الصلاة في غير المأكول جهلاً أو نسيانًا
___________________________
(مسألة 19): إذا صلّى في غير المأكول جاهلاً أو ناسياً فالأقوى صحّة صلاته (1).
___________________________
(1) المشهور كما قيل وجوب الإعادة في الناسي وعدم وجوبها في الجاهل سواء كان غافلاً بالمرة أو كان جهله بسيطاً أو مركباً بأن كان معتقداً للخلاف.
وذكر المحقق النائيني (قده) في وجه هذا التفصيل:
(بأنه في صورة الجهل ورد نص صحيح يدل على الصحة، وهو صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أيعيد صلاته، قال: إذا كان لم يعلم فلا يعيد)[[1]].
فإنه واضح الدلالة بأن وجود النجاسة مع الجهل بجميع أقسام الجهل لا يمنع من الصحة ولا يعيد بل صلاته صحيحة واقعاً.
وأما الناسي فيجب عليه الإعادة لأن حديث لا تعاد وإن دلّ على عدم الإعادة في غير الخمسة وهذا من غيرها.
ولكن صدر موثقة ابن بكير وقوله بعد ذلك (لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله) ظاهر في بيان أمرين:
أحدهما: الحكم الواقعي وإن الصلاة فيما لا يؤكل ممنوعة واقعاً وبالعنوان الأولي، فلا يصح له أن يصليها.
وثانيهما: أنه لو صلاها لعذر من جهل أو نسيان فهل لا تقبل بل عليه إعادتها، وهذا حكم ثانوي مجعول في فرض الإتيان بها مع ما لا يؤكل لحمه، فقد دلّت عليه الإعادة في فرض النسيان والجهل، والنسبة بينها وبين حديث لا تعاد هي العموم من وجه، لأن الموثقة خاصة من جهة ما لا يؤكل وعامة لصورتي النسيان والجهل، وحديث لا تعاد بالعكس خاص بالنسيان وعام من حيث لا يؤكل وغيره.
فتتعارض الموثقة وحديث لا تعاد في صورة النسيان فيما لا يؤكل نسياناً، فالموثقة توجب الإعادة، وحديث لا تعاد لا يوجبها.
فالنسبة وإن كانت هي العموم من وجه إلا أن هذه النسبة "وهذا هو مورد من موارد المسألة المعروفة بمسألة انقلاب النسبة" تنقلب إلى العموم المطلق بعد خروج الجاهل عن الموثقة بصحيح عبد الرحمن المتقدم فتبقى الموثقة مختصة بالناسي، فتنقلب النسبة بينها وبين حديث لا تعاد وتكون الموثقة أخص مطلقاً من الحديث، لاختصاصها بما لا يؤكل وعمومه من هذه الجهة، والمفروض أنّ كلاً منهما مختص بالنسيان.
وحينئذٍ تكون الموثقة مخصصة لحديث لا تعاد في غير صورة ما لا يؤكل، وأنه هو الذي لا إعادة فيه، وأما فيما لا يؤكل مع النسيان فيحكم فيه بالإعادة) انتهى.
والذي ينبغي أن يقال:
أما بالنسبة للجاهل: فصحيحة عبد الرحمن لا تنتج الحكم بالصحة في فرض الجهل مطلقاً، لأن موردها خاص لعذرة الإنسان والسنور والكلب، فلو فرضنا تعدينا عن هذه إلى بقية الأجزاء الطاهرة مما لا يؤكل بالأولوية، فكيف نتعدى إلى بقية النجاسات ؟ فإنه بلا دليل.
ولو فرضنا أيضاً تعدينا إلى بقية النجاسات، ولكن ما ذكر فيها إنما هو حكم المحمول، فبأي دليل نتعدى إلى الملبوس ؟ فهي إذن لا تدل إلا على الصحة في بعض فروض الجهل.
نعم لو بنينا على عموم حديث لا تعاد للجاهل، لا بأس حينئذٍ بالحكم بالصحة بمقتضى حديث لا تعاد، ولكن ينتهي الأمر إلى المعارضة بينه وبين موثقة ابن بكير الدالة على الإعادة في الجهل والنسيان، فلا بدّ من التكلم عن علاج المعارضة حينئذٍ، وسيأتي.. هذا بالنسبة للجاهل.
وأما بالنسبة للناسي: فما ذكره المحقق النائيني قد ظهر جوابه، فإن صحيحة عبد الرحمن لم تُخرج جميع موارد الجهل، فتبقى النسبة هي العموم من وجه ولا تنقلب، فتكون الموثقة خاصة بما لا يؤكل، وشاملة للجهل والنسيان، وحديث لا تعاد، خاص بالنسيان على مبناه وشامل لما لا يؤكل وغيره من الموانع.
وتوضيح ذلك:
أنه تارة نقول بأن الموثقة غير متكفلة إلا لبيان شيء واحد وهو الحكم الواقعي، أي أصل المانعية، وغير متعرضة لبيان حكم ثانوي، وهو ما لو صلى معذوراً، هل يعيد أو لا ؟
فظاهر السؤال أنه سؤال عن أصل المانعية التي هي الحكم الواقعي، وتنزيل الجواب على السؤال أنه ظاهر في ذلك، فقوله: (لا تقبل.. إلخ) لا يكون حكماً تأسيسياًً ثانوياً بل هو تأكيد للحكم الأول، وهو المانعية.
بناءً على هذا فالأمر واضح، لأن الموثقة حينئذٍ لبيان التشريع الأولي، فلا تكون معارضة لحديث لا تعاد الوارد في مقام التشريع الثانوي، فيكون حكم الموثقة كغيرها مما دلّ على اعتبار الأجزاء والشرائط والموانع مطلقاً، وحديث لا تعاد حاكم عليها كلها، ودال على عدم المانعية في مورد، والمانعية حينئذٍ مختصة بفرض العلم والجهل غير العذري.
وأما في صورة النسيان والجهل العذري: فلا تجب الإعادة بمقتضى حديث لا تعاد، وليس هنا ما يعارضه حتى تنقلب النسبة، لأن الموثقة بعد اختصاصها بالتشريع الأولي لا تعارضه، هذا إذا قلنا بشمول الحديث للناسي والجاهل، فإنه يحكم في كليهما بالصحة.
وأما إذا قلنا كما يختاره الميرزا من اختصاصه بالناسي، فبالنسبة للناسي لا يعيد، وأما الجاهل ففي مورد الصحيحة لا يعيد كما ذكرنا، وفي غيرها يعيد.
وعلى هذا يكون الأمر بعكس ما ذكر المشهور والمحقّق النائيني، لأن حديث لا تعاد بعدما لم يشمل الجهل، والصحيحة كانت مختصة بموارد خاصة، فمقتضى القاعدة الأولية حينئذٍ هي الشرطية المطلقة حتى في صورة الجهل، فتجب الإعادة على عكس ما ذكروه.
هذا إذا قلنا بأن الموثقة واردة لتشريع حكم أولي فقط، وأما لو قلنا بأنها ظاهرة في بيان حكم تأسيسي ثانوي أيضاً كما اختاره المحقّق النائيني، لأن التأكيد على خلاف الأصل[[2]].
" فالرواية، وإن كانت واردة لبيان المانعية سؤالاً، إلا أن بيان المانعية في الجواب لا ينحصر بالتشريع الأولي بل يكون بلسان التشريع الثانوي ايضاً ".
بناءً على هذا تتحكّم المعارضة بين الموثقة وحديث لا تعاد، لأن كلاً منهما حينئذٍ لبيان الحكم الثانوي، وحينئذٍ فهل تنقلب النسبة كما أفاد المحقق النائيني ؟ أو أن النسبة باقية على حالها ؟
فنقول: إذا قلنا بأن حديث لا تعاد شامل للجاهل والناسي فالنسبة لا تنقلب، لأن الحديث دل على الصحة فيما لا يؤكل وغيره في فرض النسيان والجهل، والموثقة دلت على البطلان في ما لا يؤكل في فرض الجهل والنسيان أيضاً.
وصحيحة عبد الرحمن، وإن أخرجت الجاهل، لكن لا تخرج مطلق الجاهل من الموثقة، بل يبقى مقدار منه، وهو الجاهل المقصّر، إذ الموثقة لا تختص بجاهل الموضوع كغيرها من أدلة بطلان الصلاة بالإخلال بأجزائها وشرائطها.
فإنه قد تقدم أن الغالب في مواردها حملها على الجاهل المقصّر، إذ حملها على خصوص المتعمد العالم، حمل على فرد نادر، فمثل هذا الجاهل داخل في الموثقة، بعد البناء على أنها ظاهرة في حكم تأسيسي، ومقتضى إطلاقها بطلان الصلاة نسياناً وجهلاً بالحكم عن تقصير، لأن المفروض أن الجاهل بالحكم عن تقصير غير داخل في حديث لا تعاد لو قلنا بشموله للجاهل.
وأما إذا لم نقل بشموله له كما يختاره الميرزا فالأمر أوضح، فالنسبة هي العموم من وجه ولا انقلاب، إذ يبقى تحت الموثقة مورد غير داخل في الحديث وهو الجهل عن تقصير، فتبقى النسبة هي العموم من وجه، لأن الحديث يشمل النسيان وغيره، فيعم ما لا يؤكل وغيره، والموثقة مختصة بما لا يؤكل، وتعم النسيان والجهل الذي لا يشمله الحديث.
نعم النتيجة هي نتيجة الانقلاب، وهي الفساد، إذ بعد تعارضهما وتساقطهما يرجع إلى إطلاق الأدلة الأولية الدالة على مانعية هذه الأمور مطلقاً، وليس هنا دليل حاكم عليها، لأن حديث لا تعاد قد سقط بالمعارضة.
ولكن الصحيح كما عرفت عدم المعارضة، لعدم ظهورها في حكم تأسيسي بل ظاهرها التأكيد.
[[1]] الوسائل، م2 باب: 40 نجاسات، ص1059 ح5.
[[2]] كونه على خلاف الأصل، إنما هو مع عدم الظهور في التأكيد، (من الأستاذ (قده)).