أمّا في حال الاختيار

فقد يقال: بأنّ المتبادر من الأمر بالساتر هو الثوب، وذكر الثوب والدرع إنّما هو مثال لما كان من هذا الصنف مادةً وهيئة، فلا يجوز غيره مع وجوده، فإذا فقد فوجه التخيير بين الثلاثة هو أنّ ذكر الحشيش في صحيحة ابن جعفر إنّما هو لأجل التمثيل فيدلّ على ما هو أعمّ من الحشيش.

والصحيحة هي ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ هو قائم)[[1]].

وقد يقال: بأن المقصود هو الستر وهو يحصل بأي شيء كان، وتبادر الثوب من الساتر ممنوعة، بل المتبادر التغطية على وجه لا يمكن النظر، وذكر الحشيش تابع للسؤال، وهو فرض تعذّر الثوب، فلا يقتضي عدم جوازه مع إمكان الثوب، وكون العناوين المذكورة مثالاً للمادة والهيئة ليس بأولى من كونها مثالاً للمادة فتشمل الحشيش والورق ونحوه كما في الجواهر، وخصّت هذه العناوين بالذكر لغلبتها وتعارفها، لا لبيان عدم جواز الصلاة بغيرها، وليس في النصوص لفظ الستر والساتر ليدّعى انصرافهما إلى المعتاد، بل لو وجد فيمكن منع الانصراف أيضاً، وإلاّ لوجب مراعاة الاعتياد في ذلك الزمان أيضاً في الستر وكيفيّة الستر كما ذكر في الجواهر.

وقد يقال أيضاً: بأنّ نصوص الثوب والقميص والدرع ونحوها لا يُستفاد منها جواز التستّر بمثل الحشيش والورق وكونهما ساتراً صلاتياً لخروجهما عن العناوين المذكورة، فالتعدّي يحتاج إلى دليل.

كما أنّه لا يُستفاد من النصوص عدم جواز التستّر بهما، لعدم ظهور الروايات في التقييد بغير الورق والحشيش، لاحتمال كون مثل الثوب وبقيّة العناوين مثالاً لمطلق الساتر، فلا تصلح الروايات المذكورة دليلاً لإثبات ساتريتهما ولا لنفيها.

وكذا صحيح ابن جعفر المتقدّم، فإن فقد الثوب فيه لم يؤخذ قيداً لجواز التستّر بالحشيش، وإنّما ذكر في مفروض السؤال، فتكون مجملة، وحينئذٍ فالمرجع في جواز التستّر بالورق إلى الأصل.

وذكر السيّد الأستاذ بأنّ روايات الدرع والخمار والملحفة والثوبين للمرأة، والثوب الستير والكثيف للرجل، هذه الروايات يظهر منها أنّ المعتبر في الستر الصلاتي أمران:

أحدهما: كون الساتر لباساً.

الثاني: كونه ثوباً ودرعاً وخماراً.

ولو جمدنا على هذه الروايات لاعتبرنا هذين الأمرين معاً، لكن قد علمنا من الخارج بأنّه لا خصوصيّة لهذه العناوين، بل يكفي التستّر بكل ما يستر، وأمّا خصوصيّة كون الساتر لباساً فلا علم خارجي ينفيها، فلا يمكن إلغاؤها، فإنّ قوله (عليه السلام): (أدنى ما يجزي درع وخمار)، يظهر منه وجوب أن تلبس، فإذا ألغينا خصوصيّة الدرع والخمار، فخصوصيّة أن تلبس لا يمكن إلغاؤها.

ويدلّ على ذلك صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة حيث قال فيها: (وإن لم يجد ماء صلّى فيه ولم يصلّ عرياناً)، فإنّه يُستفاد منها أنّه لا بدّ من كون المكلّف لابساً لشيء في مقابل العاري، حيث نهى عن الصلاة عرياناً، فيستفاد منها وجوب كونه لابساً، وقد منع عن كونه عارياً على كلا التقديرين، غايته أنّه مع وجود الماء يغسله وبدونه يصلّي فيه.

وهذا الحكم الثاني: وهو الصلاة فيه متنجّساً محل كلام.

وأمّا الحكم الأوّل: وهو أنّه لو وجد ماء غسله، فهذا لا معارض له فيؤخذ به، فكأنّه قال: "يغسله ويصلّي ولا يصلّي عرياناً، وإذا لم يجد ماء يصلّي فيه ولا يصلّي عرياناً "، والرواية لا معارض لها بالنسبة للحكم الأوّل فيؤخذ بها.

وعلى هذا فالتستّر بالحشيش وغيره لا يخرج المصلّي عن كونه قد صلّى عرياناً.

ويؤيّده صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة، فإنّ الظاهر منها أنّه كان معتقداً أنّه مع وجود الثوب لا يصلّي في غيره، ولذا سأل عن حكم من كان فاقداً له، فأقرّه الإمامt على هذا الاعتقاد، وبيّن حكم فاقد الثوب.

ويؤيّده أيضاً رواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه t أنّه قال: (من غرقت ثيابه، فلا ينبغي له أن يصلّي حتى يخاف ذهاب الوقت يبتغي ثياباً، فإن لم يجد صلّى عرياناً جالساً يومئ إيماءً يجعل سجوده أخفض من ركوعه.. الحديث)[[2]].

  فإنها دالة على اعتبار الثوب، ولكنّها ضعيفة بأبي حفص البختري الذي هو وهب بن وهب والذي قيل فيه أنّه أكذب البريّة.

والمتحصّل: أنّه في حال الاختيار لا تجوز الصلاة إلاّ بما يصدق عليه أنّه لباس، فلا تصح بمثل الحشيش والطين وغيرهما.

