السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

 

(الشيخ مفيد الفقيه، عَلَم من أعلام جبل عامل)(*)

سماحة آية الله السيد علي السيد حسين يوسف مكي

 

 

أهمية العلم والعلماء

العلم من أهم ما جعله الله وأمر به في الحياة، بالعلم قامت السماوات والأرض، وبالعلم صلحت أمور الحياة واستقرت أمور الإنسان وانتظمت، ولأهمية العلم ولأنه يجب أن لا يكون بعيدًا عن عالم الإنسان ورد الحثّ على طلبه والتأكيد على السعي إليه، حتى لو كلفهم ما كلفهم من الجهد والطاقة والتعب والنَّصَب.

وقد ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله): (اطلب العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)([1])، وورد عن الصادق  (عليه السلام): (لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج)([2]).

وأكّد القرآن الكريم هذه المكانة والمنزلة للعلم والعلماء، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([3])، وقال تعالى: {قُـــلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}([4]).

فالعلم في الحياة الإنسانية وواقع هذا الوجود هو الأساس والمحرّك في تنمية وتطوير الحياة والوجود وقضايا الإنسان، ويبقى هو القوّة الفاعلة التي يُعتمد عليها في خَلْق الأجواء المناسبة في البناء والتكامل الإنساني والارتقاء في عالم الاستخلاف الذي جعله الله للإنسان بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}([5])، فإنه يزوّد الإنسان بالطاقة الكاملة وبالمناهج والأسباب التي توصله إلى ذلك، ليستمر في هذا الوجود، ويعيش كريمًا سعيدًا مرتاحًا مطمئنًا معافىً في نفسه وأهله وماله ومتعلقاته وغيره مما حوله.

هذا مضافًا إلى أنه يرتقي في عالم القدس والأخلاق والروحانية والجلال والطاعة والخدمة لله سبحانه، كلّ ذلك منطلقُه العلم، ولقد أشارت السُّنة الشريفة مؤكدة هذه الحقائق، قال أمير المؤمنين  (عليه السلام): (العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوّة الأبدان من الضعف، بالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم يُعرف الله ويوَحّد، وبالعلم توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام، والعلم أمام العقل، والعقل تابعه)([6]).

هذا هو العلم في واقعه وآثاره، بل جعله الله الحياة الحقيقية في الوجود الإنساني، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}([7])، ولم يدعُ إلى شيء كدعوته إلى العلم وإلى حكم الله وإطاعته، وقد ورد عن أمير المؤمنين  (عليه السلام) أنه قال: (يا مؤمن، إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك، فاجتهد في تعلّمها، فما يزيد في علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك، فإن بالعلم تهتدي إلى ربك، وبالأدب تحسن خدمة ربك، وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه، فاقبل النصيحة كي تنجو من العذاب)([8]).

ومن هذا البيان لفضل العلم وأهميته، يمكن أن يقرأ الإنسان فضل العلماء وأهميتهم في الحياة والوجود الإنساني، فإنه أعظم منّة يمنّها الله على عباده أن جعل لهم الوسائل والأسباب التي توصلهم إلى العلم النافع والهدى الواضح، وهي القرآن والسُّنة الشريفة، وجعل من خلالها الشريعة السهلة السمحاء التي فيها الحكم لجميع ما يحتاج إليه الناس في كل شؤونهم وأمورهم وقضاياهم، في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقياتهم واجتماعياتهم، وفي علاقاتهم بعضهم مع بعض على اختلافها، وأكّد على ضرورة العلم بها وتطبيقها في كل هذه الشؤون والأمور والوقائع، لأن لله تعالى في كل واقعة حكمًا، فالدعوة إلى العلم دعوة إلى جميع العلوم، وأشرفها هو العلم الموصل إلى السعادة الأبدية.

وقد انتهل العلماء من معين مدرسة أهل البيت  (عليهم السلام) وفيوضات علومهم الواسعة، مما جعل لهم أهميةً ومقامًا في إيصال هذه الأحكام وغالب أمور الدين والشريعة إلى الناس، وإحيائها في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم وفي أعمالهم، وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة والحق والهدى.

لذلك كان العلماء هم الحصن الحصين للدين والشريعة بعد أهل البيت (عليهم السلام)، وهم قوام هذا الدين وعماده في زمان الغيبة، خصوصًا وهم يرتقون في معارفهم وعلومهم بالتقوى، والورع والخوف من الله سبحانه وفي خدمة الله تعالى.

وقد أكّد الأئمة  (عليهم السلام) على صلاحيات هؤلاء بما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة وصحيحة أبي خديجة([9])، وبما ورد في تفسير العسكري  (عليه السلام): (.. فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأَمْر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه..)([10]).

