السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

كلمة

رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله

السيد هاشم صفي الدين

 

{أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ

أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم/24-25)

نُحيي ذكرى عالم من علمائنا الأجلاء، سماحة العلامة الحجة آية الله الشيخ مفيد الفقيه (قدس سره)، وهو الذي ولد وتربّى ودرج ونمَا شابًا وكهلاً وإلى آخر لحظة من حياته الشريفة في رحاب العلم والمعرفة، تلميذًا وأستاذًا ومربيًا ومؤسسًا في الحوزات العلمية التي شرّفه الله بخدمتها قناعةً والتزامًا ووفاءً، فزاده الله شرفًا بأن أصبح من كبار أساتذتها وعَلَمًا ظاهرًا من أعلامها وفقيهًا متبحِّرًا من فقهائها، ووفّقه الله تعالى للتأليف والتصنيف في أبواب عديدة بأسلوب علمي مُتقَن وعبارة متينة ومُيسّرة.

وأضاف إلى ذلك في شخصيته تواضعًا، وأخلاقًا حسنة، وصدرًا رحبًا، وقلبًا عطوفًا مع خصال حميدة عطفها على يقين وصبر واحتساب ومقدرة على مواجهة النوائب .

ومن أصعبها عليه فقدان ولدَيه وصهره (الشيخ مهدي، الشيخ هادي، والشيخ صادق)، على أيدي نظام الطاغية المقبور في العراق، وعلى الأرجح هم شهداء، والله العالم.

لكنه احتبس مرارته وكتم غُصصه بهدوء وسكينة ووقار وتسليم، وتتالت عليه الفوادح التي استقبلها بطمأنينة وثباتٍ.

وشاء القدر أن تُختَتَم بفقد ولده إبراهيم  (رحمه الله)، وهو في أوضاع قاسية كان يُكابدها مع المرض، وكان الجميع يعيش معه الأمل الذي لا ينقطع طالما هناك إيمان، إلى أن توفّاه الله تعالى ليلتحق بآبائه من أهل العلم والقداسة، مؤدّيًا أمانتهم، وحافظًا لنهجهم، ومثبِّتًا لتعاليمهم في بذل المهج وخوض اللجج وصرف الأعمار وإهلاك الأبدان في سبيل علوم آل محمد  (صلى الله عليه وآله)، لتبقى حقائق النبوة حاضرة بأريج الولاية وعَبَق أنوارها، وليبقى الإسلام أصيلاً وسالمًا كما نزل على قلب رسول الله  (صلى الله عليه وآله)، بعيدًا عن الشطط والانحراف والتأويل الفاسد الذي أفسد على المسلمين عقائدهم وتاريخهم وحياتهم، وهو بذلك سلك نفس الطريق الذي اختطّه الأئمة الأطهار  (عليهم السلام) وبذلوا فيه أرواحهم وخيرة أصحابهم من أجل نقاوة التأويل وصفائه واستقامته.

إن الله تعالى اختص منطقتنا بنِعَمٍ وافرة من جواهر العقول والعلوم ومن مخزون الإيمان والإخلاص والتقوى، فامتاز جبل عامل بأشرف الغنى، وهو العلم الذي نبت في الأودية والجبال والقرى التي كابدت قرونًا من الفقر والظلم والتشريد، وكان العوَض فيها هذا النتاج الفاخر من المصنَّفات والحوزات وأهل العلم والعوائل الكريمة بأصولها وأدبها وعلومها، وتوارث الفضل فيها أجيال ما انقطع عنها حبّ العلم والفقه وحمل راية علوم آل البيت  (عليهم السلام).

وكان منهم رجال شدّوا الرحال، لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا فقر ولا غربة، إلى بلاد العلم وحواضره في النجف الأشرف وقم، وصولاً إلى بلاد خراسان وأصفهان ومصر ومكة، وكانوا حيثما حلّوا علماء وسادة، تُسنَد إليهم مشيخة الإسلام تارة، وتصدر عنهم لآلئ الفقه والحديث ومصنَّفات زُيّنت بأحرف من نور لا يُطفأ تارة أخرى.

