الكلام في الأصول الموضوعية

ومن جملة الأصول الموضوعية التي يتمسك بها في المقام استصحاب عدم كون اللباس من أجزاء غير المأكول، فيستصحب عدم المانع.

وهذا مبني على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي الذي هو محل خلاف.

استصحاب العدم الأزلي وتحقيق الحال فيه

ولا بد من التكلم هنا في جهات:

الجهة الأولى

أن موضوع الحكم أو متعلّقه قد يكون بسيطاً، وقد يكون مركباً أعم من تركب الأجزاء أو المقيد مع قيده.

أما في صورة كونه بسيطاً فلا إشكال، فيستصحب عدمه إذا كان متيقناً، ولا يعارضه استصحاب بقاء بعض الأجزاء التي ينتزع عنها، لأنه لا أثر للجزء حتى يستصحب، كما انه لا يثبت العنوان باستصحاب هذا الجزء إذا كانت بقية الأجزاء محرزة بالوجدان لأنه حينئذٍ مثبت.

وأما إذا كان مركباً من أجزاء أو من المقيد وقيده، سواء كان القيد وجودياً أو عدميّاً.

فإن أحرزنا هذه الأجزاء فلا إشكال، وإذا أحرزنا بعضها وشككنا في الآخر مع كونه متيقناً سابقاً فلا إشكال أيضاً.

وأما إذا كان بعضها موجوداً أو الآخر معدوماً، ثم وجد المعدوم وشككنا في انعدام الموجود، فهل يمكن في مثله إحراز الموضوع بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل أو لا ؟

المعروف هو جريان الأصل في الجزء المتيقن سابقاً، وذلك كما لو كان محرزاً للطهارة التي هي قيد للصلاة ولم تكن أجزاء الصلاة الأخرى موجودة، ثم صلى وشك في طهارته السابقة، فالمعروف في مثله انه يجري استصحاب الطهارة، والمفروض أنّ بقية أجزاء الصلاة وقيودها محرزة بالوجدان.

إلا أنه أشكل على جريان هذا الاستصحاب: بأن الطهارة وان كانت لها آثارها الأخرى من جواز المس ونحوه، إلا أنه لا اثر لها في محل الكلام، لأن استصحاب بقائها معارض باستصحاب عدم وجود المركب من الصلاة والطهارة، فلا يحرز الامتثال بالإتيان بها مع الشك في الطهارة.

وأجاب المحقق النائيني (ره): بأن استصحاب عدم وجود المركب لا يجري، لأن الشك فيه مسبب عن الشك في بقاء الطهارة، إذ لا شك لنا من غير هذه الجهة، فإذا جرى استصحاب بقاء الطهارة كان حاكماً على استصحاب عدم وجود المركب فنحرز وجود المركب.

واعترض عليه السيد الأستاذ (قده): بأن السببيّة والمسببيّة صحيحة إلا أنها سببية تكوينية لا شرعية، لأن المركب لا يوجد في الخارج إلا بوجود تمام أجزائه وهذا ليس ترتّباً شرعياً، والترتّب إنما يكون في السببية الشرعية بأن كان المسبب من الأحكام الشرعية المترتبة على السبب، وأما إذا لم تكن السببية شرعية فلا يتقدم الأصل السببي بل هما متعارضان، إذ الأصل السببي حينئذٍ لا يرفع الشك عن المسبب ليكون حاكماً.

فالصحيح حينئذٍ أن يقال: أن الموضوع أو المتعلق إما أن يكون مركباً، بمعنى كون الدخيل هو ذوات الأجزاء إذ لا معنى للتركيب إلا ملاحظة الأجزاء وضم جزء إلى جزء، فالدخيل هو ذوات الأجزاء لا بوصف الاجتماع، وإما أن يكون بمعنى أن عنوان اجتماع هذه الأمور هو المعتبر فيكون عنواناً بسيطاً.

فان كان الدخيل هو العنوان الذي هو أمر بسيط، فلا إشكال في انه عنوان مسبوق بالعدم إذا شككنا فيه نستصحب عدمه، ولا يكون الأصل الجاري في الجزء حينئذٍ حاكماً عليه، لا لما ذكرناه فقط بل لأنّه في نفسه لا يجري إذ لا أثر له.

إلا أنّ هذا المبنى وهو اعتبار عنوان الاجتماع خلاف الفرض، لأن المفروض أنّ الموضوع مركب من أمور، فعلى هذا يجري الاستصحاب في الجزء لأنّه موضوع للأثر ولا يجري عدم وجود المركب لأنه لا أثر له بوصف أنه مركب، على انه ليس عنوان المركب إلا عبارة عن نفس تلك الأمور لا شيء لازم لها، فهو حاصل قهراً.

مثال الجوهرين: الأخوة، فان وجودهم موضوع لحجب الأم عن الثلث، فإذا وجد أحدهم ثم عند موت المورث وجد الأخ الآخر، وشككنا في وجود الأخ الأول يجري الاستصحاب.

ومثال العرضين: الطهارة والصلاة كما تقدم.

ومثال الجوهر والعرض في غيره: وجود الوارث وموت المورث.

هذا إذا كان الموضوع مركباً من جوهرين أو عرضين في موضوع واحد أو موضوعين أو جوهر وعرض آخر في غير هذا المحل.

وأما إذا كان مركباً من المعروض وعرضه كزيد وعدالته، فهل هو من هذا القبيل أو لا ؟ بعد الفراغ عن الارتباط التكويني بينهما لفرض احتياج العرض في وجوده إلى موضوع.

ذكر المحقق النائيني: أنه ليس من هذا القبيل، لأن المعتبر في المقام هو الاتصاف فانه وان كان يمكن ملاحظة العرض بما هو شيء في حيال ذاته فيكون مبايناً لموضوعه ويكون محموليّاً، إلا أنّ المتيقن كونه معتبراً بما انه لا حق لموضوعه فيكون نعتيّاً للموضوع كما سيأتي وجهه.

وحينئذٍ فلا بد من إحراز الاتصاف وإجراء الاستصحاب في أحدهما مع كون الآخر محرزاً بالوجدان لا يثبت به الاتصاف لأنه من اللوازم، فترتب الحكم مثلاً على زيد الأعمى عبارة عن اتصاف زيد بعدم البصر، فنفس عدم البصر كان متحققاً ولكن لا يمكن جريانه لإثبات اتصاف زيد به، لأن الاتصاف بالبصر له حالة سابقة فاستصحابه باستصحاب العدم الأزلي لا يثبت الاتصاف بالعدم.

وأما أنه لماذا يكون العرض ومحله من قبيل النعتي فيكون المعتبر هو الاتصاف ويكون عنواناً بسيطاً، ولماذا لا يكون كبقية الأقسام فيتم فيه الاستصحاب مثلها؟

فقد برهن عليه المحقق النائيني بعد الفراغ عن إن الإهمال النفس الامري غير معقول في متعلقات الأحكام بالنسبة إلى كل واحد من انقساماتها المنقسمة هي بنفسها إليها مع علم الآمر والتفاته.

بعد الفراغ عن هذا يقال: بأن مرتبة انقسام الشيء إلى الإطلاق والتقييد بلحاظ عوارضه ومقارناته، متأخرة رتبة عن مرتبة انقسامه بلحاظ نفسه، فزيد في نفسه ينقسم إلى الفاسق والعادل ولا يخلو من أحدهما واقعاً، فهذا التقسيم بلحاظ نفسه، وأما تقسيمه بلحاظ مقارناته فهو أنّ الفسق موجود فيه أو غير موجود.

وحينئذٍ فإذا قيد العام بوجود العرض أو بعدمه فلا بد وان يكون على نحو مفاد (كان) و (ليس) الناقصتين المعبر عنه بالعدم النعتي.

والوجه فيه: أنه إذا قيد الموضوع بوجود العرض أو عدمه على نحو المقارنة، فإما أن يكون بالإضافة إلى الاتصاف بوجود العرض أو عدمه في مرتبة نفسه مطلقاً أو مقيداً به، فإن كان باقياً على إطلاقه فهو تدافع وتناقض لاستحالة أن يقول اكرم العالم الذي لا يكون مقروناً بالفسق سواء كان متصفاً بالفسق أولا، وإذا كان مقيداً به على نحو الاتصاف فهو يستلزم لغوية التقييد على نحو المقارنة، لأن التقييد النعتي يغني عن التقييد المحمولي ولا عكس، وبما أنّ التقييد نعتي لا محالة بعد فرض عدم إمكان كونه محموليّاً فلا يمكن.

وأشكل عليه السيد الأستاذ: بان مرتبة ذات الموضوع وان كانت سابقة على مرتبة ذات العرض، إلا أنّ وجود العرض في نفسه ووجوده في موضوعه أمر واحد، لان العرض إذا لاحظناه في نفسه فهو وجود العرض، وإذا لاحظناه بالإضافة للمعروض فهو اتصاف المعروض.

فما ذكره من تقدم إحدى المرتبتين على الأخرى لا يوجب رجوع التركيب إلى الاتصاف، إذ لو اعتبرنا الاتصاف في المرتبة اللاحقة لا يبقى مجال لملاحظة الإطلاق والتقييد، للملازمة الخارجية بين الأمرين، فأحد التقييدين في إحدى المرتبتين يغني عن الآخر.

ولو تم ما ذكره، فلازمه الالتزام به في جميع أقسام تركب الموضوع المتقدمة من جوهرين وعرضيين وغيرهما، فيقال: أحدهما في مرتبة نفسه مطلق أو مقيد وهكذا.

فما ذكره لا يعني النعتيّة، نعم التقييد بالأمر الوجودي يرجع إلى الاتصاف، لأنه إذا كان الموضوع مركباً من وجود العرض ومحله فالتقييد به يكون تقييداً باتصاف المحل به، لا لما ذكره لما عرفت، بل لأن وجود العرض في نفسه عين وجوده في غيره، ولا معنى للاتصاف إلا ثبوت شيء لشيء، وأما في العدم فلا يرجع إلى النعتيّة، لأنه إذا كان الموضوع مركباً من المحل وعدم العرض مما هو الموافق للخارج وطبيعة نفس الأمر هو التقييد بعدم العرض، لأن المحل لم يتصف بالعرض حقيقة وفي نفس الأمر، وأما الاتصاف بعدمه فهو أمر اعتباري يحتاج إلى اللحاظ ومؤونة زائدة وقرينة والمفروض عدمها.

وما ذكره يمكن قلبه فيقال إذا قيد الموضوع بالاتصاف بالعدم، فإما أن يكون في مرتبة نفسه مطلقاً بالإضافة إلى عدم الاتصاف أو مقيداً به... الخ.

فالحل في العدمي أن يقال: إن التوصيف بالعدم أمر اعتباري لحاظي لا حقيقي واقعي، والانقسامات التي لا بد لكل متكلم من ملاحظتها هي الانقسامات الحقيقة.

وحينئذ فإذا ثبت التقييد بعدم الوصف بحسب الدليل كان ذلك مغنياً عن التقييد بالاتصاف بالعدم، فان الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الاتصاف بالعدم إنما يلحقان الماهية بعد إعمال المؤونة الزائدة، وإلا فلا موضوع لهما، فان المعروض بطبعه إما متصف بالعرض أو غير متصف به، وأما اتصافه بالعدم فهو يحتاج إلى إعمال عناية زائدة.

وحينئذٍ فحل المطلب أن يقال: بأن العرض ليس له وجودان وجود في نفسه ووجود في موضوعه المعبّر عنه بالاتصاف، بل له وجود واحد يختلف باللحاظ، فيلحظ تارة بما أنه مضاف لنفسه فيقال موجود، ووجود البياض مثلاً، ويلحظ أخرى باعتبار أنه وجود وقيام بالغير فيقال الجسم أبيض، وليس له في الخارج وجودان.

ولذا قيل: بأن وجود العرض في نفسه عين وجوده لغيره، فإذا كان كذلك، فإذا جعل الموضوع مركباً من العرض ومحله، فإما أن يكون الوجود مضافاً إلى العرض على نحو الإطلاق فالموضوع مركب، ولكن من محل وعرض غير مقيد بهذا المحل، وهو خلاف المفروض، فلا بد من ملاحظته لا على نحو الإطلاق، بل مقيداً بهذا المحل باعتبار أن العرض بذاته قائم بالغير، سواء أخذ بما هو صفة له أو بما هو وجود في نفسه، فإنه على كلا التقديرين هو قائم بغيره كما عرفت، فلا بد من أخذه مقيداً بالموضوع، وهذا عين الاتصاف، فان كان لهذا الاتصاف حالة سابقة من وجود أو عدم جرى استصحابها وإلا فلا.، وإجراء الأصل في أحد جزئي الموضوع لا يثبت هذا العنوان لأنه مثبت، هذا في الفرض الوجودي وسيأتي الكلام فيه.

هذا حاصل الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية

أن عنوان الموضوع أو المتعلق بما أنّه معرف للوجود الخارجي إذا كان منقسماً في نفسه إلى أقسام، فلا يخلو الحال في مقام جعل الحكم عليه من أن يكون لإحدى هذه الخصوصيات دخل في جعل الحكم عليه أو لا يكون لأحدهما دخل، بل يكون المقصود مجرد الوجود بلا دخل لأية خصوصية، فكل خصوصية إما دخيلة أو غير دخيلة، ولا ثالث، فإذا كانت دخيلة فهو مقيد وإلا فهو المطلق.

والوجه في ذلك: أن الإهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول من الجاعل الملتفت للأقسام.

الجهة الثالثة

أن الطبيعة إذا كانت موضوعاً أو متعلقاً للأمر، وورد عليها مخصص منفصل  إذ في المتصل فالتعنون واضح من الأول  فهذا المخصص يثبت حكماً على بعض الأفراد على خلاف حكم العام لا محالة، فدليل التخصيص لا يوجب قلب ظهور العام، لأنه قد انعقد، إذ الكلام في المنفصل.

نعم يستكشف به أنّ المراد الجدي هو ليس كل الأفراد، بل ما عدا هذا الخاص لا محالة، فإنّه بمقتضى المقدمة الثانية المتقدمة، فموضوع حكم العام إما مطلق بالنسبة لهذا الخاص وعدمه وهو غير معقول مع إخراجه للفاسق جداً، فلا بد من كونه مقيداً بعدمه.

وعلى هذا يتعنون موضوع العام بعنوان غير الخاص، فدليل التخصيص يوجب دائماً تقيد العام في مقام الثبوت والجد.

إلا أن بعض الأعاظم وهو المحقق العراقي أنكر هذا، وادعى أن التخصيص لا يوجب تعنون العام، بل يبقى عاماً، لأن التخصيص أمر سلبي لا يتضمن إعطاء عنوان، غايته أنه عام بالنسبة للباقي بعد التخصيص، وعنوانه لا يتغير، فلو خرج بعض أفراده عن الحكم بالموت، فبما أن هذا لا يوجب التعنون يقيناً، فكذلك إخراج بعض الأفراد حكماً لا يوجب تضييقاً لدائرة العام، ولا جعل عنوانه غير عنوانه وأضيق منه.

ولكن لا يخفى أن في هذا الكلام خلطاً بين مقام الجعل ومقام الفعلية، فإنا قد ذكرنا أن الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية وكثرة الأفراد، وقلتها بل وانعدامها في الخارج لا يوجب توسعة ولا تضييقاً في مرحلة الجعل وهذا واضح في القضايا الشرعية وغيرها.

ففي مقام الفعلية والانطباق قد لا يكون مصداقاً للطبيعة، وقد يكون، وهذا أجنبي عن مرحلة الجعل وحينئذ فخروج بعض الأفراد عن حكم العام تكويناً بالموت لا يوجب تضييقاً في دائرته، وكونه معنوناً بغير هذا الفرد، فبعد استحالة الإهمال، وبقطع النظر عن الخارج وإن كان معدوماً بالمرة، فلا بد من لحاظ الإطلاق أو التقيد في مرحلة الجعل، فإذا قيد أوجب تضييقاً لا محالة.

ثم إنه (قده) استشكل بأن القائلين بالتعنون يقولون بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، والبعض ذهبوا إلى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وهذا منه غريب، لأن كثيراً من المباحث التي تذكر في مباحث العام والخاص لا يبحث عنها في المطلق والمقيد لوحدة المناط، وهذا لا يستكشف منه أن الأمر في المطلق والمقيد على خلاف ذلك، فقد وقع الكلام في مبحث العام والخاص، فإنّه لو كان التخصيص بمنفصل فهل يكون العام حجة في الباقي، ولم يذكروا مثل ذلك في باب المطلق، مع انه بناء على أن التقييد يوجب المجاز، فعين هذا البحث يجري في المطلق.

ووقع الكلام أيضاً في المسألة المعروفة في الرجوع إلى العام أو استصحاب حكم المخصص لو مضى زمانه، وعين هذا الكلام يجري في المطلق والمقيّد، ووقع الكلام في أن المخصص المجمل الدائر بين الأقل والأكثر، هل يرجع فيه للعام في الزائد أو لا، مع إن هذا البحث سيأتي في بحث المطلق والمقيّد.

فالبحث في الشبهات الحكمية والمصداقية لا ينحصر بالعام، فإذا لم يتعرضوا له في المطلق، فلا يدل ذلك على عدم وقوع البحث فيه، بل انه يترك لوحدة الملاك.

الجهة الرابعة

أن المركب من العرض ومحله لا مناص من أخذ العرض فيه نعتيّاً، لأنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده في موضوعه، وليس له وجودان، فنفس أخذ الموضوع مركباً من الموضوع وعرضه معناه الاتصاف به، إذ لا معنى للاتصاف إلا ثبوت شيء لشيء.

وأما لو تركب الموضوع من الموضوع وعدم العرض، فهل يكون من هذا القبيل أو لا ؟

فنقول: قد يكون العدم من قبيل عدم الملكة وهو العدم الخاص الذي قيل إن له نحواً من الوجود، ففي مثله يكون العدم نعتياً بنحو من المسامحة، لأن الذات تتصف بالعمى الملازم لعدم البصر، فاتصافها بعدم البصر مسامحة، لأنّه عدم خاص، فلا بد في مثله من اتصاف الموضوع بهذا العدم، وحينئذٍ فمثل هذا العدم لا يمكن استصحابه إلا إذا كانت له حالة سابقة، ولا يمكن إثباته بمجرد استصحاب عدم العرض.

وأما لو كان الموضوع مركباً من المعروض وعدم هذا الوصف، فحينئذٍ نفس العدم الأزلي هو جزء الموضوع، فلا مانع من استصحابه.

وسر الفرق بينهما: أن النعتيّة من لوازم وجود العرض حيث أن وجوده في نفسه عين وجوده في غيره، فمجرد ملاحظة الوصف في موضوع، معناه أخذ نعتاً، إذ النعتيّة هي قوامه وذاته.

وأما عدم العرض فلا يحتاج إلى موضوع وليس هو شيئاً حتى يكون نعتاً وليس بذاته متقوماً بالموضوع لتكون النعتيّة من لوازمه، بل هو غير قابل لأن يتصف به الموضوع، لأنّه عدم محض، فلا معنى للاتصاف به إلا بعناية، وهي أن يتصف الموضوع بشيء ملازم للعدم كما في الاتصاف بعدم الملكة على ما ذكرنا.

وما قيل من انقسام النسبة إلى إيجابية وسلبية، فليس معنى النسبة السلبية هو ربط السلب إذ السلب ليس شيئاً حتى يربط، بل معنى النسبة السلبية هي النسبة الكلامية القائمة بين الموضوع والمحمول، وهذه النسبة الكلامية قد تحكي عن ثبوت شيء لشيء، وقد تحكي عن نفي شيء عن شيء ولا تحكي عن ارتباط العدم بشيء، فإن العدم لا يرتبط.

ويدل على ذلك، أن القضايا الإيجابية والسلبية لا تنحصران بإضافة العرض أو نفيه عن الموضوع، بل تتحققان في ثبوت الوجود للماهية ونفيه عنها، فيقال الإنسان موجود والعنقاء ليست بموجودة، مع أن الماهية بنفسها بقطع النظر عن الوجود لا شيء، فما معنى الربط بينهما وبين الوجود، فإنّ الوجود الثابت لها هو وجود شيء أي وجودها لا وجود شيء لشيء.

وكذلك نفي الوجود عنها فإنها بقطع النظر عن الوجود ليست شيئاً لنربط بينهما وبين عدم الوجود، فمعنى النسبة السلبية هي النسبة الكلامية، وليس معناها الارتباط بين العدم وشيء.

وكذا الحال في الذاتيّات في كتاب البرهان كقولنا الإنسان ممكن أو النقيضان يستحيل اجتماعهما، فإنّه لا يقال إن الاستحالة مربوطة باجتماع النقيضين، فهذه النسبة مع إنها موجبة لا يعقل فيها الربط إذ ليس هناك شيء ليربط، وإنما النسبة الكلامية نسبة إيجابية، فليس معنى وجود النسبة السلبية هو جواز ربط العدم، بل معناه النسبة الكلامية.

فالوجود الرابط ينحصر بالعرض ومحله، ولا يجوز بين عدم العرض وموضوعٍ، كما لا يجوز بين الماهية ووجودها.

ومن هنا يظهر أنّ مقتضى طبع العدم أن يكون بنفسه عدماً محمولياً، وناعتيته تحتاج إلى عناية ودليل فمقتضى القاعدة الأولية في العدم هو كونه محمولياً.

ومن هنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقق النائيني في كثير من كلماته في أنّه لو شك بين كون العدم ناعتيّاً أو محمولياً وليس هناك أصل يرجع إليه لأنهما اعتباران متباينان لما عرفت من الأصل الأولي، ولا يتصور الشك بين كونه ناعتيّاً أو محمولياً بل هو دائماً محمولي.

وحاصل هذه المقدمة: إن العدم إذا كان محمولياً يجري استصحابه، وإن كان نعتيّاً لا يجري استصحابه ولا يثبت باستصحاب العدم المحمولي لأنه مثبت.

ثم إن المحقق العراقي فصل تفصيلاً آخر، وحاصله:

أن التقييد بالعرض قد يكون في الجمل الدقيقة الناقصة، بأن تكون الطبيعة بقطع النظر عن وجودها أو عدمها مقيدة بقيد خاص، فإنها بهذا اللحاظ يمكن أن يحمل عليها الوجود ويمكن أن يحمل عليها العدم وتكون مقسماً لهما.

فإذا كان الوصف من هذا القبيل أي لوحظ القيد بالإضافة إلى نفس الذات مثل إذا كان زيد عالماً فأكرمه، فحينئذ إذا شككنا في وجود الوصف وإن كنا عالمين بوجود الذات تستصحب عدم الماهية، لأن الماهية بالقيد المذكور قابلة للوجود والعدم، وحيث كان عدمها متيقناً سابقاً في زمان مستصحبه لا يفرق في ذلك بين كون الوصف محمولياً أو نعتيّاً.

وقد يؤخذ الوصف قيداً للماهية على نحو الجمل التركيبية التامة يعني يؤخذ القيد قيداً للموضوع المفروض الوجود مثل إذا وجد زيد وكان عالماً فأكرمه، فظرف وجود العرض هو ظرف وجود الموضوع، ففي هذه المرتبة التي أخذ العرض قيداً فعدم العرض يكون في هذه المرتبة، لأن الوجود والعدم بديلان، ونقيض كل شيء رفعه.

فنقيض العرض هو عدمه في مرتبته التي يكون فيها وبحدوده المحدود بها سواء كان في طول الذات أو في عرضها، فإذا كان وجود العرض في رتبة الذات فعدمه في رتبة الذات لا في رتبة سابقة على الذات إذ العدم في رتبة سابقة على الذات ليس عدماً لذلك العرض ولا نقيضاً له، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب العدم المتقدم رتبة على الذات والوصف، إذ لا أثر له وليس جزء من الموضوع بل هو أجنبي عنه بالمرة.

على أن الذي يتصف بالوجود والعدم هو الماهية المعراة عن الوجود والعدم، وأما الماهية المقيدة بالوجود فهذه كنفس الوجود لا تقبل الاتصاف بالعدم لأنه كقولنا الوجود معدوم لم يكن موجوداً، كما أنها لا تتصف بالوجود.

وعلى هذا فلا يجري استصحاب العدم السابق لأنه لا أثر له، وعدم الماهية الخاصة لا حالة سابقة له لأنه في رتبة الموضوع وهو عبارة عن الماهية الخاصة، وهذه لا تتصف بالعدم ليستصحب، ولا يفرق في ذلك بين الناعتيّة والمحموليّة، وهذا حاصل الكلام.

وما ذكره في القسم الأول من جريان الاستصحاب على كلا تقديري الناعتية والمحمولية في محله، إلا أنه أجنبي عن محل الكلام وعن التفصيل الذي ذكرناه بين الناعتية والمحمولية، لأن ذلك التفصيل كان بالنسبة إلى العدم.

هذا حاصل ما أفاده بعض الأعاظم.

وأما إذا كان الوجود ناعتياً فلا إشكال في أنه يجري استصحاب عدمه، وهذا من الواضحات.

وأما ما ذكره في الشق الثاني من أن عدم العرض إنما هو في مرتبة وجوده..

ففيه: أنه إذا كان العرض في مرتبة، فنقيضه هو عدمه في تلك المرتبة لا العدم في تلك المرتبة، فالقيام يوم الجمعة مثلاً نقيضه عدم القيام يوم الجمعة لا الصوم يوم الجمعة، لأن العدم لا تؤخذ فيه خصوصية مهما كانت فنقيض الخاص عدم الخاص لا العدم الخاص، وهذا من واضحات المنطق.

فإذا كان المأخوذ هو العرض في مرتبة وجود زيد فنقيضه هو عدم عدالة زيد لا عدم العدالة حين وجود زيد، فالعدم يضاف للخاص لا أن الخصوصية تضاف للعدم وإلا لكان النقيضان مرتفعان في مرتبة ما قبل وجود الموضوع، لأن العرض غير موجود إذا هو في رتبة وجود الموضوع، ونقيضه حسب الفرض هو العدم في تلك الرتبة.

وأما قبل وجود الموضوع فعدمه أيضاً غير موجود، فارتفع النقيضان في تلك المرتبة وهو محال، ويدل على ذلك وجود النسب في الخارج فإنها متقوّمة بالأطراف، فظرف وجود النسبة هو وجود الطرفين فعدم النسبة لو كان في ذلك الظرف فقط لكان النقيضان مرتفعين قبل وجود الطرفين مع انه محال.

وأما ما ذكره من أن الوجود والماهية المتصفة بالوجود لا يتصفان بالعدم.

فهذا فيه خلط بين نحوين من الاتصاف والوجود، فإنه لو كان المراد بالاتصاف ما كان على نحو العروض واللحوق الذي هو غير داخل في ذات الماهية، فما ذكره صحيح لأن اتصاف شيء بالوجود أو العدم بهذا المعنى يختص بالماهية المعراة كما ذكر، لأن الوجود لا يعرض لنفسه بهذا المعنى ولا يعرض للماهية الموجودة بهذا المعنى، كما أن العدم لا يعرض الوجود ولا الماهية الموجودة، لأنه نقيض والنقيض لا يعرض على نقيضه.

وأما لو أريد من الاتصاف واجدية الذات لهذا الوصف، فهذا لا مانع فيه من اتصافه بالوجود، لأنه واجد له بل هو أولى من الماهية في الاتصاف به، لأن الماهية تتصف بالوجود بواسطة الوجود، فالوجود بالنسبة إليها ثانوي وبالنسبة إليه أولي، كذلك يتصف الوجود بالعدم بهذا المعنى من الاتصاف أي بمعنى أن الخارج ليس ظرفاً له وكذلك الحال في الماهية.

فمعنى اتصاف الوجود والماهية بالوجود على هذا، أن الخارج ظرف له أي هو بنفسه متحقق بالخارج، ومعنى اتصافهما بالعدم أن الخارج ليس ظرفاً له، لأن كل وجود مسبوق بالعدم وإلا لكان قديماً وهو محال.

النتيجة المترتبة على المقدمات المذكورة في العدم الأزلي

والنتيجة المترتبة على مجموع هذه المقدمات:

أن أي موضوع مركب من العرض ومحله إذا شككنا في وجوده خارجاً فبما أنه حادث مسبوق بالعدم نستصحب عدمه إذا كانت أجزاؤه وجودية، لأن الأثر للذات المتّصفة فهو عنوان بسيط إذا شككنا فيه نستصحب عدمه، ولا يعارضه استصحاب عدم الجزء لأنه لا أثر له، نعم في غير العرض ومحله من بقية الأقسام لا يجري استصحاب عدم المركب، لأن الموضوع هو ذوات الأجزاء والمركب ليس إلا الأجزاء وهي صاحبة الأثر.

وأما إذا كان الموضوع مركباً من العرض ومحله وكان العرض عدمياً، فإن كان هذا العدم نعتياً فلا يمكن التمسك بالاستصحاب، لأن الاتصاف بالعدم ليس له حالة سابقة لنستصحبه، واستصحاب عدم الاتصاف لا يثبت الاتصاف بالعدم، وأما كان العدم محمولياً فواضح جريان الاستصحاب فيه وهو استصحاب العدم الأزلي.

ويتم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل، وحيث إن المأخوذ من الإعدام في موضوع الأدلة هو المحمولي، لأنه هو مقتضى طبع العدم وغيره يحتاج إلى مؤونة ودليل، فيجري الاستصحاب.

وفي المقام حيث بنينا على المانعية، فالمأخوذ في الموضوع عنوان عدمي محمولي وهو أن لا يكون اللباس مما حرم الله أكله أو مما لا يؤكل، لا أن يكون مما لم يحرم الله أكله، فهو لباس بالوجدان ونثبت عدم حرمة أكله بالأصل فيتم الموضوع وهو حرمة أكله.

نعم بناء على الشرطية كما نسب إلى العلامة وغيره وأن المعتبر أن يكون اللباس من غير ما حرم الله أكله، فهذا معناه اتصاف اللباس بكونه من غير محرم الأكل، وهذا عدم نعتي لا يثبت باستصحاب العدم المحمولي إلا على نحو مثبت.

فإذا قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي فلا إشكال في جميع التقادير الثلاثة الآتية، وأما إذا لم نقل بجريانه فحينئذ يقع الكلام فيما إذا لم نقل بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية إذا بنينا على أن مركز الاعتبار هو اللباس وأن لا يكون من أجزاء ما لا يؤكل  بعد الفراغ عن انه معتبر بنحو المانعية، فلا يجري أي استصحاب.

لأن اللباس من حين وجوده إما من المأكول أو من غيره، فلا حالة سابقة له متيقنة، والمفروض أنّ العدم الأزلي لا يجري، وأما إذا كان مركز الاعتبار هو نفس الصلاة لا اللباس كما ربما يستظهر من موثقة ابن بكير، فحينئذ لا بد من التفصيل بين أن يكون المصلي من الأول لابساً لهذا المشكوك، ففي مثل ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب إذ الصلاة من الأول نشك في وقوعها فيما لا يؤكل للشك في اقترانها من حين وجودها، فلا حالة له سابقة.

وأما لو لبس المشكوك في أثنائها فيجري الاستصحاب، لأن الصلاة قبل لبس هذا المشكوك لم تكن مقترنة بما لا يؤكل فيستصحب بقاؤها وعدم اقترانها، وهذا مبني على أنّ الصلاة وان كانت تكويناً مركبة من أجزاء ومقولات متباينة ولكنها بحسب الاعتبار أمر وجداني، والمانع إنما اعتبر في الأمر الوجداني بما هو كذلك لا في كل جزء من أجزائها، إذ لو كان كذلك فالاستصحاب لا يجري لأن الأجزاء المتقدمة وان لم تكن مقترنة ولكن خصوص هذا الجزء الذي كان اللبس حينه من أول وجوده مشكوك فلا يجري الاستصحاب.

إلا أن اعتبار الصلاة لا يرجع إلى اعتبار الأجزاء وان لا يقترن كل جزء بما لا يؤكل، إذ لازمه أنه لو لبس ما لا يؤكل جزماً حال القراءة أن تفسد القراءة فينتزعه ويعيدها ولا تبطل الصلاة، لأنه لم يعتبر اقتران الصلاة بما لا يؤكل بل خصوص الأجزاء، فغايته أن يفسد الجزء فيأتي بغيره مع إنه ليس كذلك.

فالاعتبار متعلق بالمجموع فأينما تحقق الاقتران يبطل المجموع، فمع الشك لا بد من التفصيل المذكور.

إلا أن يقال أنه حتى لو كان لابساً للمشكوك تصح الصلاة بالاستصحاب التعليقي وسيأتي التعرض له.

وأما لو كان مركز الاشتراط هو المصلي نفسه، كما استظهرناه سابقاً من قوله: (لا تلبسون شيئاً منه تصلون فيه) فالاستصحاب يجري على كلا التقديرين من الأول وفي الأثناء، لأن المكلف لم يكن لابساً لما لا يؤكل قبل لبس هذا المشكوك ولو قبل الصلاة، فإن هذا المكلف كان موجوداً ولم يكن لابساً فله حالة سابقة غير العدم الأزلي، وحينئذٍ فنستصحب أنه لم يلبس، نعم لا يترتب على هذا الاستصحاب إحراز حالة اللباس المشكوك، ولكن لا حاجة لنا في ذلك.

رجوع