ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(مسألة 1): لو أخلّ بالاستقبال عالماً عامداً بطلت صلاته مطلقاً(1) وإن أخلّ بها جاهلاً أو ناسياً أو غافلاً أو مخطئاً في اعتقاده أو في ضيق الوقت، فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين واليسار صحّت صلاته (2)،
ــــــــــــــــــــــــ
(1) لا إشكال في ذلك للإجماع المستفيض – كما قيل – مضافاً إلى الأدلّة الأخرى المتقدّمة كحديث لا تعاد وغيره، التي تقتضي بإطلاقها عدم الفرق بين استدبار القبلة والانحراف اليسير، فإن هذا كلّه تعاد منه الصلاة مع العمد بمقتضى تلك الإطلاقات وهذا واضح.
(2) يقع الكلام في كل صورة على حدة:
فالصورة الأولى: هي العالم العامد وقد علم حاله مما تقدم.
وأما غير العامد سواءٌ كان جاهلاً أو ناسياً أو غافلاً أو مخطئاً في اجتهاده، فقد ذكر الماتن أنّه إذا كان منحرفاً إلى ما بين اليمين واليسار صحّت صلاته.
والظاهر أنّه (قده) قد استند في هذا الحكم إلى صحيحة زراره عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: (لا صلاة إلا إلى القبلة، قال: قلت: أين حدّ القبلة ؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه، قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت قال: يعيد)[[1]]، بدعوى أن الرواية مطلقة لجميع الصور، خرج عنها العالم العامد إذا انحرف ولو يميناً أو شمالاً.
إلا أنّ الاستدلال بها لا يتم، لمعارضتها بإطلاق صحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال له: (استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن الله عزّ وجل يقول لنبيّه في الفريضة: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} وقم منتصباً فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من لم يقم صلبه في صلاته فلا صلاة له، واخشع ببصرك لله عزّ وجل، ولا ترفعه إلى السماء وليكن حذاء وجهك في موضع سجودك)[[2]].
حيث دلّت بإطلاقها على أنّ القبلة هي المسجد الحرام، وأنّ من انحرف عنه يميناً أو شمالاً فسدت صلاته، فقد دلّت بإطلاقها على أنّ المسجد قبلة العالم حيث قال: (ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك).
فالروايتان متعارضتان، فإذا لم تتم هذه الصحيحة الأولى، فلا بُدّ من التماس دليل آخر يدلّ على صحّة من صلّى وانكشف له أن صلاته كانت ما بين اليمين واليسار.
فيقع الكلام في غير العامد من الأقسام المذكورة في صدر المسألة:
وفيها عدّة صـــــــور:
الصورة الأولى: أما بالنسبة للجاهل بالحكم الذي لا يعلم بوجوب الاستقبال قصوراً أو تقصيراً، فالظاهر أنّه تجب عليه الإعادة، لأن مقتضى الآية لزوم استقبال المسجد الحرام، ومخالفة الشرط مخالفة للمشروط فمقتضى القاعدة بطلان الصلاة، وصحيحة زرارة الثانية المعارضة موافقة للآية، فإنّ مقتضى الآية شاملة للعالم والجاهل، بل يبعد تخصيص الحكم بالعالم العامد إلا في بعض الموارد كما ورد في الجهر والإخفات والتمام والقصر، للنص الخاص.
وأما الآية فهي بيان لأصل الحكم ولا اختصاص لها بالعالم العامد، وكذا قوله في صحيحة زرارة: (ولا تقلب بوجهك عن القبلة) فإن هذا بيان لشرطيّة القبلة، لا أنّه إذا علمت بالحكم وخالفته تبطل صلاتك، فإن هذا بعيد.
وما ذكرناه واضح لا يحتاج إلى البيان، لأنّ الإمام (عليه السلام) في مقام بيان الاشتراط عالماً أو غير عالم، وأنّه لو خالف تفسد صلاته، غاية الأمر أنّ الجاهل القاصر معذور، والمعذوريّة لا تنافي الفساد، وحديث لا تعاد وإن قلنا بشموله للناسي والجاهل، إلا أنّ القبلة من المستثنيات الخمسة.
وأما صحيحة معاوية بن عمّار أنّه: (سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً؟ فقال له: قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة)[[3]].
وموثّقة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليٍّi أنّه كان يقول: (من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب)[[4]].
فهاتان الروايتان غير دالتين على صحّة صلاة الجاهل، فإن موضوعها بحسب الفهم العرفي أنّه صلّى وكان حال صلاته عالماً باعتبار القبلة، ولكن مـن جهة الشبهة الخارجية رأى أنه صلى لغير القبلة، لا أنه لم يكن عالماً بالاشتراط أصلاً، فهما غير شاملتين للجاهل بوجهٍ، فإنّ قوله: (فيرى أنه قد انحرف) إنما هو من جهة الموضوع الخارجي لا من جهة عدم علمه بالاشتراط، بل كـان عالماً بالاشتراط وصلّى باجتهاد معيّن ثم رأى بعد ذلك أنّه صلّى لغير القبلة، بينما الجاهل بالحكم هو من الأوّل يصلّي لغير القبلة بمقتضى جهله، فلا يقال عنه (ثمّ رأى أنّه صلّى لغير القبلة).
وكذا الحال في موثّقة الحسين بن علوان، فإنّه يعلم بالاشتراط ويعتقد أنّه يصلّي للقبلة ولكنّه أخطأ في التوجّه إليها.
وحيث أنّ هاتين الروايتين هما العمدة، فليس هنا ما يدل على أنّ الجاهل بالحكم لا يعيد صلاته، ومقتضى القاعدة عدم الإجزاء، وحديث لا تعاد لا يشمل الجاهل، ومع ذلك فالقبلة قد استثنيت مما لا يعاد.
وأما إطلاق صحيحة زرارة فلا يمكن الأخذ به كما تقدّم، لأنّ تخصيص الحكم بالعالم العامد في نفسه بعيد، على أنّها معارضة بصحيحته الأخرى الموافقة للكتاب العزيز وهو استقبال نفس الكعبة.
فبالنسبة للجاهل لا سيّما المقصّر، لا دليل على الإجزاء إذا كان منحرفاً عن القبلة ولو إلى ما بين اليمين واليسار.
الصورة الثانية: الناسي للحكم:
وهو ملحق بالجاهل بل هو الجاهل بعينه، غايته أنّه كان عالماً سابقاً ثمّ جهل، فهو جاهل، فلا بُدّ له من الإعادة.
الصورة الثالثة: المخطئ باجتهاده بالقبلة سواءً كان معتقداً تكويناً ووجداناً أو معتمداً على إحدى الإمارات التي تتعيّن بها القبلة، وبعدما صلّى انكشف كون القبلة إلى غير الطرف الذي صلّى فيه.
فهذا هو القدر المتيقّن عندنا أنّه لا يعيد الصلاة، وإن كان فيه خلاف، لأنّه يستفاد من عدّة روايات أهمّها صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة وموثّقة الحسين بن علوان.
الصورة الرابعة: ضيق الوقت مع عدم إمكان التحري، فلا بُدّ له من الصلاة لطرفٍ واحد، فإذا اختار جهة صلّى إليها ثمّ انكشف أنّها ليست القبلة ولكن ما بين اليمين واليسار.
فهذا لا إشكال في صحّة صلاته، لأنّ وظيفته كانت هي الصلاة إلى أي جهة، وقد عمل بوظيفته، فيدخل تحت إطلاق قوله في صحيحة معاوية بن عمّار: (يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة) فإنّ المراد من القيام هو القيام الشرعي الصحيح.
نعم قد يتوهّم الاختصاص بالمخطئ في الاجتهاد فقط لا بمن ضاق وقته كما في موثّقة الحسين بن علوان، فتكون معارضة لصحيحة معاوية بن عمّار، فيسقط هذا الإطلاق، والمتّبع هو أدلّة الاشتراط بالقبلة وهي تقتضي البطلان.
وتقريب دلالة الموثّقة على المخطئ أن يقال: أنّه قيّد موضوع الحكم في هذه الرواية بمن صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة أي يعتقد أنّه على القبلة، ثمّ انكشف له الخلاف فهذا لا يعيد.
ومفهومها أنّ غيره يعيد، فتشمل من صلّى في ضيق الوقت لأنّه لا يعتقد أنّه يصلّي على القبلة، فلا تكون الموثّقة شاملة للمصلّي في ضيق الوقت، فتكون معارضة لصحيحة معاوية بن عمّار.
إلا أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّه إذا كان الاستدلال بمفهوم الشرط، فالقضيّة من هذه الجهة لا مفهوم لها، بل هذا قيد للموضوع، ومفهومه أنه إذا لم يكن بين المشرق والمغرب فلا يعيد، لا أنّه إذا صلّى وهو لا يرى أنّه يصلّي إلى القبلة، فمفهومها أنّه يعيد، فإنّ هذا قيد للموضوع، يعني المصلّي المعتقد بكونه على القبلة هذا الموضوع في القضية.
فهذا الشخص إذا عرف بعد ذلك الخلاف لا إعادة عليه إذا كان ما بين المشرق والمغرب، ومفهومه أنّه إذا لم يكن ما بين المشرق والمغرب فعليه الإعادة، لا أنّ من صلّى من غير علم بأنّه يصلّي للقبلة يعيد، فإنّ هذا قيد في الموضوع لا شرط في الرواية.
فمفهوم الشرط لا أساس له هنا، نعم المفهوم من جهة أخرى.
وأما بالنسبة لمفهوم القيد والوصف، حيث أنّ الإمام (عليه السلام) هو الذي قيّد الموضوع بهذا القيد و (أن من صلّى لغير القبلة وهو يرى... لا إعادة عليه)، فإذا لم يكن له مفهوم يكون هذا التقييد لغواً.
وجوابه واضح كما حرّر في مفهوم الوصف، وأنّ المستفاد من الوصف عدم ثبوت الحكم للمطلق، لا أنّه مختصٌ بالوصف ومنتفٍ عن غيره، بل لا مانع من ثبوته لغيره بدليل آخر، وإنما يذكر الوصف أو القيد لغاية من الغايات ولعلّه للغلبة، وأنّ الغالب فيمن ينكشف له خلاف الجهة التي صلّى إليها، هو من يرى أنّها القبلة، وضيق الوقت فرض نادر.
هذا مضافاً إلى أنّه لا أثر لهذا النـزاع، فإنّ من يصلّي في ضيق الوقت فبالطبع ينكشف له الخلاف في خارج الوقت، وإلا لم يكن الوقت ضيّقاً لو كان ينكشف داخل الوقت.
والحاصل أنّ هذا الذي ينكشف له الخلاف في ضيق الوقت بعدما يدخل الوقت الآخر، سوف نبيّن أنّ هناك روايات خاصة دلّت على عدم القضاء، وكلامنا فعلاً في الإعادة ولا موضوع له مع ضيق الوقت كما هو واضح.
الصورة الخامسة: الغافل الذي يصلّي ثمّ ينكشف له أنّه صلّى لغير القبلة، فهذا أيضاً الظاهر أنّه لا يجب عليه الإعادة، لإطلاق صحيحة معاوية بن عمّار وشمولها لهذا الفرض، لأنّه قام للصلاة ولم يراع القبلة لغفلته.
ودعوى اختصاص الحكم بالمخطئ في اجتهاده دون غيره كالغافل، كما تقدّم في ضيق الوقت أخذاً بمفهوم موثّقة الحسين بن علوان، حيث أخذ في الموضوع أنّه يرى نفسه للقبلة ثمّ انكشف الخلاف، فلا إعادة عليه إذا كان ما بين المشرق والمغرب، فالغافل حيث أنّه لا يرى تجب عليه الإعادة لإطلاق أدلّة الشرطيّة، لأنّ الخارج خصوص المخطئ في اجتهاده.