وأمّا في حال الاضطرار

كما إذا لم يجد ثوباً، فإنّه يجوز له أن يستر بالورق والحشيش، وإن كان يصدق عليه أنّه عاري، لأنّ العاري إذا تمكّن من التستّر بشيء وجب لصحيحة علي بن جعفر المتقدّمة: (إذا أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع)، فتدلّ على أنّ الستر بالحشيش ساتر صلاتي حال الاضطرار.

وهل يلحق الطين بالحشيش والصوف والقطن في حال الاضطرار، فإن أمكن التستّر به -والظاهر أنّه لا يمكن- فهو في حكم الحشيش والقطن، لأنّه وإن لم يذكر في الروايات، إلاّ أنّ مقتضى قوله في صحيحة علي بن جعفر: (وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته)، بعد قوله في صدرها (إن أصاب حشيشاً يستر به عورته)، هذا الإطلاق في الذيل يشمل الحشيش وغيره، والحشيش في الصدر مثال للشيء الذي يستر به، فقوله إن لم يصب شيئاً شامل للطين، كذا ذكر السيّد الأستاذ.

ويمكن أن يقال: بأنّ الطين ليس ساتراً اختياراً، حتى لم نشترط صدق اللباس لعدم انصراف اللفظ إليه وعدم شاهد على أنّه يريد بالمثال في الروايات ما يشمله، فقوله في صحيحة ابن جعفر: (إن لم يصب شيئاً)، بعد ذكر الحشيش في الصدر لا يشمل الطين على هذا، لأنّ الظاهر أنّ المراد شيء من الحشيش ونحوه ممّا هو ساتر منفصل عن البدن.

 وقد عرفت مقتضى الأصل فيه.

وأمّا الطين حال الاضطرار: فمقتضى أصالة البراءة بعد عدم شمول الصحيحة له، عدم وجوب التستّر به للصلاة، بل إن لم نقل بكونه ساتراً حال الاختيار فلا يكون ساتراً حال الاضطرار، لعدم الدليل على الترتيب المذكور، لأنّه إمّا أن يفهم من الأدلّة الاجتزاء بكل ما يستر فهو ساتر اختياري، أو يفهم منها خصوص اللباس، أو ما لا يشمل الطلي بالطين، فلا يجزي الطين حتى في حال الاضطرار.

نعم لمّا كان التستّر به موجباً للأمن من المطلع الموجب للصلاة قائماً إيماءً أو راكعاً وساجداً، فلا بأس حينئذٍ بدعوى وجوبه مقدّمة للقيام الواجب وحده، أو مع الركوع والسجود، وهذا واضح بناءاً على وجوب إتمام الركوع والسجود على العاري إذا أمن المطلع، فإنّه يجب حينئذٍ، لأنّ الطين يوجب الأمن.

وأمّا بناءً على أنّ العاري يومئ للركوع والسجود وإن أمِن المطلع فقد يقال حينئذٍ بوجوب الجمع عليه حينئذٍ للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين: من إتمامهما والإيماء لهما.

 إذ على تقدير كون الطين ساتراً صلاتيّاً يتعيّن إتمام الركوع والسجود، وعلى تقدير عدمه يتعيّن الإيماء، وحيث لا دليل على أحدهما يجب الجمع، ولا فرق بين أمن المطلع من جهة التستّر بهما وأمنه من غير جهته كما إذا كان في بيت وحده.

نعم على الأوّل يعلم بوجوب التستّر بهما تفصيلاً إمّا لأنّه ستر صلاتي أو لأنّه مقدّمة للقيام، وفي الثاني لا يعلم بذلك، بل يتردّد بين لزوم التستّر بهما وإتمام الصلاة، وبين الصلاة إيماءً ولو بدون تستر بهما.

هذا وقد يدعى انحلال العلم الإجمالي: بأنّ الإيماء في صلاة العاري على تقدير القول به، يمكن إثباته بإثبات موضوعه، سواءٌ كان موضوعه عدم وجوب الساتر الشرعي أم عدم ساتريّة الموجود شرعاً، فإن كلاًّ من العدمين ممّا يمكن إثباته بالأصل، فإذا ثبت وجوب الإيماء انحلّ العلم الإجمالي.

وفيه: أنّ حكم العاري ليس موضوعه عدم ساتريّة الموجود، بل موضوعه عدم وجوده، وأصالة عدم وجوده لا تجري لأنّها من قبيل الأصل الجاري في الفرد المردّد بين معلوم البقاء ومعلوم الانتفاء.

إلاّ أن يقال: بأنّ مقتضى إطلاق صحيح ابن جعفر، وإن لم يجد شيئاً يستر به عورته كون الطين ساتراً صلاتيّاً، لأنّه ممّا يستر به العورة فيكون موضوعاً لإتمام الركوع والسجود، ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم ساتريّته شرعاً.

ولكن عرفت انصرافه عن مثل الطين ولو بقرينة غلبة وجود الطين أو التمكن لمن غرق متاعه، مع ترك الاستفصال عن وجوده أو ايجاده، فإذا تمت دعوى شمول الحشيش لمثله، فساتريته حال الاضطرار غير بعيدة.

ومنه تعرف الكلام في الوحل والماء الكدر، بل إن الصحيح منصرف عنهما غاية الانصراف، حتى لو قلنا بشموله لمثل الطين، نعم قد يقال بوجوب النزول فيه مع وجود المطلع، تحصيلاً للقيام كما عرفت في الطين.


 

[[1]] الوسائل م3 كتاب الصلاة ب 50 لباس المصلّي ح1 .

[[2]] الوسائل م3 كتاب الصرة ب 52 لباس المصلّي ح1 .

رجوع