السنة الثانية عشرة / العدد التاسع والعشرون / كانون ثاني  2017م / ربيع ثاني  1438هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

كلمة

الشيخ محمد صالح الفقيه

في (أسبوع) آية الله المقدس الشيخ مفيد الفقيه - وفي ذكرى (الأربعين)

 

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}

من هنا كانت بداية المسيرة، مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، حيث توالت طوائف النافرين المهاجرين إلى الله ورسوله  (صلى الله عليه وآله) للتفقّه في الدين، ثم إلى أهل بيته الأئمة المعصومين  (عليهم السلام) من بعده، يسمعون منهم الأحاديث يتلقَّونها في صدورهم، ويدوِّنونها في كتبهم، وينقلونها إلى أقرانهم، ويبثونها في الناس، يعلّمونهم ما تضمّنته من العقائد الحقّة والتشريعات المحقّة، وينشرون من السيرة العطرة ما حكته من فضائل النبيّ  (صلى الله عليه وآله) والعترة الطاهرة.

إلى زمن الغيبة حيث أوكل هذا الأمر إلى من صرف عمره من الفقهاء في إعمال نظره في هذا التراث المبارك لأهل البيت  (عليهم السلام)، لا يأنسون إلا بكتبهم، يتدارسون الأحاديث، يغوصون في بحارها، يستنبطون الأحكام، ويعلّمون الناس عقيدة الحق، ويبيّنون لهم الحلال والحرام، ويدفعون عن هذا المذهب الشبهات، ويواجهون الانحرافات، ويفضحون أهل البدع..

فكانت الحواضر العلمية، وأشهرها قم المقدسة من زمن الأئمة  (عليهم السلام)، والنجف الأشرف من لدن ورود الشيخ الطوسي إليها، ثم من هذا الجبل -جبل عامل- خَرَج أكابرُ من الفقهاء، أغنوا فقه الإمامية بعمدةٍ من الكتب التي لا تخلو منها مكتبة فقيه، ولا تستغني حوزة علمية عن تدريسها.

وتوارث علماء هذا الجبل، جيلاً بعد جيل، شرف حمل هذا العلم، الذي به يُحفظ هذا المذهب، فكانوا يهجرون الأوطان ويجوبون البلدان، طالبين للعلم، وناشرين له.

وعاد جدُّنا المقدَّس الشيخ يوسف الفقيه من مهاجره في النجف الأشرف، فقيهًا مجتهدًا، ليقوم بواجبه الرسالي، إلى جنب معاصريه من العلماء، فحقَّق حقائق الإيمان في العقيدة، وأنار مصابيح الفقيه على الشذرات العاملية في الفقه، وحطّ رحاله بعد ذلك في بيروت، فاجتذب -بشخصيته الفذّة، وبعلمه، وأدبه، وحكمته- النُّخَب من أهل العلم والفكر والأدب، بل أهل الزعامة والسياسة من مختلف طوائف لبنان ومذاهبه، فأعمل وجاهته بينهم، فأسّس المحاكم الشرعية الجعفرية -مستقّلةً عن غيرها- في دولة لبنان الذي كان حديث عهد بالاستقلال.

ولم يكتفِ بأن نذر نفسه وصرف عمره في خدمة المذهب، بل نذر أولاده وذريته، يحثّهم ليكونوا من أهل العلم، وليرابطوا في الثغر الذي يلي إبليس.

فكان وَلَداه، المقدس الشيخ علي، والمقدس الشيخ محمد تقي، من عيون علماء عاملة، ثم بعد ذلك توالى ثلة من أحفاده للالتحاق بذلك الركب المبارك، وكان منهم وأبرزهم الفقيد الراحل، الشيخ مفيد.

فجاء لدى سفره إلى النجف، يعود جدّنا المقدس الشيخ يوسف، وهو على فراش مرضه، مودّعًا، فيرمقه بطرفِه دامعًا، ويرفع إحدى يديه مُتمتمًا، داعيًا، ويضع يده الأخرى على ظهره، دافعًا له، متقربًا إلى الله بهجرته، حامدًا له على توفيقه، راجيًا إليه أن يتقبله.

فورد شيخنا، الفقيد المفيد، النجف الأشرف، وحطّ رحاله بفناء باب مدينة العلم، أمير المؤمنين  (عليه السلام)، ونزل عند عمّه، والدنا المقدس الشيخ محمد تقي، الذي تولى رعايته علميًا وروحانيًا، كما إخوته من قبله ومن بعده.

بل كانت هذه الرعاية والأبوّة العلمية والتربية الروحانية، لكل من يَفِدُ إلى النجف من العامليين طالبًا للعلم آنذاك.

ثم ورث شيخنا المفيد بعد ذلك من عمّه هذه الأبوة الروحية والأستذة العلمية، فتتلمذ عليه كثير منهم، واستشعر أبوّتَه جلُّهم، وأكنَّ له الاحترام والتقدير  كلُّهم، وكان ذلك من خلال تولّيه على المدرسة اللبنانية التي كان والدي المقدس الشيخ محمد تقي يجعل إدارتها والإشراف على طلابها مداولةّ بين جملة من فضلاء العامليين.

ثم بقيت هذه المدرسة تحت إشراف الشيخ مفيد وولايته في العقود الأخيرة، إلى أن اشتد الأمر على الحوزة العلمية في النجف عامة من قِبَل الحكم البعثي الظالم، الذي أخذ يُضيّق الخناق، فصمد أهل العلم في وجهه، مستظلين بزعيمهم، زعيم الحوزة العلمية، سيدنا الأستاذ الخوئي (قدس سره)، الذي رفض أن ينجوَ بنفسه ومن معه، ورفض أن يترك النجف للطاغية، فلم يُمَكِّنه من إفراغها من ذلك التراث العظيم الذي توالى على حفظه أجيال من عظماء علمائنا، قرابة ألف سنة، منذ حط رحاله فيها الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه.

وكان شيخنا الراحل، الشيخ مفيد، في هذه المرحلة الصعبة، يواظب على عمله في التبليغ الديني في مناطق جنوب العراق، التي خلت تقريبًا من العلماء المعتمدين لدى المرجعية، فكان يقسم وقته بين النجف وقلعة سكر، التي كان يرتادها للتبليغ بعد عمّه المقدس الشيخ محمد تقي، منذ زمن مرجعية السيد الحكيم، فكان المؤمنون في تلك الناحية ومحيطها لا يجدون ملاذًا غيره، فيرجعون إليه في أمور دينهم.

ثم في صيف 1990م، جاء الشيخ إلى لبنان مع عياله زائرًا، بُعَيْدَ وفاة والده المقدس الشيخ علي، وبعد طول انقطاع بسبب الحرب في لبنان، وأثناء ذلك أعلنت حرب الخليج في العراق، فأيس رحمه الله من الرجوع إلى النجف.

فعمل على مواصلة نشاطه العلمي بعدما رأى تكاثر الطلبة وأهل العلم عنده، يرغبون إليه في تدريسهم والنهل من معين علمه، والاستفادة من فرصة وجوده بينهم، فشرع في إلقاء الدروس في منزله في الحوش، ثم بادر إلى إعلان تأسيس هذه الحوزة التي طالما رغب إليه وشجعه على إنشائها والده المقدس الشيخ علي وعمه المقدس الشيخ محمد تقي.

وسمّاها (جامعة النجف الأشرف للعلوم الدينية).

وتعرّض لذكر الهدف من تأسيسها في نصّ وقفيتها، فقال:

(والهدف من إنشاء هذه الجامعة .. أن تكون استمرارًا لتدريس ودراسة العلوم الدينية، على النهج المتصل بعشرة قرون من الزمن، حوزة علمية دينية على غرار المدارس التي أُسست في النجف الأشرف وقم المقدسة وجبل عامل.. إلى أن وصلت إلى عصرنا الحاضر..).

وقد أمر بنقش نصّ هذه الوقفية على صخرةٍ مثبتةٍ على حائط القاعة الكبرى في المبنى، لا تُمحى كتابتها، ليكون الهدف ثابتًا كذلك.

فكان يريد للطالب المنتسب لهذه الحوزة أن يؤسَّسَ فيها علميًا ليقتدر على سلوك طريق الفقاهة والاجتهاد، وأن تزرع فيه الهمّة لذلك، بعدما صار الكثير من الحوزات والمعاهد الدينية تكتفي -حتى في برامجها التعليمية- بما لا يقوم إلا بتخريج مثقفين، بل تشجّعهم على أن يكونوا مبلِّغين فحسب.

وها هم الطلبة العامليّون، المجدّون من حوزتنا هذه وأمثالها، يعاودون الهجرة إلى النجف الأشرف، عاقدين العزم على استكمال علومهم وبلوغ المراتب العلميّة العالية، بالحضور على مراجع النجف وأساطين علمائها، ليعود الوجود العاملي في حوزة النجف إلى سابق عهده في حضوره العلمي، بعدما خلت منهم إبان الحكم الظالم البائد.