هذه الدعوى قد علم دفعها مما تقدّم: لأنّ المفهوم يرجع لقوله (إذا كان ما بين المشرق والمغرب)، لا لقوله (وهو يرى أنّه على غير القبلة)، فإنّ هذا ليس بمفهوم شرط، بل هو قيد للموضوع فيدخل في مفهوم الوصف.
وغاية ما يستفاد منه: أنّ الحكم غير ثابت للمطلق كما عرفت، فصحيحة ابن عمّار لا قصور في شمولها للغافل فتصح صلاته ولا تجب عليه الإعادة.
الصورة السادسة: الجاهل المتردّد في القبلة الذي يصلّي لطرفٍ رجاءً، ويتحقّق بعد ذلك أنّه كان تشريعاً لأنّه مكلّف بالتحري، فلم تسقط شرطيّة الاستقبال لأنّه لم يتحرَّ، بل عمل لطرف من دون مسوِّغ شرعي في الصلاة إلى هذا الطرف، فلو انكشف أنّه لغير القبلة تفسد صلاته ولا دليل على إجزائها، وحديث لا تُعاد مختص بغير القبلة، ويؤكّد هذا صحيحة الحلبي الواردة في الأعمى أنّه يعيد ولا يعيدون لأنّهم تحرّوا[[5]].
نعم لو انكشف بعد العمل أنّها كانت على القبلة، وقد قصد القربة ولو رجاءً، فحينئذٍ تصح صلاته، فما ذكره الماتن من تعميم الحكم للجاهل غير تام.
بقي هنا شيء
وهو أنّ هذه الروايات الواردة في عدم وجوب الإعادة إذا كانت الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب، ليست فيها صراحة بأنّ انكشاف الخلاف كان في الوقت، بل هي مطلقة من هذه الجهة كصحيحة معاوية وموثّقة الحسين بن علوان.
وقد وردت عدّة روايات فيها الصحاح دلّت على أنّ من صلّى لغير القبلة إن كان في وقت يعيد وإن كان في خارجه لا يعيد:
منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه سئل الصادق (عليه السلام) عن رجل أعمى صلّى على غير القبلة، فقال: إن كان في وقت فليعد، وإن كان مضى الوقت فلا يعد، قال: وسألته عن رجل صلى وهي مغيّمة ثم تجلت، فعلم أنه صلّى على غير القبلة، فقال: إن كان في وقت فليعد، وإن كان الوقت قد مضى فلا يعيد)[[6]].
ولم يفرض في هذه الروايات أنّ الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب، بل فرض فيها انكشاف الخلاف، وهي مطلقة من حيث أن الانحراف عن القبلة كان استدباراً أو إلى ما بين اليمين واليسار أو المغرب والمشرق أو أكثر.
وتلك الروايات كما يمكن أن تحمل على الاستدبار بقرينة هذه الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة ما بين المشرق والمغرب، بأن يقال: أنها دالة على أن من صلّى بين المشرق والمغرب فصلاته صحيحة، فهذه قرينة على أنّ وجوب الإعادة إذا كان الانكشاف في الـوقت كما في الروايات الثانية، مختص بالمستدبر، أما غيره فلا يمكن أن يقال هكذا.
كما يمكن أن تحمل الروايات الواردة في عدم وجوب الإعادة ما بين المشرق والمغرب على خارج الوقت، لأنها كانت مطلقة، فيحمل إطلاقها على خارج الوقت، وينتج أن انكشاف الخلاف إذا كان خارج الوقت لا يعيد وفي داخله يعيد، حتى لو كانت بين المشرق والمغرب، يعني أنّ إطلاق هذه الروايات بين المشرق والمغرب، نرفع اليد عنه ونحمله على الانكشاف خارج الوقت.
وبعبارةٍ أخرى: أحد الإطلاقين لا بُدّ من رفع اليد عنه، لأنّ فيهما تعارضاً فيما إذا انكشف الانحراف إلى ما بين المشرق والمغرب في الوقت، فإنّه بمقتضى الطائفة الثانية التي تقول أنّه يعيد في الوقت وبمقتضى الطائفة الأولى لا يعيد.
فلا بُدّ من التصرّف في إحدى الطائفتين بأحد الحملين المذكورين، فإذا كان الإطلاقان متعارضين يسقطان ويرجع للعمومات والإطلاقات الفوقانية الدالة على شرطيّة الاستقبال {فولّوا وجوهكم شطره } فيحكم بالإعادة.
هذا ما اختاره صاحب الحدائق وأصرّ عليه وخالف الأكثر، فحكم بوجوب الإعادة ولو كان الانحراف يسيراً.
وأجيب عن ذلك: بأنّه وإن كانت المعارضة بالعموم من وجه، ولكن لا بُدّ من تقديم الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة فيما لو كان بين اليمين واليسار، لأنّ إطلاقها متقدّم على إطلاق تلك، وذلك لأنّ تقديمها لا محذور فيه.
وأما لو أخذنا بإطلاق تلك المفصّلة بين الإعادة في الوقت وعدمها في خارجه فهناك محذور وهو إلغاء خصوصيّة ما بين المشرق والمغرب، حيث أنّه حينئذٍ تجب الإعادة في الوقت سواء كان انكشاف الخلاف، إلى ما بين المشرق والمغرب أو لا.
فلا تبقى خصوصيّة لذكر المشرق والمغرب ويكون ذكرها لغواً، فيكون هذا مرجّحاً لتقديم الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة، هكذا قيل.
وهذه الكبرى للتقديم وإن كانت صحيحة إلا أنّ الصغرى غير تامّة، ولا تنطبق هذه الكبرى على محل الكلام، وذلك لأنه تارةً نلتزم بما ذهب إليه أكثر المتأخرين ظاهراً من أنّ الاستدبار لا يحتاج إلى قضاء لو انكشف خارج الوقت، وأخرى نلتزم بما ذكر المحقّق الهمداني من أنّ المستدبر يقضي.
فإن قلنا بلزوم القضاء خارج الوقت، فالتقييد بما بين المشرق والمغرب في محلّه، وإن لم نقل بوجوبه فالتقييد به يكون لغواً.
وبيانــه: أنّ نسبة العموم من وجه بين الطائفتين والمعارضة بينهما في موردين:
المورد الأوّل: ما إذا انكشف الخلاف بين اليمين واليسار في الوقت، فإنّ مقتضى إطلاق طائفتها أنّه لا يعيد، ومقتضى تلك الروايات أنّه يعيد، فلو انكشف الخلاف في الوقت مستدبراً، فهذا يعيد بمقتضى كلتا الطائفتين فلا معارضة.
المورد الثاني: -للمعارضة- ما إذا انكشف الخلاف خارج الوقت وكان مستدبراً، ومقتضى إطلاق صحيحة معاوية وغيرها أنّه يعيد، لعدم التفصيل فيها بين الوقت وغيره، ومقتضى الطائفة الأخرى أنّه لا يعيد، حيث لم يفرّق فيها بين الاستدبار وغيره.
وأما لو صلّى وانكشف خارج الوقت أنّه صلّى بين اليمين واليسار، فهذا لا تعارض فيه ولا يعيد بمقتضى كلتيهما.
فهذه موارد أربعة إثنان فيهما معارضة واثنان لا معارضة فيهما.
وكلام صاحب الحدائق فيما لو صلّى وانكشف الخلاف في الوقت وعلم أنّه صلّى إلى ما بين المشرق والمغرب.
فمقتضى صحيحة معاوية عدم الإعادة، ومقتضى صحيحة عبد الرحمن وغيرها المفصّلة بين داخل الوقت وخارجه أنّه تجب الإعادة، لأنّه انكشف الخلاف وهو في وقت، وكذلك لو انكشف الخلاف خارج الوقت وكان مستدبراً، فمقتضى صحيحة معاوية بن عمّار أنّه يقضي، لأنّه وقع إلى غير القبلة خارج الوقت، ومقتضى إطلاق الروايات المفصّلة بين الوقت وخارجه أنّه لا يعيد، فإن بنينا على أنّه خارج الوقت لا تجب الإعادة، فهذا الجواب عن صاحب الحدائق متين.
