صلاة العاري
___________________________
(مسألة43): إذا لم يجد المصلي ساتراً حتى ورق الأشجار والحشيش، فإن وجد الطين، أو الوحل، أو الماء الكدر، أو حفرة يلج فيها ويتستر بها أو نحو ذلك مما يحصل به ستر العورة،صلى صلاة المختار قائماً مع الركوع والسجود.
وإن لم يجد ما يستر به العورة أصلاً، فإن أمِن من الناظر بأن لم يكن هناك ناظر أصلاً، أو كان وكان أعمى، أو في ظلمة، أو علم بعدم نظره أصلاً، أو كان ممن لا يحرم نظره إليه كزوجته أو أمته، فالأحوط تكرار الصلاة بأن يصلي صلاة المختار تارةً ومومياً للركوع والسجود أخرى قائماً.
وإن لم يأمن من الناظر المحترم صلى جالساً وينحني للركوع والسجود بمقدار لا تبدو عورته، وإن لم يمكن فيومي برأسه، وإلا فبعينيه، ويجعل الإنحناء أو الإيماء للسجود أزيد من الركوع، ويرفع ما يسجد عليه ويضع جبهته عليه، وفي صورة القيام يجعل يده على قبله على الأحوط(1)
___________________________
(1) هذه المسألة قد تقدمت مفصلاً وإن المستفاد من الأدلة أن الستر الصلاتي أخص من الستر عن الناظر المحترم، فالثاني يتحقق بكل شيء دون الأول الذي لا يتحقق بالثوب، فإذا لم يتمكن من الثوب يتستر بورق الحشيش وورق الشجر إن أمكن، فإن هذا في طول اللباس لا في عرضه كما ذكرنا هناك.
فإذا لم يتمكن حتى من هذا فهو عارٍ فما هو حكمه ؟
وقد اختلفت كلمات الفقهاء في حكم صلاة العاري على أقوال:
فالمشهور هو التفصيل بين من أمن الناظر المحترم فإنه يصلي قائماً مومياً للركوع والسجود، وبين من لم يأمن الناظر فيصلي من جلوس مومياً.
وقيل: بأنه يتخير بين القيام والجلوس كما عن المحقق.
وقيل: كما عن ابن إدريس بأنه يتعين عليه القيام، أمن الناظر أم لم يأمن.
وقيل: كما عن السيد والصدوق وجماعة من القدماء بأنه يتعين عليه الجلوس.
هذه هي أقوال المسألة ؛ والروايات في ذلك على طوائف:
فطائفة منها: دلت على أنه يصلي جالساً على الإطلاق.
وطائفة أخرى: دلت على أنه يصلي قائماً على الإطلاق، وكأن المحقق (قده) لم يترجح عنده إحدى الطائفتين فحكم بالتخيير.
وطائفة ثالثة: فصّلت بين أمن المطلع وعدمه، وهذه شاهد جمع بين الروايات، فإن نسبتها إلى كل من الطائفتين نسبة الخاص إلى العام، فتخصص بها ولا يبقى تنافٍ ولا تعارض بين الطائفتين، فيتم ما ذهب إليه المشهور وهو الصحيح.
أما الطائفة الأولى: الدالة على أنه يصلي قائماً على الإطلاق:
فمنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقى عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتم صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم)[[1]].
وهناك روايات أخرى بهذا المضمون وتكفينا هذه الرواية.
وأما الطائفة الثانية: الدالة على أنه يصلي جالساً على الإطلاق:
فمنها: صحيحة زرارة قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام) رجل خرج من سفينة عرياناً أو سلب ثيابه ولم يجد شيئاً يصلي فيه، فقال: يصلي إيماءً، وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، وإن كان رجلاً وضع يده على سوأته ثم يجلسان فيؤميان إيماءً ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما، تكون صلاتهما إيماءً برؤوسهما، قال: وإن كان في ماءٍ أو بحر لجيّ لم يسجدا عليه وموضوع عنهما التوجه فيه يؤميان في ذلك إيماءً رفعهما توجّه ووضعهما)[[2]].
وهناك روايات أخرى بنفس هذا المضمون.
وأما الطائفة الثالثة: المفصلِّة بين أمن المطلع وعدمه:
فمنها: مرسلة عبد الله بن مسكان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في الرجل يخرج عرياناً فتدركه الصلاة قال (عليه السلام): يصلي عرياناً قائماً إن لم يره أحد، فإن رآه أحد صلى جالساً)[[3]].
وهذه الرواية مرسلة، فإن قلنا بحجية مراسليه لأنه من أصحاب الإجماع، أو قلنا بإنجبار الضعيف بعمل المشهور، تمت الرواية وإن لم نقل بهما كما هو الصحيح فالإستدلال بها لا يتم.
ومنها: مرسلة الصدوق المذكورة في نفس الباب وهي نفس الرواية وهي مرسلة أيضاً لا يعتمد عليها وليست هي رواية أخرى غير الأولى بحسب الاطمئنان.
ومنها: وهي العمدة صحيحة عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): (في رجل عريان ليس معه ثوب، قال: إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائماً)[[4]].
وهذه الرواية بمفهومها ومنطوقها واضحة الدلالة على التفصيل المذكور.
إلا أنه قد استشكل في سندها بما رواه الكشي عن العياشي عن محمود بن نصير عن يونس بن يعقوب، من أن ابن مسكان لم يرو عن أبي عبد الله (عليه السلام) إلا رواية واحدة حيث أنه لم يدركه، فكيف يمكن على هذا أن يكون روى عن الباقر (عليه السلام)، فإن هذا اشتباه.
وبما ذكره النجاشي أيضاً أنه من أصحاب أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) وذكر أنه قد روى عن الصادق (عليه السلام) ولم يثبت.
فالرواية على هذا تكون مرسلة، لأنا لا نعرف الواسطة بين الراوي والباقر (عليه السلام).
ولكن الصحيح أن يقال: أن ما ذكره الكشي ففي طريقه محمد بن نصير الملعون (من قبل الكاظم) المدعي للنبوة، وإن كان هناك شخص آخر ثقة وهو شيخ الكشي ولكنه لم يعلم أنه هو المراد، فالرواية لا يعتمد عليها.
وأما ما ذكره النجاشي فهو منه غريب جداً، فقد ذكر البهبهاني (قده) في جامع الرواة، وعثرنا على ما يذكره من الروايات الكثيرة التي رواها ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وطبقته تساعد أن يروي عن الباقر (عليه السلام) لأنه مات قبل وفاة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من حيث الآخر ومن حيث أول حياته كان خازناً[[5]] للمنصور الدوانيقي المعاصر للإمام الصادق (عليه السلام)، ولا شك أنه في ذلك الوقت كان رجلاً كبيراً قابلاً لأن يكون خازناً فلا استبعاد في روايته عن الباقر (عليه السلام)، هذا مع أن له رواية عن الباقر في كتاب النكاح، فروايته عن الباقر (عليه السلام) أمر ممكن، وظاهر الرواية أنه روى عنه (عليه السلام)، فالاستبعاد لا يوجب الخروج عن ظهور الرواية في أنه روى عنه.
والحاصل: أن صحيحة عبد الله بن مسكان لا مانع من العمل بها.
ثم إن المشهور فصلوا بين أمن الناظر وعدمه، وهذا لم يرد في الروايات، بل أكثرها ومنها الصحيحة (إذا كان بحيث لا يراه أحد فليصل قائماً)، فالعبرة بالرؤية الخارجية وعدمها، لا بخوف أن يراه أحد والأمن من ذلك.
وعليه فلو كان مأموناً ورآه أحد اتفاقاً، فلازم الروايات بطلان صلاته، ولو لم يكن مأموناً ولكن لم يره أحد تصح صلاته، هذا ما تقتضيه الروايات، ولا تقتضي ما ذكره المشهور.
ولكن يمكن أن يقال: بأن كلامهم تفصيل بالمعنى، لأن الروايات الصحيحة ذكرت أنه إذا كان بحيث لا يراه أحد، ومعنى ذلك أنه في معرض ذلك وفي المكان الذي صفته أن لا يراه فيه أحد، ومعنى هذا هو المأمونية، فهم قد عبّروا بما يفهم من الروايات.
على أن كلمة (أحد) في صحيحة ابن مسكان مطلقة، ولكن القرينة المتصلة وهي الارتكاز تدل على أنه ليس المراد كل ما صدق عليه أحد، بل هي محمولة على الناظر المحترم الذي لا يجوز نظره، ويجب التستر عنه، فإن المحذور هو الناظر المحترم، وأما نظر من لا بأس بنظره كالصبي غير المميز فإنه كالحيوان وكذا الأمة أو الزوجة أو الزوج أو السيد، هذا هو مقتضى الارتكاز، وبهذا قيد الفقهاء النظر.
ثم أنه لو صلى قائماً مع الأمن فهل يصلي مع الركوع أو بدونه بل يومي؟ المشهور أنه يصلي إيماءً، ولكن عن ابن زهرة أنه يركع ويسجد وادعى عليه الإجماع.
أما دعواه الإجماع فغير مسموعة، للشهرة القطعية على الإيماء، وصاحب الجواهر وافق ابن زهرة واستدل بالإجماع وبأمور أخرى:
الأول: أنه مقتضى الأصل.
فإما أن يريد به الاستصحاب وأنه قبل هذه الحالة كان الواجب عليه الركوع والسجود والآن هو كذلك، فهذا غير ثابت، لتبدل التكليف في كل يوم تكليفاً جديداً، على أنه استصحاب في الشبهة الحكمية -ولا يقول به السيد الأستاذ-.
وإن أراد بالأصل إطلاقات وجوب الركوع وأنها تقتضي وجوبه مطلقاً، فهذا صحيح، والبدلية لا بد لإسقاطها من دليل، إلا أن الدليل موجود وهو صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، فقد صرّح فيها بأنه يصلي قائماً مومياً، وبها يرفع اليد عن الإطلاقات المذكورة وهي صحيحة وتامة الدلالة.
وإن ناقش فيها صاحب الجواهر: بأن التستر يجب من جهتين، من جهة وجوبه في نفسه ومن جهة الستر الصلاتي، والستر الصلاتي قد سقط لفرض التعذر، فيبقى الستر عن الناظر المحترم، وهذا واجب في نفسه، ولأجله أوجب الله الصلاة قاعداً إذا لم يأمن الناظر، لا من جهة الصلاة بل من جهة المحافظة على العورة، فلو سقط الستر عن الناظر المحترم، فما هو الموجب لرفع اليد عن الركوع والسجود بعدما لم يكن الستر شرطاً للصلاة ولا واجباً في نفسه لفرض عدم الناظر.
وهذا غريب: فإنا لو كنا نحن وعدم الدليل على الإيماء لكان الأمر كما ذكر، ولكن المفروض أن صحيحة ابن جعفر موجودة، وقد دلت على القيام مع الإيماء، فالمقتضي لعدم الركوع هو هذه الصحيحة.
وناقش أيضاً في موثقة سماعة[[6]] بعد ثبوت ما رواه الشيخ، لاحتمال أن تكون كما هي في الكافي (قاعداً) وهذا صحيح.
وناقش في الصحيحة أيضاً: بأن المراد من الإيماء أول مراتب الركوع بأن ينحني مقداراً ما يكون أقل من المتعارف.
إلا أن هذا حمل على خلاف الظاهر، ولا يمكن رفع اليد عن الإيماء الذي معناه الإشارة وحمله على الركوع بأول مراتبه، ثم لو حملنا الركوع على هذا، فعلى أي شيء يحمل السجود، وهل يتصور له مراتب.
وناقش أيضاً: بأن إطلاقها لا يمكن العمل به من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة الأمن من الناظر وعدمه وهذا لا يمكن الالتزام به، والقول بالصلاة قائماً أمن أو لم يأمن، فلا بد من رفع اليد عن الإطلاق.
وفيه: أن رفع اليد عن الإطلاق لا يوهن الصحيحة، فإنها صحيحة السند واضحة الدلالة غايته أن إطلاقها مقيّد بفرض الأمن من الناظر في هذا الموضوع، والتقييد لا يوجب وهنها.
الجهة الثانية: أن فيها إطلاقاً آخر وهو وجوب الصلاة قائماً حتى في صورة التشهد والتسليم، وهذا لا قائل به منهم فتكون موهونة من هذه الجهة.
وهذه المناقشة أيضاً لا تتم:
أولاً: لأنه لو فرضنا بأنه كان لها إطلاق من هذه الجهة فنرفع اليد عنه كالإطلاق الأول.
