مقدمة الكلمة للمفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان
لا شيء يعطي هذا الفقيه المهاجر حقَّه سوى قوله تعالى
{إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ}
(البقرة/247)، ولأن العلم مَربط العزّة التي لا تموت، فقد
سمّاه الله بالحكمة ثم قال:
{وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة/169).
بهذا يمكننا أن نطلّ على فقيهٍ قرأ الوجود بعمق، وسبَر
العلم من ينابيعه الأصيلة، لا لأنه يريد عرش سلطان، بل
لأنه مذ تعمّد حبّ الحقيقة طلب ربّ السلاطين، فوجد الطريق
إليه ممهورةً بالعلم والتقوى، فتحوَّل راهب النجف الذي
فكَّك الألغاز وغاص في أعماق العلوم، فأسّس للمدرك العقلي
كتابًا، وتعرّض للمنقول فأثبت أن الفقاهة خبز الفقيه، وأن
المفيد مفيد، وأن النجف -وباقي مراكز حوزات الأرض- له
تتعطش ومنه تستفيد.
كلمة سماحة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى
الشيخ عبد الأمير قبلان
وإني لأعيشه رحّالة في طلب العلم، صديقًا طيلة الدهر، عشنا
معًا، قصدنا النجف معًا، قلّبتنا الذكرى والأحزان معًا،
فرحنا معًا، بكينا معًا، أكلنا خبز النجف، وشربنا ماء علمه
معًا، تذاكرنا طيلة الليل، وصلينا المحاريب، مرت علينا
الظروف القاسية، وعركتنا الأيام، ولاحقتنا المآسي.
حضرنا معًا على السيد إسماعيل الصدر، والسيد محسن الحكيم،
ثم بمجلس السيد الخوئي.
ثم انتُدِبنا من قبل مرجعياتنا لإحياء كلمة الله في نواحي
العراق، فإذا التقينا من جديد، تحوّل كل شيء ذكرى، ذكرى
يوم شيّعَنا الناسُ مراهقَين في أول سفراتنا نحو النجف
الأشرف، ذكرى أيامنا الأولى مرابع طفولتنا البعيدة، أحضان
أمانينا القديمة، فنجول بين الكتاب والعاطفة، لنقرأ أنفسنا
بين لبنان والنجف، بشيء من عصارة الدموع، ولهفة ما يجب أن
نكون عليه.
كنا نقرأ لبنان في ظلّ مأساة جبل عامل، الذي عركته طعنات
العثمانيين ثم الفرنسيين، ثم فشل السلطة وتركيبتها
الدستورية، الأقرب للصفقة والأبعد عن شراكة وطن، كنا نعيش
العلم محرابًا، والصلاة لهفة إلى الله، والتفكير أساسًا
للآتي من الزمان، كنا نبكي رغبة في الماضي، ونتوجّس مما هو
آت، فإذا دخلنا محراب أمير المؤمنين علي (عليه السلام)
تحوّلت قلوبنا إلى فردوس عظيم.
أذكره يافعًا يتقلّب بين أكناف وجوه الدين والعلم، أمثال
الشيخ علي الفقيه، وجدّه الشيخ يوسف، وعمّه الشيخ محمد
تقي، وإنه قرأ ففهم، وطلب فتمكّن، وتعبّد فزهد، وكان يقرأ
لا ليحفظ بل لينبش سرّ ما يقرأ، لدرجة أن بعض رفاق الدرب
قال: [كان الشيخ مفيد يقرأ على السيد محسن الحكيم، ثم يعيد
نبش النص من جديد ليقرأ النص بروحه وكأنه يراه].
وعلى المحور الآخر كان شيخ العمل، دؤوبًا على مصالح أمّته،
ناظرًا بأسباب وهنها، قارئا لمشروع قيامها، لذا كان يرى أن
فقه الطهارة لا يجوز أن يمنع عن فقه مصالح الجماعة وحفظ
نظامها وإدارة أمورها.
كان مشروعه الإعداد للأمة بأجيالها، وللأجيال بالعلم
والبيئة الحاضنة، وطالما اعتقد أن قوة الأمة بالعلم، وليس
بتكديس الجيوش وتكثير السجون.
ولأنه الشيخ مفيد والقدوة الصالحة، فقد قدّم فلذات كبده
الشيخ مهدي والشيخ هادي، وصهره الشيخ صادق، قربانًا
للحقيقة، وزيتًا في عالم العطاء، وكان يردد: إن روحًا
تتلهف لله ستجد الله حاضرها، وإن قريبًا من الله بعيدٌ عن
الدنيا، وإن آنسًا بمحضر الأزل لن يستوحش، وإن مخمورًا
بحضرة الحق سيزهو بالعبودية، وإن من كان من الله لن يكون
من إبليس، وإن معشر الحقيقة أكبر من كل شهوات العالم.
وهو ما مارسه عقلاً وفكرًا وسلوكًا بعد عودته من النجف،
فأسّس نجفًا آخر في حاريص، ودلّ على الأستذة حيًا رغم
موته، حاضرًا بكل شيء، لأن فقيهًا كالشيخ مفيد سيبقى حيًا
مدى الدهور إن شاء الله تعالى.
لذا في محضره .. نؤكد زهو جبل عامل بقامته، وهو باب للتمسك
بالقِيَم، والإصرار على نهج الأنبياء والأولياء.
|