وقد أكدوا  (عليهم السلام) أيضًا على مراتبهم ومنازلهم، ويستفاد ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في حق آحاد من أصحابهم  (عليهم السلام):

مثل: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، الذين ورد فيهم عن الصادق  (عليه السلام): (أربعة نجباء، أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست)([11]).

ومثل: زكريا بن آدم القمي، ويونس بن عبد الرحمن، والحارث بن المغيرة النضري، وأبان بن تغلب([12]).

ومثل: العمري وابنه، فعن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن  (عليه السلام) قال: (سألته وقلت: من أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال  (عليه السلام): العمري ثقتي، فما أدّى إليك عني فعنّي يؤدي، وما قال لك عني فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون، قال: وسألت أبا محمد  (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان، فما أديا لك عني فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عني فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)([13]).

ففي التأكيد على مثل هذه الصفات التي كانت عنوانًا لأصحاب الأئمة  (عليهم السلام) نقرأ أنه ينبغي أن يكون العلماء على صفة خاصّة من العلم، وحسن الرواية والفهم والثقة والصلاح، لأن هذا الدين أمانة كبرى من الله لعباده وعند عباده، ولذلك يجب أن يؤدّى بما هو وبشكل صحيح.

وإذا كان مقام العلماء في زمان حضور الأئمة الأطهار  (عليهم السلام)  بهذا الشكل وبهذه المرتبة والمنزلة، فما ينبغي أن يكون عليه العلماء في زمن الغيبة إما بهذا الشكل أو أكثر، فإنهم إن لم يكونوا كذلك وقعوا في الشبهات، وخاصة عند توارد الأمور وتشاكلها، وعند اختلاف الآراء وتضاربها، وعند اعتماد الاعتبارات والمقامات والدعايات والإعلام المشوّش والمشبوه.

فمقام العلماء ودورهم مهمّ وخطير جدًّا في حياة الناس، وصلاحياتهم كبيرة واسعة لا يسعها العلم فقط، بل العلم والحلم والحزم والتقوى والورع، والخوف من الله في السرّ والعلن، والخشية الدائمة، والحضور الدائم بين يدي الله تعالى، فما استؤمن العالم على أمور الدين وأحكام الله ووَلِيَ أمور الناس إلا لأنه متمحض خالص لله، مراقب لله، يعمل بما علم عن الله بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين  (عليهم السلام)، ولا بدّ له من هذه الصلاحيات لحفْظ النظام والصلاح العام والوقوف في وجه الظلم والشرّ والفساد والشبهات.

 علاقتي بالأخ الشيخ مفيد

الأخ الشيخ مفيد الفقيه، عَلَم من أعلام جبل عامل، من عائلة كريمة كانت ولا تزال تواصل مسيرتها في العطاء والتوجيه العلمي، وإثراء الفكر الشيعي بمختلف العلوم والمعارف، والتحقيق والتدقيق في الآثار العلمية التي وضعها العلماء والفقهاء رضوان الله عليهم.

عرَفْتُه من أيام النجف الأشرف، وَصِلَتي به لم تكن صِلَة زمالة وصداقة فقط، بل كانت صلة أبعد وأعمق من أن توصف بالصداقة، إنها الأخوّة في الله، والأخوَّة في الله لا يمكن أن يحويها الحديث أو تقيّمها الكلمات، ولا داعي لكثرة الحديث عنها.

نشأَتْ هذه الأخوّة أيام النجف المباركة التي عشناها بجوار سيد الأوصياء أمير المؤمنين  (عليه السلام)، وفي رعاية العلماء الأتقياء الأبرار، وتمكّنت في العقل والقلب في حلقات الدروس الأخلاقية والسلوكية مع بعض الأساتذة رضوان الله عليهم، والتي كان يباركها ويمكّنها أكثر وأكثر المقدّس المعظّم السيد الحكيم (قدس سره) بتوجيهاته، والسيد الوالد والعمّ الشيخ محمد تقي الفقيه رضوان الله عليهما كذلك.

هذا مضافًا إلى الرفقة والزمالة في الدروس الأصولية والفقهية التي كنّا نستقي أصولها وتحقيقاتها على يد الأستاذ المقدّس المعظّم السيد الخوئي (قدس سره) وغيره من الأساتذة.

فالأخ الشيخ مفيد الفقيه عالم فاضل جليل، ومن البقية الباقية من آل الفقيه في حاريص، والمعروفين بالفضل والعلم والخدمات الجليلة والعطاء العلمي والإصلاحي.

