إلى غير ذلك من الروايات، وهي على طائفتين:
إحداهما: ظاهرة في اعتبار أن يكون اللباس مذكّى، فالمعتبر هو عنوان وجودي كما في موثّقة ابن بكير ورواية ابن أبي حمزة.
الطائفة الثانية: ظاهرة في مانعيّة الميتة، حيث نهى فيها عن الصلاة في الميتة، وظاهر النهي هو الإرشاد إلى أنّ لبسه مانع عن صحّة الصلاة، فيدور الأمر بين أن يكون المعتبر هو عدم كون اللباس من الميتة المعبّر عنها بمانعيّة الميتة، وإنّما تعتبر التذكية باعتبار أنّ عدم وقوع الصلاة في الميتة ملازم لوقوعه في المذكّى، فيكون الأمر بالمذكّى عرضيّاً، وبين أن يكون الأمر بالعكس وأنّ المعتبر في الصلاة عنوان التذكية شرطاً.
وأمّا احتمال اعتبار الأمرين لعدم الواسطة بين المذكّى والميتة إذ المشكوك فيه باعتبار عدم العلم بتذكيته وعدم أمارة شرعيّة تدلّ عليها محكوم بأنّه ميتة، لأصالة عدم التذكيّة.
هذا الاحتمال فاسد، بل الأمر دائر بينهما وأحدهما لغو، وذلك لأنّ التقابل بين التذكيّة والميتة إمّا تقابل العدم والملكة أو تقابل الضدّين، وعلى كِلا التقديرين فاعتبار التذكيّة أو عدم كونه ميتة متلازمان، فالقول باعتبارهما معاً لغو.
وعلى هذا فإن قلنا بأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وأنّ العدم ليس عبارة عن العدم المحض، بل هما مسبوقان بالعدم، لأنّ العدم عبارة عن الاتّصاف بعدم الملكة، وليس عدماً صرفاً ليكون له حالة سابقة.
فعدم الملكة هو الشيء المتّصف بالعدم، وفرقٌ بين قولنا لا يبصر أي هو غير متّصف بالبصر، وبين قولنا أعمى أي هو متّصف بعدم البصر، فاستصحاب عدم البصر لا يثبت العمى.
وبناءً على هذا فعند الشكّ لا يمكن إثبات عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكيّة بمعنى الاتّصاف بعدم التذكية، لأنّ الاتّصاف بالعدم غير عدم الاتّصاف، فلا يثبت باستصحاب عدم الميتة إلا بناءً على الأصل المثبت.
وأمّا بناءً على ما ذكره كثيرون وذكره الشيخ الأنصاري في بحث البراءة، من أنّ الميتة شرعاً عبارة عن الحيوان الذي لم يذكَّ.
فعنوان الميتة عنوان مركّب من أمر وجودي وأمر عدمي، ففي مثل هذا فالأمر سهل لأنّ أحد الجزءين وهو كونه حيواناً محرز بالوجدان، والجزء الآخر وهو عدم كونه مذكّى، يثبت بالأصل، ولا مانع في مثله من الرجوع إلى هذا الأصل، لأنّ الميتة حينئذٍ عبارة عن غير المذكّى، فهي أمرٌ عدمي.
ومعنى مانعيّتها والنهي عنها، أنّه يشترط أن لا يكون الحيوان من غير المذكّى، وعدم العدم عبارة عن الوجود، أي أن يكون من المذكّى، فلا فرق على هذا بين الأمرين، فلا تعارض بين الروايات الناهية عن الميتة والآمرة بالمذكّى، لأنّ كلاًّ منها عبارة عن معنى واحد.
فمع الشكّ في كون الجلد من الميتة مع عدم أمارة على تذكيته، يكون الأصل عدم التذكيّة أمرٌ وجودي، فيستصحب عدمها ويثبت بذلك أنّه ميتة، لأنّها عين عدم التذكية.
وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما تقابل الضدّين وأن الميتة أمرٌ وجودي، فهما ضدّان لا ثالث لهما واقعاً كما هو الظاهر من كتب اللغة كالمصباح المنير، من أنّ الميتة هي الحيوان الذي مات بغير السبب الشرعي، فهي عنوان وجودي، فيكونان ضدّين بناءً على هذا، فيدور الأمر بين مانعيّة أحد الضدّين وشرطيّة الضدّ الآخر.
والنتيجة على أحد التقديرين تختلف عنها على التقدير الآخر، فلو كان المانع هو عنوان الميتة، فمع الشكّ في جلد أو غيره أنّه ميتة إذا لم يجرِ الأصل الموضوعي، تجري أصالة البراءة باعتبار أنّ المانعيّة راجعة إلى الشكّ في تقيّد الصلاة بعدم وقوعها في هذا الفرد المشكوك، ومقتضى الأصل عدم هذا التقييد.
إلاّ أنّ الأصل الموضوعي يجري لأصالة عدم كونه ميتة أو عدم المانعيّة، ولا يعارضها أصلٌ آخر لعدم الأثر.
وأمّا لو قلنا بشرطيّة التذكيّة، فمع الشكّ في الجلد المعيّن، فمع عدم جريان الأصل الموضوعي من عدم كونه مذكّى أو عدم كونه شرطاً، فمقتضى الأصل الحكمي هو الاشتغال، فإذا رجّحنا إحدى الطائفتين فهو، وأمّا إذا تردّدنا ولم نرجّح ولم نستظهر من الروايات أحد الأمرين، بل نعلم واقعاً باعتبار أحدهما لا بعينه، بناءً على هذا، فمقتضى العلم الإجمالي، عدم جريان البراءة أو شيء من الأصول الموضوعيّة أو الحكميّة.
أمّا الأصول الموضوعيّة: فلا يمكن إجراء أصالة عدم المانعيّة أو الشرطيّة في هذا الجلد، لأنّ أحدهما ثابت جزماً، فأصالة البراءة عنهما معاً لا يمكن للعلم باعتبار أحدهما واقعاً، وجريانها في أحدهما أيضاً لا يمكن لعدم ترتّب الأثر حيث لم يعلم المعتبر منهما لنجري أصالة عدمه.
وأمّا استصحاب عدم كون هذا الجلد من الميتة أو من المذكّى، فأيضاً لا يجري، لعدم إحراز أنّ مجرى الاستصحاب له أثر شرعي إذ لم يحرز المعتبر منهما، فإنّ استصحاب عدم كونه ميتة إنّما يكون له أثر إذا كانت الميتة مانعة، ولكن لم يثبت، بل لعلّ عنوان التذكية هو الشرط المعتبر، واستصحاب عدم كونه ميتة لا يثبت التذكية لأنّه مثبت، وكذلك استصحاب عدم التذكية، إنّما يكون له أثر إذا كانت التذكية ولم يعلم، بل لعلّ الميتة مانعة ولا تثبت الميتة بعدم التذكية، لأنّه مثبت بناءً على أنّهما متضادّان.