ــــــــــــــــــــــــــــــ
ومع عدم إمكان تحصيل الظنّ يصلّي إلى أربع جهات إن وسع الوقت، وإلا فيتخيّر بينها (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نسب هذا الترتيب إلى المشهور، فعن المعتبر والتذكرة نسبته إلى علمائنا، وعن ظاهر الشيخين أنه مع فقد الأمارات السماوية لا يجوز العمل على الظن ـ أي الاجتهاد ـ بل يصلي إلى أربع جهات مع الإمكان، ومع عدمه يصلي إلى جهة واحدة.
ويستدل له برواية خراش المرسلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت: جعلت فداك، إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال (عليه السلام): ليس كما يقولون، إذا كان كذلك فليصل لأربع وجوه)[[1]].
وعن ابن أبي عقيل وظاهر ابن بابويه وغيرهما أنه يصلي حيث شاء، والرواية مرسلة.
والذي ذكره المشهور: إذا كان مدركه الاحتياط لقاعدة الاشتغال التي تقتضي تفريغ الذمة من الصلاة مع شرطها.
ففيه: أن ذلك لا يوجب العلم بإصابة القبلة حقيقة، لاحتمال أن تكون القبلة واقعة بين الجهتين، وإحراز الإصابة يتوقف على أن يصلي إلى سبع جهات، لأن الجهة تقابل سبع دائرة الأفق تقريباً، فلا يكفي أن يصلي إلى أربع جهات.
وإن كان لأجل التوجه إلى الجهة لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة المتحير.
ففيه: أن ذلك يحصل بالصلاة إلى جهات ثلاث مع الانحراف، ولا يتوقف على أن يصلي إلى الأربعة وهو واضح.
وإن كان لأجل أن الصلاة إلى جهة واحدة عمل بالظن ولا يجوز التعويل عليه.
ففيه: أنه مخالف لصحيح زرارة وموثق سماعة المتقدمين، فقد ذكر في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): (يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة)[[2]].
وفي موثقة سماعة: (سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس والقمر ولا النجوم قال (عليه السلام): اجتهد رأيك وتعمَّد القبلة جهدك)[[3]].
وإن كان مستندهم مثل رواية خراش المتقدمة المرسلة، ومرسلة الفقيه والكافي في من لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنه يصلي إلى أربعة جوانب[[4]]، فهذه الروايات ضعيفة الأسانيد، ودعوى الجبر لا تتم لعدم العلم باستناد المشهور إليها، بالإضافة إلى منع كبرى الجبر بالعمل، لأن المقصود برواية خراش الرد على المخالفين مـن إعمال الاجتهاد، والمشهور لم يعتمدوا على هذه الرواية لأنهم قالوا بوجوب العمل بالظن فيما لم يعلم وجه القبلة، ومورد الرواية الرد على المخالفين الذين قالوا لنا بأنكم مثلنا تعملون بالظن والاجتهاد، فأجاب الإمام -لو صحّت الرواية- نحن لا نعمل بالظن بل نصلي إلى أربع جهات.
فلو صحت الرواية لصح ما نسب إلى الشيخين من عدم جواز العمل بالظن ووجوب الصلاة إلى أربع جهات.
والحاصل: أن هذه الرواية غير قابلة للاستدلال بها.
فالصحيح إذن: هو الصلاة إلى جهة واحدة: لصحيح زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): (يجزي المتحيّر أبداً أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة)[[5]].
وصحيح معاوية بن عمّار أنه سأل الصادق (عليه السلام): (عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعدما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً فقال له: قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة)[[6]].
قال الصدوق بعد ذلك: ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر: [ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله].
ويستدل له أيضاً بمرسل ابن أبي عمر عن بعض أصحابنا عن زراره قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قبلة المتحيّر فقال: يصلي حيث يشاء)[[7]].
وهذه مؤيّدة عند السيد الأستاذ لعدم صحة مراسيل ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا، وإن كان يرى صحتها عن غير واحد، وكلنا نرى صحتها، وعلى أي حال فمضمونها ثابت بالروايات الأخرى.
وقد يناقش في دلالة هذه الروايات:
أما في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، فبأن المذكور في بعض النسخ كما في نسخة الفقيه المطبوعة (التحري) بدل (المتحيّر) فتكون دليلاً على حجيّة الظن بالقبلة، لا على كفاية الصلاة إلى جهة واحدة.
وأيضاً لو كانت النسخة هي المتحيّر فهي منافيّة لما دل على وجوب التحري كما تقدّم في صحيح زراره وموثق سماعة الدالتين على التحري عند عدم العلم.
والجواب: أن النسخة المعـروفة هي (المتحيّر)، (والتحري) لا يناسب سَوْق العبارة التي قـال فيها أينما توجه.
وأما منافاتها للتحري في الروايتين المتقدمتين، فتندفع بالجمع بينهما وتقييد المتحير بعدم إمكان التحري.
ويناقش في صحيحة معاوية بن عمار: بأن ما ذكره الصدوق في ذيلها من أنها نزلت الآية في قبلة المتحيّر، هو من كلام الصدوق لا من كلام الإمام.
ولكنه يندفع: بأنه كان يجب على الصدوق التنبيه على أنها منه ولم ينبّه، ويعتبر هذا لو كانت منه خيانة يجلّ عنها ولو كانت منه لجعل قرينة على ذلك، وذكرها
في الوسائل بدون الذيل لا يدل على ذلك، فالظاهر أن الذيل جزء من
الرواية، وورود بعض النصوص الدالة على نزولها في النافلة لا ينافي نزولها في
المتحيّر أيضاً.
فالصحيح: أن الذي لا يعلم القبلة ولا يمكنه العلم ولا الظن يصلي إلى أي جهة شاء، وهذا معنى تقييد المتحيّر بعدم إمكان التحري، حيث يستفاد من مجموع الروايات سقوط اشتراط الصلاة بالقبلة حينئذٍ، ولذا اختار جماعة من الأصحاب الاكتفاء بالصلاة لجهة واحدة كالمحقق الأردبيلي والعماني والصدوق، ونسب إلى المختلف والذكرى الميل إليه.
فهذا القول ليس مخالفاً للإجماع، وما عن السيد ابن طاووس من الرجوع إلى القرعة فهو طرح لنصوص الطرفين من غير وجه ظاهر.
ويمكن القول بأن الذي تخرج عليه القرعة بالنتيجة هو حيث يشاء، لأنه هو الذي أراد ذلك لكن لا على أساس وجوب القرعة بل على اختيار من المكلف لذلك.
هذا وقد أطال صاحب الجواهر[[8]] في تقريب مذهب المشهور ورد المناقشات المذكورة، والمناقشة في الروايات التي ذكرناهـــا من حيث السنــــد أو أو الدلالة، باحتمالات ومناقشات غير تامة.
فالصحيح: هو ما ذكرناه، وان كان الاحتياط بالصلاة إلى الجهات الأربع حسن.
[[1]] الوسائل م 3 كتاب الصلاة ب8 القبلة ح5 .
[[2]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب6 القبلة ح1 .
[[3]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب6 القبلة ح2 .
[[4]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب8 القبلة ح1 .
[[5]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب8 القبلة ح2 .
[[6]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب10 القبلة ح1 .
[[7]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب8 القبلة ح3 .
[[8]] الجواهر، ص412 .