ومنذ أن حطّ الرحال في جبل عامل بعد إقامة طويلة في النجف الأشرف تواصَل اللقاء فيما بيننا، ولولا المسافة بين جبل عامل والشام حيث أقيم لكانت لقاءات لا تنقطع كما كانت عليه الحال في النجف.

وقد قام في فترة وجوده في جبل عامل بتأسيس حوزة "جامعة النجف الأشرف" في مدينة (صور) لتدريس السطوح وتدريس الدروس التخصّصية وما يسمى بعرفنا (دروس الخارج)، وتابعْتُ العمل معه والمشاركة في شؤون الحوزة، لأني كنت أرى ضرورة عودة الدراسة الدينية إلى جبل عامل بشكل منظم وواسع، وخاصة في دروس الخارج التي كانت ولا تزال قليلة جدًا.

فكان قيام الأخ الشيخ مفيد بتدريس الخارج خطوةً مباركة، وبدايةً مهمّة في إعادة الحركة الفكرية والعلمية إلى هذا البلد والجبل الأشم، الذي أثرى الفكر الشيعي بعلماء يُعتبرون القاعدة والأساس في الحركة العلمية في هذا البلد، حتى امتدّ نشاطهم إلى غيره من البلاد، بل إن ما ألّفه علماء جبل عامل من الموسوعات الفقهية وغيرها، والتي لا يستغني عنها فقيه من فقهاء الشيعة في أي مكانٍ كان، دليلٌ كبير على النشاط والسعة في الآفاق العلمية والبُعْد الفكري النيّر والدقيق، ولذلك كان علماء جبل عامل يشكّلون النسبة الجيدة والعالية بين علماء الشيعة عمومًا.

أقول هذا مع المحافظة والتأكيد على دور الآخرين من علماء الشيعة العظام والمحقّقين والمدقّقين، والذين لا يُستغنى عن آرائهم وتحقيقاتهم وفوائدهم، التي أملوها وسجلوها كأساس يحتاج إليه الفقيه والعالم والأديب والفيلسوف، وكل مفكر في نشاطه وحركته العلمية.

وضَعْفُ الحركة العلمية في جبل عامل في العقود المتأخرة وإن كانت له أسبابه العديدة، إلا أنها ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من الضعف لولا العامل السياسي الذي لعب دورًا مهمًا في ذلك، لأن رجل الدين والعالم الروحاني، في جبل عامل وغيره، كانت له السلطة وكانت له المركزية في الأوضاع العامة وفي حياة الناس، وكانت له الكلمة المؤثرة في الوسط الاجتماعي حتى على السياسيين، فكانت المحاولات المختلفة لتغيير هذا المعنى، وهذا ما حصل فعلاً تحت عناوين مختلفة، ولست بصدد الحديث عنها وبيانها في هذه المقالة، وما أنا الآن بصدده هو الحديث عن ضرورة إعادة الحركة العلمية إلى هذا الجبل، وإعادة المركزية العلمية، وتنشيط الوضع العلمي الذي يجب أن يكون من الأولويات عند كل عالم وطالب علم.

وحوزة (جامعة النجف الأشرف) التي تبنّاها الأخ الشيخ المفيد محاولة مباركة إن شاء الله، وآمل أن تستمر على النهج الذي هي عليه الآن، وأن يزداد نشاطها بجهود الشيخ المفيد والأخوة الطلاب الآخرين حفظهم الله جميعًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([*]) هذه المقالة، كان قد كتبها سماحة السيد علي مكي، كمقدمة لكتاب الشيخ مفيد الفقيه (الولاية في مذهب البيت  (عليهم السلام))، تحدّث فيها سماحته عن أمرين: الأول "علاقته بالشيخ مفيد". والثاني "في أهمية العلم والعلماء". وقد رأينا من المناسب تقديم الأمر الثاني على الأول.

([1]) الوسائل ب4 من أبواب صفات القاضي ح20.

([2]) بحار الأنوار ج1 ص177 ب1 من أبواب كتاب العلم ح53.

([3]) المجادلة من الآية 11.

([4]) الزمر من الآية 9.

([5]) البقرة من الآية 30.

([6]) بحار الأنوار ج1 ص166 ح7.

([7]) الأنفال من الآية 24.

([8]) بحار الأنوار ج1 ص180 ح64.

([9]) الوسائل ب11 من أبواب صفات القاضي ح1 ؛ وب1 منه ح5.

([10]) الوسائل ب10 من أبواب صفات القاضي ح20.

([11]) الوسائل ب11 من أبواب صفات القاضي ح14، لاحظ أيضًا حديث 20-21-22.

([12]) راجع الوسائل ب11 من أبواب صفات القاضي ح27-34-24-3.

([13]) الوسائل ب11 من أبواب صفات القاضي ح4.

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون