ويقع الكلام في الأصول غير المحرزة من البراءة أو الاشتغال

وتحقيق الكلام في ذلك: أنه بعدما أحرز التكليف فلا بد من إحراز تحقق الامتثال ووجود المأمور به خارجاً، بلا فرق في ذلك بين القول بالشرطية والقول بالمانعية، لأن التكليف محقق وقاعدة الاشتغال محكمة.

فمع الإغماض عما تقدم من الأصول المحرزة إن أمكن إحراز جواز الإتيان بالصلاة مع اللباس المشكوك فهو، وإلا فقاعدة الاشتغال محكمة.

وقد يقال بجريان أصالة الحل في المقام في نفس الصلاة كما عن صاحب الحدائق، باعتبار أنّ الصلاة تنقسم إلى محلل ومحرم، فهنا المشكوك يرجع الشك فيه إلى الشك في منع الشارع عن إيقاع الصلاة وترخيصه، فإذا جرت أصالة الحل وهي قوله (عليه السلام): (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه) ثبت الترخيص والاكتفاء بالصلاة فيه[[1]].

وفيه: انه إن أراد بكون الصلاة مشكوكاً في حليتها هو الشك في حلية الإتيان بذات العمل مع قطع النظر عن الإضافة إلى المولى، فهذا لا يحتمل تحريمه حتى يشك فيه وتشمله القاعدة.

وإن أراد أنها مشكوكة الحلية تشريعاً من حيث الإتيان بها رجاء برجاء الأمر، فهذا لا إشكال في عدم حرمته وإن كان لا يجزم معه بالامتثال، لا ذاتاً لما تقدم، ولا تشريعاً إذ لا تشريع مع قصد الرجاء والاحتمال وعدم الجزم.

وإن أراد أنّ الحرمة تشريعية من حيث إتيان هذا العمل بقصد الأمر الجزمي لا رجاء، فهذا يتوقف على أن يثبت شمول الأمر بالصلاة لهذا المورد، فإن شمله فلا حرمة وإلا فهو حرام ولا مجال لأصالة الحل.

نعم لو بنينا على أنّ دليل قاعدة الحل يشمل الحلية الوضعية، فلا مانع حينئذٍ من التمسك بها لإثبات الصحة في كل ما شك في صحته وفساده.

ولكن فيه: أنه خلاف ظاهر الرواية، على أنّ لازمه البناء على صحة كل عقد أو إيقاع أو عمل يشك في ترتب الأثر عليه عند الشارع، وكذا لازمه البناء على الصحة عند الشك في الشرط، مع أنّ ذلك باطل جزماً والرواية غير ظاهرة فيه قطعاً.

فما ذكره (قده) من التمسك بأصالة الحل في المقام في غير محله.

والعمدة في المقام هو التمسك بأصالة البراءة، باعتبار أنّا نشك في تقيد الصلاة بعدم هذا المشكوك، والتقييد مؤونة زائدة فتنفى بالبراءة وهذا معروف بين المتأخرين.

وقد كان المعروف بين المتقدمين هو القول بالاشتغال، وتوضيح ذلك ببيان أمور:

الأمر الأول: أن البراءة إنما تجري إذا رجع الشك إلى مرحلة ثبوت التكليف، وأما إذا كان الشك راجعاً إلى المكلف به في مرحلة الامتثال والتطبيق بعد العلم بثبوت التكليف فلا تجري البراءة.

الأمر الثاني: أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيه كلام من حيث جريان البراءة العقلية والنقلية، أو جريان البراءة النقلية دون العقلية كما عليه صاحب الكفاية والنائيني، أو عدم جريانهما أصلاً.

فهذه المسألة فيها كلام في محله، وقد اخترنا[[2]] أن الصحيح جريان البراءة العقلية والنقلية، والوجه في ذلك على نحو الإجمال:

أن دعوى الانحلال بأن يقال أن الأقل معلوم تفصيلاً والأكثر مشكوك، هذه الدعوى ليست انحلالاً حقيقياً، لأن المعلوم تفصيلاً وإن كان هو الأقل، إلا أنه الأقل الجامع بين كونه مستقلاً أو في ضمن الأكثر يعني الأقل لا بشرط، أو بشرط شيء وهو الأكثر.

وهذا المعلوم هو نفس العلم الإجمالي لأن الأقل لا بشرط هو طرف الإجمال، فالعلم به أو بالأقل بشرط شيء ليس علماً تفصيلياً موجباً للانحلال.

فالانحلال الحقيقي في المقام لا يمكن الالتزام به، نعم الانحلال الحكمي موجود وذلك لأن سقوط الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس من جهة عدم شمول أدلتها لها في المقام من جهة الغاية وهي العلم، فان ظاهر الغاية هو العلم التفصيلي، بل الأدلة تشمل الأصول ولكنها تسقط لأجل المانع وهو المعارضة، من حيث أن شمول الأدلة للطرفين يوجب المناقضة للواقع والترخيص في الواقع، ولأحدهما ترجيح بلا مرجح والتخيير لا وجه له، فتسقط الأصول من هذه الجهة، ولولا المعارضة فلا مانع من جريان الأصول.

ولذا قلنا بأنه لو كان أحد الأصلين مثبتاً للتكليف والآخر نافياً له، فحيث انه لا معارضة بينهما لا مانع من جريانهما ولا يكون العلم الإجمالي حينئذٍ منجزاً.

والأقل والأكثر من هذا القبيل، فإن المعلوم بالإجمال وإن كان هو الأقل على نحو الجامع بين اللابشرطية والبشرط شيئية، فطرفا العلم هو الإطلاق والتقييد، إلا أنّ الإطلاق لا تجري عنه البراءة لأنه سعة فلا معنى لجريانها لنفي السعة، والتقييد فيه كلفة زائدة فتجري البراءة عن هذا التقييد بقسميها، فحيث إنّ الأصل في أحد الطرفين لا يجري فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر لعدم المعارض له.

وقد ذكرنا في محله في هذا المقام وجود التلازم بين البراءتين، وأنه إن منعنا عن البراءة العقلية نمنع البراءة الشرعية، فتفصيل صاحب الكفاية لا وجه له.

الأمر الثالث: أن تحقق التكليف يتوقف على أمرين: إحراز الكبرى وعلى تطبيقها على صغرياتها خارجاً، فالعلم بالصغرى مع الجهل بالكبرى لا يكفي لإحراز التكليف بل تجري البراءة، وكذلك العكس.

وذلك لأن الحكم المجعول على نحو القضية الحقيقية ينحل إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد الخارجية، وحينئذٍ فكل فرد نعلم بانطباق الكبرى عليه نعلم بحرمته، وأما مع الشك فيرجع إلى الشك في حرمة هذا الفرد فتجري البراءة عن حرمته، كما لو كان الشك في أصل الكبرى.

هذا حاصل الكلام في الأمور التي تذكر قبل الشروع في الساتر.

إذا عرفت هذا نقول:

في مورد الشك في أصل الجعل نرجع إلى البراءة، وفي مورد الشك في التطبيق هل نرجع إليها أو إلى الاشتغال أو التفصيل ؟

وهذه المسألة بخصوصياتها لم تنقح إلا أخيراً.


 

[[1]] هذا التقريب يتأتى بناءً على المانعية، لأنه يشك في المنع والرخصة فتجري قاعدة الحل، ويتأتى على القول بالشرطية، لأنه وإن لم يكن حينئذٍ إشكال في المنع والرخصة، إلا أنه شكّ في حليّة الصلاة بدون إحراز الشرط.

[[2]] الذي اختار هو السيّد الأستاذ.

رجوع