وثانياً: بأنه ليس لها هذا الإطلاق لأن الموضوع هو الموارد التي يجب القيام فيها في غير هذه الحالة، ففي موارد القيام التي يقوم فيها الناس هو يصلي فيها قائماً إن لم يره أحد، ويصلي جالساً إن رآه أحد، وأما الموارد التي يجب فيها الجلوس مطلقاً، فهذه لا تنظر إليها الصحيحة.
وأما خبر الحفيرة الذي استشهد به، الوارد عن أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها ويسجد فيها ويركع)[[7]].
واستشهد أيضاً بما ورد في استحباب الجماعة للعراة[[8]].
فهذا الاستشهاد لا يتم، لأن خبر الحفيرة مرسل، والمشهور لم يفرقوا بين من يصلي في حفيرة وغيره، فلم يعتمدوا عليها حتى يدعى الإنجبار، وعلى تقدير حجيتها يقتصر فيها على موردها، وأما الخبر الثاني فمورده خاص وهو المأمون.
ثم لو بنينا على الصلاة قائماً فهل يجب عليه أن يجلس حال الإيماء للسجود؟
نسب إلى السيد عميد الدين أنه كان يقوي جلوس القائم ليومي للسجود جالساً، ومثله غيره لقاعدة الميسور، فإذا لم يتمكن من السجود فهو متمكن من الجلوس له.
إلا أن هذا الكلام غير تام، لعدم تمامية قاعدة الميسور في نفسها، وعلى تقدير تماميتها فهي غير منطبقة على المقام، لأن وضع الجهة على الأرض من مقومات مفهوم السجود، وإذا كان وضع الجبهة معتبراً فكيف يكون الجلوس بدلاً عنه، فإنه أجنبي عنه، نعم الجلوس مقدمة تكويناً للسجود.
على أنا لو تنزلنا وقلنا بتمامية القاعدة وانطباقها على المقام، فمع ذلك لا يجب الجلوس لتبدل التكليف، فإن الأمر بالسجود قد سقط وانتقل إلى الإيماء، فلا معنى للتكليف بالممكن من الإيماء، وهذا نظير تبدل الوضوء بالتيمم، فهل يتصور أنه يأتي بما يتيسر من الوضوء من غسل وجهه مثلاً مع التيمم.
نعم لو كان هذا القائل قال به في الركوع والسجود بأن كان يؤمي لهما لأمكن توجيهه، بدعوى: أنه يستفاد من صحيحة زرارة ذلك بأن نفسرها بأنهما يقرءآن وهما واضع كل منهما يده على سوأته، وبعد ذلك يجلسان ويوميان للركوع والسجود.
إلا أن الإيماء جالساً للركوع والسجود لم يقل به أحد، وعلى تقدير وجود قول فهو خاص بالسجود دون الركوع.
على أن الصحيحة لا دلالة لها على ذلك، والظاهر منها أن المرأة تضع يدها على فرجها، والرجل يضع يده على سوأته إلى وقت الصلاة حفاظاً على الناظر المحترم، فإذا أرادا الصلاة يجلسان ويصليان عن جلوس ويوميان للركوع والسجود، هذا هو الظاهر من الصحيحة، أما أنهما يقرءآن قائمين ويجلسان بعد ذلك ليوميا للركوع والسجود فلا دلالة للصحيحة على ذلك.
فقول الماتن: (وإن لم يأمن الناظر المحترم صلى جالساً وينحني للركوع والسجود) لم يظهر لنا وجهه، ولم يرد في نص، على أنه قد خصّه بالجالس مع أنه لا فرق بينه وبين القيام، فالوجه فيه قاعدة الميسور، وتقدم جوابها.
والصحيحة جعلت الإيماء بدل الركوع فتبدل التكليف بالإيماء، فما هو الوجه في رفع اليد عنها وتبديل الإيماء بالانحناء، فإن ذلك لا دليل عليه وهو تقييد بالفرد النادر، وإن كان الاحتياط لا بأس به.
وأما ما ذكره من أنه إذا لم يمكن يومي برأسه:
فلأجل صحيحة زرارة حيث قال (عليه السلام): (تكون صلاتهما إيماءً برؤوسهما) وبه تقيد بعض الروايات الدالة على اعتبار الإيماء على الإطلاق.
