أرحام الكلمات والجمل،
وتبرز النوتات والإيقاعات جليّةً عذبةً في هذا المقطع
المتناغم من قصيدة "تساؤلات":
عبثٌ ودخانٌ فوق دخان
هل للرؤيا في هذا الليل مكان
روَّيناها من مطر الفرحة
من ظمأ الأحزان
وأهديناها آهات الناي
على قصب الأجفان
ما زالت تلمع تحت غبار الأسرار
ترويها الأشجار، تغنيها
حنجرة الأنهار([11])
واسمع هذا النمط الموسيقى العذب تعزفه أوتار أبي طلال:
هل ينفد صبر الجمر
وينفجر الماء
وكأني في الميدان
أغنّي للوطن المحفور على الأجفان
النيل.. القلم.. الحلم المجروح
عَصِيَ السَّيفُ على الإذعان([12])
هنا وكأن سيمفونية عذبة تتمايل في هذه الأبيان وتقيم عرسًا
للكلمات.
وتستعر الموسيقى في هذا الجو الريان من بحر "البسيط"، في
نسق إيقاعي متوازن، محتشد بالصور الجمالية التي تغذي
الموسيقى بألوانها الزاهية:
ألا احذر الريح إن جُنَّتْ عواصفها
والذئب إن شفَّه في غزوه الترفُ
لقد أصاخت له الغابات ساجية
تغض طرف الحيا فاقتاده الصَّلفُ
وصال بين دروب النار فانتفضت
كأنها قدرٌ يأتي به الهدفُ([13])
ويأخذك بحر "المُحْدث" بأمواجه الموسيقية العذبة محاطًا
بشاطئه (القاف)، المفتوح على جزر المحار في مقطع شعري
غزلي، أجمل ما فيه جمع النقيضين، الجمر والبَرد:
أشكوه ويشكو من عتب
يمضي للغيم على وهنٍ
لا تبكِ لأوراقٍ سقطت
العلة في قلبِ وجلٍ
فكأن الصَّب على قَلقٍ
|
|
ونغني طوعًا للغرقِ
فيلامسُ أجفان الشفقِ
فالعلة ليست في الورقِ
يستهوي العيش على الحُرقِ
يتبردُ في جمر القلقِ([14])
|
أين الروح الجمالية؟
في قصائد الشاعر خليل عكاش ألوان من الجماليات تلتقطها
العين والبصيرة، خلال استطلاع القصائد، التي تكشف عن شاعر
متمكّن ذي تجربة شعرية عريقة، فهو يحسن المزج بين الألوان
في العبارات، ويقدِّم لوحات فنية جديرة بالاهتمام، ومن ذلك
مقطع من قصيدة "رحماك يا أمي" يحمل طاقة إكبار وإجلال:
يا من تسقي الأرض العطشى
من آهات يديها، وتغني الصبح الواعد
باسم جميع الأسماء
عاد الطير فعودي يا أمي
ليعود الزهر ويجري الماء([15])
تلك هي الأمومة المناضلة، التي تصنع الحياة وليس بدونها
حياة.
وما أجمل هذا المقطع المدهش الذي رسمته ريشة هذا الشاعر
الموفّق من قصيدته "وادي الأسرار":
أمي مع كل ربيع تأتي
والطير العائد بين التين وبين الزيتون
يصغي لهتاف العلّيق المنثور على ألواح الأيام
حكايات يرويها التعب المحفور على الأوراق
كوشمٍ يرتاح على خد الأغصان([16])
أمقطع شعري هذا أم حديقة أزهار؟! إن أمَّه هنا هي الطبيعة
التي تتوهج بالبهاء، كأنك لا تستطيع هنا أن تلحق هذا السيل
من الصور الجمالية التي يقطرها الشاعر كما يقطر الندى وجه
الصباح.
وفي لقطة جمالية أخرى تضج بالرموز والاستعارات، يرسم
الشاعر صورة الصراع بين الذئب الذي هو العدو وبين حماة
الأرض: الناس والأشجار:
جدّي قال .. لَكَمْ قال لنا جدي
احترسوا من غدر الذئب
الذئب على الأبواب
كلمات ينقلها الوادي وتردّدها الأشجار
أرواح الأجداد تحوم هنا
وتصدُّ الأرواحُ الأخطار([17])
وفي قصيدة "طائر الوعد" يبدع الشاعر صورًا جمالية ترتقي
إلى البهاء والروعة، هكذا يريدُ لطير الآفاق هذا -وهو
المقاوم العنيد- أن يحلِّق إلى حيث لا أبعاد بعده أبدًا.
مبالغةٌ مفرطة ، لكنها شائقة، يتحقق فيها الفجر السعيد
لهذه الأمة والوطن:
يا طائر الآفاق حلِّق
في المدى المتألق
فغدًا يطل الفجر، من فجر
الجبين المشرق
يا طائر الآفاق حلِّق
نحو سماء المطلق([18])
ويدلك هنا على طريق الحرية في أداءٍ جمالي ماتع، يتهادى
فوق جسر التعب إلى شطآن الأمان:
لا تخطئ دربك للحرية
فاصعد هذا الجسر العابر
من أنَّات ضلوعي حتى الشطآن([19])
******
خليل عكاش، شاعر مقاوم، في مجموعته التي كنا في ضيافتها،
بندقيّة شعرية تفسح لنفسها مع المقاومين، لترسم أرجوزة
النصر التي كتبها بمداد قلبه وسهره، حتى لا يبقى وحيدًا في
الميدان، أيّ ميدان.
([1])
"لست وحيدًا في الميدان"، للشاعر اللبناني خليل
عكاش، دار الفارابي 2012م،
ص12.
|