إذن فأيّ أثر لهذا القيد ولهذه القضيّة الشرطيّة، وهي أنّه لا يُعيد إذا كانت صلاته إلى ما بين المشرق والمغرب، فإذا قيّدنا هذا بخارج الوقت فما هي فائدته، لأنّ المستدبر أيضاً لا يُعيد خارج الوقت، فلو فرضنا أنّا قلنا بعدم الإعادة خارج الوقت حتى مع الاستدبار، فالتقييد ما بين المشرق والمغرب لغوٌ إذ في أثناء الوقت إذا انكشف الخلاف تجب الإعادة سواءٌ كان مستدبراً أم لا، وبعد الوقت المفروض أنّه حتّى مع الاستدبار لا تجب الإعادة، فما فائدة التقييد بما بين المشرق والمغرب مع أنّ هذه الروايات صريحة في خصوصيّته لهذا العنوان.
وأما لو اخترنا ما اختاره الشيخان وغيرهما من وجوب القضاء خارج الوقت مع الاستدبار، فالأمر واضح، وفائدة التقييد واضحة، ويصحّ في مورد المعارضة الرجوع إلى الاطلاقات، ففيما إذا صلّى في الوقت وانكشف الخلاف وكان فيما بين المشرق والمغرب وجبت الإعادة، لأنّ الانكشاف في الوقت، ومقتضى إطلاق صحيحة معاوية عدم وجوب الإعادة، والإطلاقان يسقطان فيرجع إلى عمومات وجوب الاشتراط من الكتاب والسنّة.
وكذلك في المورد الآخر للمعارضة ويحكم بوجوب القضاء، فقوله في صحيحة معاوية (إذا كان بين المشرق والمغرب لا يُعيد) يقيّد بخارج الوقت،فتكون النتيجة أنّه إذا كان الانكشاف خارج الوقت وكان فيما بين المشرق والمغرب لا يُعيد، وأما لو كان الانكشاف خارج الوقت وكان مستدبراً فإنّه يعيد، أو كان الانكشاف داخل الوقت بلا فرق بين ما بين المشرق والمغرب وبين الاستدبار، فبناءً على هذا لا يلزم إلغاء العنوان المذكور.
وهذا القول اختاره جماعة من القدماء والمتأخّرين منهم المحقّق.
فهذا الجواب عن صاحب الحدائق لا يتم.
فلا بُدّ من الجواب عمّا ذكره صاحب الحدائق من أحد أمرين:
الجواب الأوّل: أنّ حمل رواية عدم الإعادة فيما بين المشرق والمغرب، ووجوب الإعادة مع الاستدبار، هذه واضحة الدلالة على أنّ الكلام قبل خروج الوقت، وغير ناظرة إلى خروج الوقت بل إلى تكليف المصلّي داخل الوقت، ولا يمكن حملها على خارج الوقت، وصحيحة معاوية ظاهرة في أنّه صلّى وبعد الفراغ رأى أنّه على غير القبلة، لا فيمن صلّى وخرج الوقت ورأى ذلك، ويبعد كون السؤال عمّن صلّى آخر الوقت، بل هو محمولٌ على المتعارف وأنّه قام في سعة الوقت، وحمله على الآخر فرد نادر، فالرواية ظاهرة سؤالاً وجواباً في داخل الوقت.
وأوضح من ذلك موثّقة عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في رجلٍ صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة)[[7]].
فهذه واضحة الدلالة على أنّ هذا الحكم في أثناء الوقت، إذ يبعد فرض أنّه صلّى مقداراً وانكشف الخلاف ولكن قد خرج الوقت، فالقبلة واسعة بالنسبة لمثل هذا المصلّي، ولا فرق بين أبعاض الصلاة وتمامها، ولا يحتمل الفرق بين تمام الصلاة فيعيد وبين بعضها فلا يُعيد.
