فيقع الكلام في الأدلّة الاجتهاديّة
فقد استدلّ على جواز الصلاة في اللباس المشكوك بأمور:
الدليل الأوّل: ما عن المحقّق القمّي (قده) من أنّ الأدلّة الناهية عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه منصرفة إلى النهي عن الصلاة فيما أحرز أنّه غير مأكول.
ومقتضى ذلك أنّ الصلاة في المشكوك صحيحة واقعاً، لأنّ الإحراز جزء الموضوع، فإذا انتفى الإحراز ارتفع المنع واقعاً، ومعنى ذلك صحّة الصلاة حتّى لو انكشف فيما بعد أنّه من غير المأكول.
وهذه الدعوى قد تقدّم ما فيها: من أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا المعلومة، ولا فرق بين هذا الشرط وبين أدلّة سائر الشرائط والموانع الظاهرة في ثبوت الحكم للموضوعات الواقعيّة.
الدليل الثاني: أنّه يستفاد من العمومات والإطلاقات وجوب التستّر حال الصلاة، وهذه الإطلاقات حجّة لا فيما ثبت تخصيصه، فهي حجّة ما لم تثبت حجّة أخرى على خلافها، تخصّصها أو تقيّدها.
ومن المعلوم أنّ حجيّة المخصّص أو المقيّد بل كل دليل كما تتوقّف على ثبوت الكبرى، كذلك تتوقّف على ثبوت الصغرى، فتخصيص هذه العمومات كما يتوقّف على ثبوت الكبرى وهي ثبوت عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل، كذلك يتوقّف على الصغرى وهي إحراز أنّ هذا الشيء ممّا لا يؤكل، فمع عدم إحراز الصغرى كما في المقام، لا يكون دليل المخصّص حجّة، فيتمسّك بإطلاقات وعمومات وجوب التستّر.
وفيه: أنّ تخصيص العام لا إشكال فيه، ويتعنون بعد التخصّيص بغير عنوان الخاص لا محالة إذ العموم والخصوص لا يجتمعان، فعنوان العام في المقام بعد تخصيصه بغير ما حرم أكله يتقيّد بالساتر من المأكول أو من غير ما حرم أكله، فما يشكّ فيه لم يحرز أنّه عنوان للعام الذي هو المراد بالإرادة الجديّة بعد التخصيص، فالتمسّك بالعام لإثبات حكمه له تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو غير صحيح كما هو محرّر في محلّه.
هذا مضافاً إلى توقّف هذا الاستدلال على وجود عموم أو مطلق يدلّ على وجوب الصلاة في كلّ ساتر، والظاهر عدم وجود مثله في الأدلّة.
الدليل الثالث: ما يظهر من كلمات المحقّق القمّي وغيره، وهو أنّ المانعيّة لو كانت ثابتة من غير ناحية النهي كبعض الشرائط الأخرى لأمكن أن يقال: بأنّها ثابتة للوجود الواقعي، وأمّا إذا ثبتت بلسان النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، فالنهي لا يكون فعليّاً إلاّ مع الوصول، فلا يشمل المشكوك، لأنّه لم يكن الموضوع فعليّاً مع الشكّ فلا يشمله النهي، ولا يكون النهي فعليّاً، فإذا لم يكن النهي فعليّاً، لا تكون المانعيّة المنتزعة منه فعليّة، لأنّها تابعة له، وعلى هذا فلا مانع من الصحّة لقصور دليل المانعيّة.
وفيه:
أوّلاً: أنّ الأدلّة لم تنحصر بالنهي عن غير المأكول بل عمدتها موثّقة ابن بكير التي حكم فيها بالفساد ابتداءً بلا نهي ينتزع عنه الفساد، وهذا فعلي حتى مع عدم الوصول، لأنّ المانعيّة واقعيّة ولم تثبت لِما لا يؤكل بوصف أنّه معلوم.
وثانياً: أنّه لو سلّمنا الانحصار بما فيه نهي، فالكلام المذكور لا يتم لأنّه إنّما يسلم لو سلم في النواهي النفسيّة، فإنّ فعليّتها تتوقّف على الوصول، وأمّا النواهي الإرشاديّة فلا نسلّم فيها ذلك كما هو الحال هنا، فإنّ النواهي المذكورة إرشاد إلى المانعيّة فهذه النواهي حينئذٍ بمنزلة الحكم بالفساد ابتداءً بلا توسيط النهي، بل بمجرّد توسيط لفظ، والمانعيّة والشرطيّة وإن كان الصحيح انتزاعهما من التكليف، إلا أنه ليس المراد به انتزاعهما من النهي هنا، لأنّه إرشادي، بل المراد أنّهما منتزعتان من تقيّد المأمور به بقيد وجودي أو عدمي.
وثالثاً: أنّ الدعوى من أصلها باطلة، إذ حتى النواهي النفسيّة لا تتوقّف فعليّتها على الوصول، لأنّ فعليّة الحكم تتبع فعليّة موضوعه إذا لم يكن العلم مأخوذاً في الموضوع، فمع وجود الموضوع يصير الحكم فعليّاً وإلاّ لزم التخلّف.
نعم، العلم دخيل في التنجّز واستحقاق العقاب على المخالفة لا غير، فإنّ التكليف غير الواصل لا يكون منجزاً إلاّ أنّه لا يكون فعليّاً، ولذا كان الاحتياط حسناً، وهذا معناه الفعليّة، لأنّ الاحتياط هو التحفظ على الحكم الواقعي.
فما ذكره لا يتم صغرى لعدم وجود نهي، ولا كبرى لعدم اشتراط النهي بالوصول، لِما ذكرناه، وإن أصرّ عليه صاحب الكفاية في مسألة الاجتماع وبذلك صحّح العبادة في المجمع بدعوى أنّ التحريم حيث لم يصلّ فهو ليس بفعلي، فلا مانع من فعليّة الوجوب.
وهذا غير ممكن، لأنّ الأحكام متضادّة بوجوداتها الواقعيّة سواء علم المكلّف بها أو لم يعلم، فلا يمكن اجتماع الضدّين، ومع وجود الموضوع يكون الحكم فعليّاً وإن لم يعلم به غايته لا يكون منجزاً.
الدليل الرابع: ما دلّ من الروايات على جواز الصلاة في الخزّ الخالص غير المغشوش، فإنّه لولا جواز الصلاة في المشكوك لكانت هذه الروايات مختصّة بالمورد النادر، وهو المورد الذي يعلم فيه بعدم كونه مغشوشاً، إذ شذّ المورد الذي يمكن العلم فيه بكونه خالصاً، فتصبح هذه الروايات لغواً، فلأجل صونها عن اللغويّة بالدلالة الإلتزاميّة يستكشف منها الجواز في المشكوك من الخزّ، وبعدم القول بالفصل يُقال بالجواز في سائر المشكوكات.
وهذا الدليل أيضاً لا يتم، لأنّ الخزّ كما تقدّم قد يُطلق ويراد به ما كان مصنوعاً من الحرير، وهذا خارج عن محلّ الابتلاء، وقد يُراد به الجلد أو الوبر المأخوذ من الخزّ، ومقتضى إطلاق بعض الروايات وترك الاستفصال الجواز فيهما.
فالجلد لا إشكال في أنّه يمكن تمييزه لو قلنا بجواز الصلاة فيه، وأمّا الوبر فيمكن معرفته وأنّه غير مغشوش إمّا بنفسه إذا كان من أهل المعرفة أو بإخبار الثقة، فمع عدم إحرازه بهذه الطرق يكون مشكوكاً، ولكنّه لا يكون مورد الروايات حينئذٍ من المورد النادر، بل هي ناظرة للموضوع الواقعي وهو كثير.
ولو تنزّلنا وسلّمنا لزوم تخصيصها بالفرد النادر نلتزم بالجواز في المشكوك من الخزّ، فنلتزم بخروج الخزّ المشكوك عن عدم الجواز كما التزمنا بخروج أصل الخزّ عمّا دلّ على الحرمة فيما لا يؤكل، وأمّا غير موارد الخزّ المشكوكة فلا دليل على الجواز فيها.
هذا حاصل الكلام في الأدلّة الاجتهاديّة.
وتلخّص: أنّه لا دليل اجتهادي على جواز الصلاة في اللباس المشكوك.