بحث الفقهاء عن ولاية الفقيه
وبعد هذا البيان لأهمية العلم والعلماء أقول:
توجّه العلماء الأبرار، رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين، إلى البحث في مسألة (ولاية الفقيه)، وتحرير هذه المسألة بشكل دقيق وواسع لمعرفة حدود تلك الولاية والصلاحيات المخوّل بها، وللنظر في أدلتها وأنها هل تدل على الولاية بشكل مطلق أو لا ؟
وكان منطلق البحث عن الولاية في مسألة أولياء الصغار والمجانين ومن لا وليّ له، بالإضافة إلى ما هو محرّر في باب القضاء والحدود والأخماس والزكوات، وتوسع البحث ليشمل بقية الموارد حسبما تقتضيه الولاية سعةً وضيقًا، وتوسع بعضهم فذهب إلى القول بالولاية المطلقة للفقيه وأنها من المهمّات والأحكام الأوّلية ومقدّمة على غيرها من الأحكام.
والشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه تناول المسألة في كتاب المكاسب في مبحث الولاية بشكل واسع، وأوضح أدلتها والإشكال عليها، بمناقشة رصينة ومتينة، وهو وإن خرج بنتيجة أن الولاية المطلقة للفقيه أمر صعب مستصعب، وعبّر عنها بهذه الكلمة: (ودونها خرط القتاد)، إلا أن المسألة تبقى محل البحث المتواصل، وتبقى منطلقًا للآراء المتحرّرة، لأهميتها وفعاليتها في الحياة العامّة.
وقد توجّهت الأقلام في الأيام الأخيرة، وعقيب الثورة الإسلامية الإيرانية للكتابة في هذا الموضوع بشكل موسوعي، ورأيت وقرأت العديد من الكتب والمقالات التي تحاول أن تثبت الولاية المطلقة للفقيه، كما وجدت استقطابًا واسعًا للمسألة على ألسنة الناس ترافقها طروحات غير مناسبة للمسألة كحكم شرعي فيها الكثير من التحدي وعدم اللياقة الأدبية في الكلام مع من يخالف القول بالولاية المطلقة للفقيه، وفي التعامل معه، وشعرت بأن هذه الكتابات وهذه الطروحات تستهدف مشروعًا سياسيًا فقط، أو مشروعًا يستهدف تأكيد وتوطيد الاتجاهات وأهلها ومواقعها في الدولة، وكان من جملة الأمور التي ساعدت على ذلك أن القوانين التي كانت مقنّنة ومعمولاً بها في السابق، بل في الحاضر أيضًا، لما كانت لا تنسجم مع أحكام الشريعة الإسلامية والقرار الديني الإسلامي، كان لا بد من إيجاد صيغة أخرى للحكم تكون بديلاً عن تلك القوانين الوضعية في ظلّ الثورة الإسلامية، ولم يكن من السهل طرح الأحكام الشرعية كقانون وكدستور يعمل به دفعة واحدة، فكانت ولاية الفقيه المطلقة هي البديل بلحاظ الاعتبارات والصلاحيات المخوّل بها الفقيه في هذا الأمر وغيره.
وهذا المعنى وإن كان ضروريًا ولازمًا في الميزان الشرعي ولا غنى عنه، فإن التأكيد على الدين الإسلامي وضرورة الإيمان به يعني حاكميته على الأرض كما ستعرف هذا قريبًا، إلا أن إعلان ذلك مع تلك الطروحات المزعجة والموحشة التي رافقت الإعلان، والتي كانت تدور على الألسن في كل مكان، أخذت ذلك الطابع الذي يحكي المشروع السياسي فقط، وأُهملت ولاية الفقيه الشرعية وأهميتها واعتبارها في الحياة وشؤون الإنسان.
ولقد كانت لديّ الرغبة الحثيثة بالكتابة في هذه المسألة بشكل مفصل لأكثر من سبب، فقد كنت ممن ابتلى بالسلبيات التي كانت تطرح من الفضوليين الذين يدّعون الانتماء إلى الثورة الإسلامية في إيران، والذين يظنون أنهم يؤيدون الموقف بمثل هذه الطروحات، وأن غيرهم معادٍ للثورة، وكنت وضعْتُ أساسًا للكتابة في هذه المسألة حيث طلَب إليَّ بعض المثقفين إعطاء صورة مجملة عن ولاية الفقيه والتعرّف على أبعادها وأسسها ومواردها على أمل أن أعود للكتابة بشكل واسع.
وعندما ذكر لي سماحة الأخ الحجة الشيخ مفيد الفقيه أنه يكتب في هذه المسألة، شعرت بأني قد كُفيت المؤنة ، وأن ما أريد أن أذكره قطعًا يذكره الأخ الشيخ مفيد، لعلمي بأنه سوف يعطي المسألة حقها من الوجهة العلمية وبلحاظ الاعتبارات الأخرى لها وإن كنت للآن لم اطّلع على ما كتبه.
ولذلك فما أذكره في هذه المقدمة إنما هو بيان مختصر لبعض الخصائص التي تتعلق بهذه المسألة والتي يجب أن تبحث لنرى مقدار اعتبارها شرعًا، ومقدار حدودها التي يصح على ضوئها التعامل معها وتبين بشكل واضح حتى لا يكون هناك تجاوز لحدودها وإغراق في تصويرها والحديث عن ضرورتها كما سمعنا وقرأنا لبعض الذين يمشون في ركاب من يقول بولاية الفقيه المطلقة ويستظلّون بظلها، حتى بات الفقيه نفسه لا يتصرف تصرفهم ولا يقول بقولهم ولا يقوم بما يقومون به من أعمال أوحشت الناس، وزرعت في نفوسهم الحقد والضغينة، ولا أقل من عدم التوقير والاحترام للعالم وللفقيه.