يتزامن هذا مع العمل على تجديد بناء الحجر في المدرسة اللبنانيّة في النجف الأشرف، الذي أنهكه مرور الزمن.

وهكذا.. تكون هذه الحوزة (جامعة النجف الأشرف للعلوم الدينية) في لبنان رديفًا متكاملاً مع المدرسة اللبنانيّة والطلبة العامليين في النجف.

ونرجو من الله أن نوفَّق مع الفضلاء من أبناء المقدس الراحل والمشايخ الأفاضل من المدرِّسين، للسير في إدارة هذه الحوزة على الخُطى التي رسمها لنا المقدس الشيخ مفيد، ونرجو من السادة أهل العلم، والمؤمنين، الدعاء لنا بالتسديد والعون، والله ولي التوفيق.

وختامًا أتوجه باسمي وباسم العائلة، وباسم إدارة الحوزة، أساتذةً وطلابًا، وباسم سائر أهل العلم، إذ كلهم معزَّون .. أتوجه بالشكر لكل من شاركنا في العزاء، حضورًا واتصالاً وتشييعًا وغير ذلك، في لبنان والنجف وقم وغيرها، سائلين المولى عزّ وجلّ أن لا يريكم فيمن تحبون مكروهًا، وأن يوفِّق الجميع لتعظيم العلم والعلماء، وأن يتغمده وولديه المظلومين الشهيدين الشيخ مهدي والشيخ هادي، وصهره الشيخ صادق الفقيه، وولده إبراهيم المتوفّى قُبيل أيام، وأن يجمع بينهم في دار خلده بجوار النبي  (صلى الله عليه وآله).

  

ومما جاء في كلمة له أيضًا

في ذكرى أربعين الشيخ مفيد الفقيه (قدس سره):

... فإن ميراث المال حكر على أولي الأرحام، ليس لأحد من الناس أن يَنتهبه من أيديهم، بل إن أولي الأرحام أنفسهم بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، على أن المال محدود ومعدود، تُنقِصه النفقة، وهو في مَعرِض الزّوال أو الانتقال.

وأما ميراثُ العلم، فهو حِلٌّ لكلّ من يريد أن يَحُوزه ويختزنه، ولا ينحصر ورثته بعدد، ولا تحول كثرتهم بينه وبين أحد، ولا ينتُج عن إنفاقه إلا بقاؤه وزيادته، ومن هنا كان صاحب هذا العلم باقيًا ما بقي الدهر، وإنما يفنى منه ويُفتقد الجسد.

وها نحن نجتمع في ذكرى أربعينك أيها العالم الفقيه، وأستاذنا المعلّم، ومربّينا الحنون، نجتمع لنجدّد الولاء لك ولمسيرتك التي نذرت عمرك لها، وهي التفقّه ونشر علوم محمد وآل محمد  (عليهم السلام)، وتشييدُ ما أخذنا منهم من العقيدة، وتدارس ما وصلنا عنهم من الفقه والأحكام.

هذه المسيرة، التي لم تكتفِ بأن تكون فردًا من أفرادها، وإنما أردتَ أن تكون قائدًا في أجنادها.

فبعد أن تعلّمت في النجف الأشرف في أول أوانك، وأخذتَ الفقه والأصول عن أربابه من عظماء فقهاء عصرك، ودرّستَ وربَّيتَ أجيالاً من الطلبة هناك، جئتَ إلى بلاد عاملة ثانيةً لتؤسّس جامعةً تجمع أهل العلم تحت لوائها، فوطّدت دعائمها بانتهاج المنهج الأصيل لعلماء المذهب، ورفعتَ قواعدها بإلقاء الدروس العلميّة والعمليّة والأخلاقيّة في الشطر الأخير من عمرك المبارك، قرابة ربع قرن من السنين في لبنان، تعمل على الإصلاح ما استطعت في هذا السبيل، فكان لك نصيبٌ في فضح أهل البدع والانحراف، والحث على ردّ الشبهات.

وشاركت مع ثلّة من الأجلّة تحت عنوان "هيئة أمناء الحوزة العلمية الدينية في لبنان"، تنظرون فيما يمكن عمله لتنشيط العمل الحوزوي علميًا، وتزيينه أخلاقيًا، وحفظه من الوهن، ومواجهة الانحرافات العقائدية والشبهات، والتصدّي لمن يستغلّ لباس أهل العلم من ضعاف النفوس من الطلبة أو من المنتحلين للصفة.