وأما قوله: (وإلا فبعينيه):
فهذا لم يرد في شيء من الروايات والوجه في اعتباره في صورة العجز عن الإيماء بالرأس: أن أمر المكلف دائر بين أن يصلي مع الإيماء بالعينين أو يصلي بدون إيماء أصلاً أو يترك الصلاة.
والأخير ساقط، والثاني ينافي ما دلّ على أن الصلاة متقومة بالركوع والسجود فكيف يترك الإيماء؟ فإنه حينئذٍ يكون بلا صلاة، فإذا لاحظنا أن الصلاة لا تسقط بحال وأنها متقومة بالركوع والسجود وأن المكلف غير متمكن من الإيماء برأسه، يستكشف تعيّن الإيماء بالعين، واحتمال أنه يؤمي بيده منفي بعدم ثبوت بدلية اليد في الإيماء عن العين.
وأما جعل الإنحناء أو الإيماء للسجود أزيد من الركوع:
فهذا لا نعرف له وجهاً سوى رواية أبي البختري وهي ضعيفة بما تكرر في حقه، ولم يثبت عمل المشهور بها على أنه ليس بحجة.
وعلل بعضهم اعتبار الإنحناء الزائد في الإيماء للسجود: ليفترق الركوع عن السجود، وهذا أيضاً لا وجه له، لأنه لا يعتبر التفرقة الخارجية، بل الركوع أمر قصدي، والتمييز والتفرقة إنما تكون بالقصد، على أن التعيين لا ينحصر بالإنحناء الزائد فقد يكون بشيء آخر.
فالعمدة عدم الدليل على ذلك، والتعليل بتحصيل الفرق لا دليل عليه، والشارع أوجب الإيماء بدلاً عنهما وهو على الإطلاق.
وأما رفع ما يسجد عليه ووضع جبهته عليه:
فهذا أيضاً لا دليل عليه والإطلاق يدفعه، ولو التزمنا به في المريض فلا موجب للتعدي إلى غيره، والروايات كلها خالية عن ذلك.
وأما جعل يده على قبله في صورة القيام:
فمنشأ الاحتياط فيه صحيح زرارة الذي ورد فيه: (وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، وإن كان رجلاً وضع يده على سوأته)، فاحتمل أن يكون المراد أنه يفعل ذلك حال القيام للصلاة.
إلا أن هذه الصحيحة غير ناظرة إلى ذلك، بل هي ناظرة إلى اعتبار الستر قبل الصلاة، فقبل الصلاة يضع يده على سوأته، والمرأة على فرجها كما هو ظاهر الصحيحة، على أن هذا من جهة المحافظة عن الناظر حيث أنهما خرجا من السفينة عريانين كما يقتضيه قوله (عليه السلام): بعد ذلك (ثم يجلسان فيؤميان).
حكم ما إذا وجد ساترا لإحدى عورتيه
___________________________
(مسألة 44): إذا وجد ساتراً لإحدى عورتيه، ففي وجوب تقديم القبل أو الدبر أو التخيير بينهما وجوه، أوجهها الوسط (1).
___________________________
(1) ذكر وجوهاً ثلاثة ولم يتعرض للفرق بين الرجل والمرأة، وتعرض له صاحب الجواهر، والمتبع هو الدليل، وحيث لم يتعرض في شيء من الروايات لذلك، يقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر.
اختار السيد الأستاذ أنه يتقدم ستر الدبر على الإطلاق رجلاً كان أو امرأة، ويصلي أيضاً مع الركوع والسجود، والوجه فيه:
أن المستفاد من صحيحة زرارة المتقدمة: أن ترك الركوع والسجود إنما هو لأجل أنه لا ينكشف الدبر كما هو ظاهر قوله (عليه السلام): (ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما)، فلأجل التحفظ عن النظر إلى الدبر أمر بالصلاة إيماءً، لأن المصلي إذا انحنى للركوع والسجود يظهر منه الدبر، فإذا وجد المصلي ساتراً لأحدهما ستر الدبر، ومعه لا وجه لرفع اليد عن أدلة الركوع والسجود.
ثم إن الروايات كلها واردة في الرجل، وأما المرأة فقد وردت فيها صحيحة زرارة فقط، وذكرنا أن الظاهر منها أن وضع اليد من جهة الناظر المحترم وأن صلاتهما من جلوس، وهذا لا إشكال فيه.