فالرواية واضحة في أنّ الانكشاف في أثناء الوقت وأنّه تصحّ صلاته بعد تحويل وجهه إذا كان بين المشرق والمغرب، وأما إذا كان مستدبراً بطلت الصلاة.
فتكون الروايات الأخرى كذلك ناظرة إلى الوقت لا خارج الوقت، فالتعارض يرتفع.
ولو تنـزلنا عن هذا الجواب يقع الكلام في:
الجواب الثاني: وهو أنّه لو فرضنا أنّ الروايات مطلقة ولا ظهور لها في الاختصاص بداخل الوقت، لكن لا تعارض، لأنّ الطائفة الأولى حاكمة علـى الثانية، لأنّ الحـكم بعـدم وجوب الإعادة إذا كان بين المشرق والمغرب ليس حكماً تعبّدياً ليكون هناك تعارض، بل هذه الروايات حاكمة لتوسيع القبلة إلى ما بين المشرق والمغرب فلا مقتضى الإعادة.
فليس عدم وجوب الإعادة من باب الإجزاء تعبداً بل لأنّ الصلاة وقعت للقبلة ولا خلل فيها، فهذه حاكمة على تلك المفصّلة بين الانكشاف في الوقت وخارجه، فموضوعها أنّ المصلّي صلّى إلى غير القبلة وانكشف له ذلك بعد الوقت، فلو كانت صلاته إلى ما بين المشرق والمغرب فهو للقبلة، فهو خارج موضوعاً عن هذه الروايات المفصّلة، فتكون محكومة للطائفة ولا تخصيص، لأنّ المفروض في المفصّلة وقوع الصلاة لغير القبلة وهذه ذكرت أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة.
فمقتضى الجمع أن يقال: من صلّى إلى ما بين المشرق والمغرب لا يُعيد لا في الوقت ولا في خارجه، لأنّه صلّى للقبلة، ومن صلّى مستدبراً، هذا يفصّل فيه بين الوقت فيُعيد وخارجه فلا يُعيد ويسقط عنه القضاء.
بقي هنا شيء: وهو أن هنا رواية استدلّ بها على وجوب القضاء خارج الوقت، وهي رواية معمّر بن يحي قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ صلّى على غير القبلة ثمّ تبيّنت القبلة وقد دخل وقت صلاةٍ أخرى، قال: يُعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها... الحديث)[[8]]، فتكون معارضة لما دلّ على عدم وجوب القضاء.
ولكنّها ضعيفة السند، لا من جهة الطاطري، بل من جهة أنّ طريق الشيخ للطاطري فيه علي بن محمد بن الزبير القرشي الذي لم يرد فيه توثيق.
هذا مضافاً إلى أنّ دلالتها لا تتم، لأنّ قول الراوي: (سألته عن رجلٍ.. إلخ) إن كان المراد وقد دخل وقت صلاةٍ أخرى، أي وقت فضيلة صلاة أخرى، كما يؤيّده قوله يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي دخل وقتها، لأجل الترتيب.
إن كان المراد هو هذا فهو انكشاف في الوقت ولا علاقة له بالقضاء، بل تدلّ بالإطلاق على الإعادة حتى لو كان الانحراف إلى ما بين المشرق والمغرب أو أزيد من ذلك، فيقيّد إطلاقها بما تقدّم.
وإذا كان المراد وقد دخل وقت صلاة أخرى أنّه بعدما خرج الوقت حقيقةً، فلا بُدّ من حمل القضاء على الاستحباب لصراحة الروايات المتقدّمة في عدم وجوب القضاء.
[[1]] الوسائل م 3 كتاب الصلاة ب 9 القبلة ح 2 .
[[2]] المصدر السابق نفس الباب ح 3 .
[[3]] الوسائل م 3 ب10 القبلة ح 1 .
[[4]] المصدر السابق نفس الباب ح 5 .
[[5]] باب 11 القبلة ح 7 .
[[6]] الوسائل م3 ب11 القبلة ح 8 .
[[7]] ب 10 القبلة ح 4 .
[[8]] ب 9 القبلة ح 5 .