فكان أن تمّ -بإشرافكم- وضع ميثاق الحوزة العلميّة الدينيّة في لبنان الذي يُعرِّفُ بالحوزة، وغايتها، ومواصفاتِ طلابها، وأساتذتها المشرفين على تأسيسها، والمواد التي لا بد من تدريسها فيها، وضوابط التزيّي بلباس أهل العلم، وغير ذلك مما يؤدي الغاية المنشودة.

ثم بعد أن كانت الانطلاقة الجديدة للتبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، باركتَ للعاملين في نطاقِه نشاطَهم، وما تمّ وضعه على أيديهم من النظام العام للحوزة العلمية الدينية في لبنان، الذي هو مساوق في مضمونه الآنف الذكر، إلا أنه صيغ كقانون يُعمل به من خلال المجلس رسميًا، وذلك بعد أن عُرض على جملة من أجلاء أهل العلم في لبنان.

وقد أردتَ أن يُلتزم في جامعتك هذا الميثاق الذي أنشأته، وأن يُحفظ هذا النظام الذي ارتضيت.

ثم لمّا كتبتَ وصيّتك -التي دأبت على مراجعتها وتنقيحها حينًا بعد حين-، جعلت وصيّتك الأهم، وتِلادك الأعظم، ما تركته بين أيدينا من الأمانة، وهي هذه الجامعة التي جعلتها تركةً يتوارثها أبناؤك الرّوحيّون، النسبيون وغير النسبيين، تريد منّا أن نسير بها على ما نَهَجْتَ لنا خلال إقامتك فينا، وتوصينا بالحفاظ عليها.

وها نحن، أبناؤك، وتلامذتك، ومريدوك.. باسمهم أقف بينكم، وبلسانهم أتكلّم، مُعلنًا: إننا باقون بعدك على العهد الذي فارقتنا عليه، نتبع خطاك، وننتهج نهجك، ونقتفي أثرك، ونستهدي بهديك، ونحفظ وصيتك، ونَفِي بعهدك إن شاء الله.

وإني لتحضرني عبارةٌ تركت في نفسي أثرًا بالغًا، سمعتها قبل قرابة سنتين، من ابن عمتنا الفاضل الكريم الحاج أبي محمد سعيد علي أحمد، وقد زرناه وفدًا من أساتذة وطلاب الحوزة، معزّين له بمناسبة وفاة أحد إخوانه رحمه الله.

زرناه باسم الحوزة، عرفانًا له بالجميل، لما له ولأبنائه الكرام حفظهم الله من أيَادٍ بيضاء، مشكورة منا، مذكورة عند الخالق، حيث تمّ على أيديهم الإنفاق على هذه الجامعة منذ كانت في صور-الحوش، إلى أن تمّ تشييد بناء هذا الصرح في حاريص، ويستمرّ منهم -منذ ذلك الحين- تمويلها بما يلزم لإقامتها وإدامتها، بل وإحياء الشعائر فيها في عاشوراء ونحوها من المناسبات.

فكان أن شارك بذلك أهلَ العلم في شطر وافر مما لهم من الأجر، فاستبدلوا المال الفاني بالعلم الذي يبقى أجرُه ولا يبيد.

وقد ورد في الحديث: (أنه يجيء الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الرّكام، أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا ربّ! أنّى لي هذه ولم أعملها؟ فيقول: هذا عِلمُك الذي علّمته الناس، يُعمل به من بعدك).

أعود لأذكُرَ العبارة التي سمعتها منه، وتمثّلتُ بها غير مرّة، أحثُّ بها نفسي وسائر إخواني، أساتذةَ وطلابَ الحوزة، حيث قال مخاطبًا لنا في ذلك المجلس -ما مضمونه-:

(إني من ناحيتي قد هيّأتُ من أولادي من يستمرّ بواجب الإنفاق من بعدي على هذه المؤسسة -ويعني به ولده الحاج ناظم-.. وأطالبكم أن تتهيّأوا من ناحيتكم ليكون منكم من تقوم به الحوزة وتستمرّ في عطائها العلمي ليستمر هذا المشروع).

وختامًا أتوجّه بالدعاء أن يرزقنا الله الإخلاص في النية، والتسديد في العمل، والعصمة من الزلل.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد التاسع والعشرون