وإنما الكلام فيما إذا كانت مأمونة من الناظر، فهي تصلي قائمة أم جالسة؟ والروايات كلها في الرجل -مُطلقها ومقيدها-، فهل نلحق به المرأة أو لا؟ ظاهر كلماتهم عدم الفرق بينهما، وأنها إذا كانت مأمونة تصلي قائمة، والوجه في ذلك هو الاشتراك في التكليف.
وهذا الوجه لا يتم: لأن قاعدة الاشتراك إنما تجري مع الاتحاد في الصنف، وليس كل حكم نثبت له ثبت لها، بل هناك أحكام مختصة، وأما أن السؤال والجواب لا ينظران إلى الخصوصية، لأن السائل غالباً هو الرجل، ولا خصوصية له.
فهذا إنما يتم مع عدم اعتبار الخصوصية في المورد، فإنه حينئذٍ نتعدى إلى المرأة وهنا توجد خصوصية،فإن بدن المرأة عورة كله، ولذلك يحتمل أن الصلاة قائماً لخصوص الرجل، ولأجل المحافظة على ستر المرأة جعل لها الجلوس، أمنت أم لم تأمن، لأنها إذا جلست ستر مقدار من بدنها، ومع هذا لا يمكن التعدي من الروايات إليها.
والذي ينبغي أن يقال: أن المرأة تصلي قائمة إذا كانت مأمونة، لأن أدلة القيام شاملة لهذه الحالة، ولا دليل يوجب سقوطه، بل الجلوس يحتاج إلى دليل، والصلاة قائماً لا تحتاج إلى دليل، بل لو لم يكن هناك دليل أصلاً وكنا مع الأدلة الأولية لقلنا بوجوب القيام، وتحفظ عورتها من الناظر.
وبعبارةٍ أخرى: الستر ستران، ستر صلاتي وقد سقط بالتعذر صلت قائمة أو جالسة، وستر عن الناظر وهو يحصل باليد وهذا أجنبي عن الصلاة، والإطلاقات تقتضي وجوب القيام في هذا الحال، خرجنا عنها مع وجود الناظر فإنها تجلس وفيما عداه تصلي قائمة.
بقي شيء
وهو أن المرأة إذا صلّت قائمة فهل يسقط عنها الركوع والسجود أو تومئ لهما ؟ لا ينبغي الشك في أنها تصلي مع الإيماء للقطع بالأولوية، لأن الرجل إذا سقط عنه لأجل المحافظة فهي أولى، وصحيحة زرارة صريحة في ذلك، ونتعدى إلى المرأة، لكن لا بالأدلة التي ذكروها، بل بالوجه الذي ذكرناه.
___________________________
(مسألة 45): يجوز للعراة الصلاة متفرقين، ويجوز بل يستحب لهم الجماعة وإن استلزمت للصلاة جلوساً وأمكنهم الصلاة مع الانفراد قياماً، فيجلسون ويجلس الإمام وسط الصف، ويتقدمهم بركبتيه ويومئون للركوع والسجود، إلا إذا كانوا في ظلمة آمنين من نظر بعضهم إلى بعض فيصلون قائمين صلاة المختار تارة، ومع الإيماء أخرى على الأحوط (1).
___________________________
(1) لا إشكال في أصل مشروعية الفرادى للعراة، وكذلك الجماعة لهم وقد دلت على مشروعية الجماعة:
صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن قوم صلوا جماعة وهم عراة، قال (عليه السلام): يتقدمهم الإمام بركبتيه ويصلي بهم جلوساً وهو جالس)[[9]].
وموثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوم قطع عليهم الطريق وأخذت ثيابهم فبقوا عراة وحضرت الصلاة كيف يصنعون؟ فقال (عليه السلام): يتقدمهم إمامهم فيجلس ويجلسون خلفه فيومئ إيماءً بالركوع والسجود وهم يركعون ويسجدون خلفه على وجوههم)[[10]].
وبإزائها رواية البختري الدالة على وجوب الصلاة فرادى إلا أنها ضعيفة السند بالبختري، وهي روايته عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: (من غرقت ثيابه فلا ينبغي له أن يصلي.. فإن كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثم صلوا كذلك فرادى)[[11]].
فأصل مشروعية الجماعة لا إشكال فيه، وهذا الحكم هل هو مطلق أي مع الأمن كما لو صلوا في ظلمة فأيضاً يصلون عن جلوس ؟ أم يتعين الجلوس في صورة عدم الأمن فقط ؟
ذكر الماتن: أنهم إذا كانوا آمنين يصلون قائمين، ومع عدم الأمن يجلسون والأمر كما ذكر، والرواية وإن كانت مطلقة، إلا أن ما تقدم في العاري إذا كان مأموناً في صحيحة ابن مسكان من جعل الجلوس مختصاً بصورة عدم الأمن، جارٍ هنا، لعدم الفرق بين الجماعة والفرادى، فيعارض إطلاق الروايتين هنا تعارض العموم من وجه، لأن هاتين تدلان على الجلوس مع الأمن وعدمه، وصحيحة ابن مسكان تدل على لزوم القيام مع الأمن جماعة أو فرادى، ومورد الاجتماع ما لو صلوا في ظلمة أو كانوا عمياناً.
فقد يقال: بتقديم إطلاق ابن مسكان، باعتبار أن الغالب في العراة عدم الأمن إذ الظلمة أو كونهم عمياناً نادر.
وقد يقال: بتقديم الموثقة، لأن ظاهرها صورة الأمن من الناظر، حيث أن السلب غالباً يكون في ظلمة الليل لا في وضح النهار، ومع عدم المرجح لأحد الإطلاقين يتساقط الإطلاقان، والنتيجة وجوب الصلاة من قيام في حالة الأمن من الناظر كما لو كانوا فرادى، لأن الجلوس على خلاف القاعدة يحتاج إلى دليل بخلاف القيام.
وأما كيفية صلاة العراة: فقد نسب إلى المفيد والسيد بأنهم يجلسون جميعاً ويتقدمهم الإمام بركبتيه ويصلون جميعاً بالإيماء، وعن الذكرى استبعاد أن يكون للجماعة خصوصية، فكما أن الفرادى يومئون للسجود والركوع فالجماعة كذلك، ووافق الماتن فأوجب الإيماء للجميع، وحكي عن الجواهر نسبته ذلك إلى المدارك وغيره، ولعلهم اعتمدوا في ذلك على ما ذكره الحلبي من الإجماع والإطلاقات.
وعن المحقق والشيخ وجملةٍ: أن الذي يومئ هو الإمام فقط، والمأمومون يسجدون ويركعون على وجوههم وهو المتعين لموثقة إسحاق المتقدمة.
وأما دعوى الإجماع في الأول، فيدفعه أنه لا حجية في الإجماع المنقول بالإضافة إلى عدم تحققه لوجود الخلاف، وأما التمسك بالإطلاقات فمقطوع بالموثق، وأما الاستبعاد فلا وجه له بعد وجود الدليل على ذلك، فالمتعين ما في الموثق، فما ذكره الماتن لا وجه له.
ولو فرض أنهم كانوا أكثر من صف واحد فالصف المتقدم لا بد من إيمائهم حتى لا تبدو عوراتهم للخلف، هذا لو شرّع ذلك في حقهم، إلا أنه لا يصح، بل لا بد أن يكونوا صفاً واحداً، إذ مع إمكان إتيانهم بالصلاة مع الركوع والسجود، فلا معنى لاختيارهم الصلاة الفاقدة لهما.
[[1]] الوسائل م3 ب50 لباس المصلي ح1.
[[2]] الوسائل م3 ب 50 لباس المصلي ح6.
[[3]] نفس الباب السابق ح3.
[[4]] نفس الباب السابق ح7.
[[5]] هذا سهو، لأن الخازن هو ابن سنان لا هذا، ولكن ما ذكرناه يكفي.
[[6]] المروية في الوسائل م2 ب46 النجاسات ح3: (سألته عن رجل يكون فلاة من الأرض وليس عليه إلا ثوب فأجنب فيه وليس يجد الماء، قال: يتيمم ويصلي عرياناً قائماً يؤمي إيماءاً).
[[7]] الوسائل م3 ب50 لباس المصلي ح2.
[[8]] الوسائل م3 ب51 لباس المصلي.
[[9]] الوسائل م3 ب51 لباس المصلي ح1.
[[10]] نفس الباب السابق ح2.
[[11]] الوسائل م3 ب 52 لباس المصلي ح1.