وكان همّهم دائمًا الحفاظ على هذا الدور الفريد والخصوصية التي تُبقي العلم في ثنايا حياتهم كلمةً طيبةً مشعّة تُؤتي أُكُلَها كلّ حين بإذن ربها.

وأثبتوا في كل عصر أنهم جديرون بالانتماء الصادق لمدرسة أهل البيت  (عليهم السلام)، التي أخذت على عاتقها مهمة الحفاظ على الإسلام، وخاضت من أجل ذلك أقسى التحديات، بدءًا من القتال على التأويل على يد إمام المتقين أمير المؤمنين  (عليه السلام)، إلى كل المراحل التالية في مواجهة التضليل، ثم التنكيل، ثم التجهيل، على مدى قرون مليئة بالعذاب والآلام والغربة، وكان أشدها وطأً على الأمة غيبة الإمام المعصوم  (عليه السلام)، وبذلك كبرت المسؤولية وتعاظمت وتفاقمت النوائب.

فانبرى العلماء من أهل الزهد والتمحيص والتدقيق، وانتشروا في أصقاع الأرض، فشيَّدوا الحوزات التي بقيت إلى أيامنا هذه منارات مضيئة، وحججًا قائمة ومرجعيات هادية، فنهجوا نهج الإسلام الأصيل، وأبطلوا الشبهات، وأثبتوا المحكَمات، وفرّعوا في العلوم، ما أثرى حوزاتنا متونًا لا تبلى وقواعد لا تُمحى، والأهم أنهم ركزوا طريقة حوزوية مجبولة بالتواضع والزهد، والإِحكام والمتانة، والقدرة على مواكبة كل عصر بما يناسب من تبليغٍ وإرشادٍ، وترويجٍ للدين والشريعة .

فحُفِظت الأمة بالحوزات التي يقوم عليها علماء عدول وأساتذة وطلبة، وانبثقت من كل هذا قاعدة مبنيّة على أصل، وهي "صلاح الأمة بصلاح حوزاتها وعلمائها".

إن أغلى وأعظم ما نملكه في واقعنا الديني هو هذه [الحوزات]، فهي منبع الأصالة والفرادة، وموئل العلم والزهادة، وجامعة المعرفة، ومهبط الملائكة وفراش أجنحتها، ومصدر الاعتزاز والفخر، ومدرج الرقي للأنفس التوّاقة للصعود بالكلم الطيب حيث يرفعه العمل الصالح، وهي ملتقى أهل الخشية والعرفان {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر/28).

وفوق كل هذا هي محل نظر وعناية إمامنا ومعشوقنا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وبقيت هذه الحوزات راسخة تقاوم الأعاصير، ومنيرة تمحو الظلام، وتُخرِّج العلماء والقادة الشهداء، الذين يكتب الله على أيديهم فتوحات وانتصارات في شتى الميادين.

إننا في يوم وَدَاع رجل الحوزة وأحدِ كبارها، نشعر أن المسؤولية تزداد وتشتد في الأعناق طوقًا، وفي الهمّة دفعًا، وفي السعي وجوبًا وتوفيقًا، لنحافظ على كل قِيَم العلم والتقوى والصلاح فيها، وهي مسؤولية نشترك جميعًا في حملها، ولا يملك أحد منا أن يتهاون فيها، أو يتساهل في مقتضياتها، أو يجامل على حساب متانتها وفرادتها، أو يُسايس على أولوياتها، فإنها أصلٌ وجميعُنا فرع، ولا يرقى الفرعُ على الأصل مهما علا شأنه أو طغى حضوره.

إننا اليوم بأمسّ الحاجة للحفاظ على هوية الحوزة ودورها، ولكلمةِ الفصل بين صحيحها وسقيمها، والمشكلة لم تكن يومًا في كثرتها، وهي نعمة لا يجوز إنكارها، ويكفينا لذلك اتباع خطى السلف الصالح ليكون البقاء والميزان في العلم والتقوى والصلاح والاستقامة.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون