تمهيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الخلق وأعزّ المرسلين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد.. فإن عنوان هذا البحث هو (ولاية الفقيه)، التي تلقَّاها الشيعة من آخر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه)في غَيْبته الصُّغرى.

هذه الغَيْبة التي كانت تمهيدًا عمليًا وممارسة فعلية هادفة لاستمرار الكيان الشيعي على أساس الأصول الثابتة في الإمامة، وهي (الإمامة) و(الانقياد) للولي الحقيقي الذي هو الإمام في حال غيبته كما في حضوره الشريف، لأنهم في حالة انقيادٍ قصوى له قبل غيبته الصغرى (عجل الله فرجه)وأثناءها، فكذلك هم بعد غَيْبته الكبرى، لم يختلف عندهم الحال من هذه الناحية.

تلقّى الشيعة هذه الولاية بالالتزام العملي، ابتداءً من عصر الغيبة الصغرى، واستمروا على ذلك بعد الغيبة الكبرى، ولا زال هذا الانقياد والالتزام مستمرًا عبر القرون المتطاولة، من خلال نظام المرجعية والتقليد إلى عصرنا الحاضر، وإلى أن تظهر شمس الهداية بظهوره المبارك.

وقد طُبِّقَتْ هذه الولاية من الفقهاء والمتفقِّهين في جميع مراحل حياتهم على اختلاف أماكنهم وأزمنتهم.

نقول: طُبِّقَتْ بجميع مراتبها الولائية المطلوبة والمشروعة في مُختلَف العصور، حيث كانت تُمارَس في كل عصر الولاية المطلوب تنفيذها وتطبيقها حسب ما تتطلَّبه المصلحة العليا، على يد فقهاء ذلك العصر، بالشكل المناسب وبالصيغة المشروعة، من حيث الزمان والمكان والمجتمع والحاكم المعاصر، إذ إن جميع  هذه الأمور هي موضوع أحكام الولاية حسب متعلّقاتها.

وليس موضوع الولاية مجرد وجود المسلم المؤمن الذي يريد أن يتعرف على أحكام الطهارة والنجاسة والشكّ في عدد الركعات، كما يغالي ويتطرّف بعض المعاصرين الذين يقدسون السابقين من الفقهاء كما نقدسهم، ولكنهم يستثنون من ذلك أنهم قاصرون في بعض الأحيان، ومقصرون في حين آخر عن قناعة خاطئة، فيقولون إن ولايتهم اقتصرت على تعليم هذه الأحكام الضرورية التي لم تخفَ على المسلم الملتزم من قديم الزمان!

والغريب أنّ هؤلاء الناقدين، يتَّفقون من حيث المبدأ مع أولئك الفقهاء ومَن على طريقتهم، ولكنّهم يطرحون هذه الانتقادات غير البنّاءة بغَرَض الدِّفاع عن الطريقة التي يقتنعون بها في الولاية والتطبيق، مع أنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك!

واستعراضٌ خاطفٌ لتاريخ علماء الشيعة من خلال الذاكرة التاريخية على الأقل بلا حاجة إلى مراجعة المجلدات الطافحة بالوقائع والأحداث، يعطي صورةً حقيقيةً لممارسةِ الولاية من قبل هؤلاء العظماء.

ابتداءً من الشيخ المفيد (ره) ومن قبله من المحدثين والرواة، والسيد المرتضى والشيخ الطوسي (ره)، ومن تلاهما وتوسّط بينهما وبين الشهيدين الأول والثاني (ره).

والعلامة الحلي ومن تلاه وتوسّط بينه وبين السيد الشيرازي، ومن تلاه كالملّا كاظم الخراساني، والسيد اليزدي ومن تلاه كالسيد الحبّوبي والشيخ النائيني والسيد أبو الحسن الأصفهاني.

ثم السيد الخميني ومن عاصره وتلاه في إيران، والسيد الحكيم والسيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر في العراق.

والمواقف البنَّاءة المتناسقة التي كانت من قبل هؤلاء العظماء، والتي ساعدت على استمرار الثورة ونجاحها في إيران، بالإضافة إلى ما يحدث في هذا العصر من مواقف مستمرّة للأوحديين من الناس في مواقفهم وفنائهم في سبيل الله تعالى والمذهب.

هذا كلّه وضعٌ واحد مترابط مستمرّ، لم ينقطع منذ بداية الغَيْبة الكبرى، ذو حلقات مختلفة قلبا وقالبا حسب تراكُم الإيجابيات والسلبيات في كل عصر، وحسب توفّر الإمكانيات بكل حيثياتها.

وهذه السلسلة المباركة في الحقيقة، بكل حلقاتها الإيجابية الظاهرة والخفية، هي تجسيد حيّ لقوانين الإسلام في ظل الولاية التي جعلها الله تعالى للأولياء، وهي سلسلة نابعة من شدة التمسك بعروة أهل البيت الوثقى التي لا انفصام لها، كما لا انفصام لتلك السلسلة التي تمثل الحدَّ الأدنى لولاية إمام العصر (عجل الله فرجه)في غَيْبته الكبرى، كما تمثل الحدّ الأعلى لولاية هؤلاء الفقهاء في حالة غَيْبته (عجل الله فرجه)، لأنه يراقب ويطَّلِع بعد أن طَمأن الشيعة بأن (هؤلاء حُجّتي عليكم، وأنا حُجّة الله عليهم).

وحيث إنه كذلك فقد اختار لهذه الولاية: الفقيهَ، العالم، الرّباني،  الذي يمتاز بشمول المعرفة وعُمْقِها، ونكران الذات، والذَّوَبان في طاعة الله تعالى ورضاه، وقضاء حوائج المؤمنين، وتسهيل أمورهم، وحلّ مشكلاتهم، في ظل نظره إلى المصلحة العامة في كلِّ ما تدعو الحاجة إليه، ليكونوا خير أمة أُخْرِجَتْ للناس باتّباع كتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله)، وسيرة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، من خلال حِفْظ تراثهم وسلوكهم (عليهم السلام) وتطبيقه بواسطة الفقهاء والأولياء في غَيْبته صلوات الله عليه.

وقد احتاجت ولاية الفقيه إلى البحث الفقهي الاستدلالي لأنها موضوع اجتهادي، وفيها اجتهادات متعددة وآراء متفاوتة، وكلها اجتهادات متكافئة من حيث نسبتها إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ما دام قد توصل إليها فقيه مجتهد اتبع منهج الاستنباط المقرّر في المذهب.

وأصل الخلاف الفقهي فيها هو: أنه هل المرجعية الدينية منصب فقهي، أم منصب فقهي وسياسي ؟

فجمهور فقهائنا رضوان الله عليهم يرون أن المرجعية منصب فقهي، وأن صلاحية الفقيه محصورة في الإفتاء والقضاء بين الناس، وفي الأمور الحسبية أي تصريف الأمور التي لا يرضى الشارع بتركها في عصر الغيبة، وتولي الأوقاف وصرف الأخماس والزكوات في مصارفها الشرعية، ومعنى ذلك أن له الصلاحية في كل شأن تدعو الحاجة إليه من الناحية الشرعية، ولا يرون أن للفقيه الحق في إقامة الحكم وسياسة البلاد ابتداءًا، نعم إذا طلب منه الناس ذلك فإنه يقدّر وجوب ذلك عليه أو عدم وجوبه، حسب المصلحة الضرورية للدين وللمسلمين.

وقليل من فقهائنا يرون أن للفقيه السلطة الدنيوية والرئاسة السياسية، كالشيخ النراقي والسيد الخميني قدس الله أسرارهم جميعاً، وهؤلاء بينهم اختلاف فقهي في حدود هذه السلطة الدنيوية وتفصيلاتها:

(فبعضهم): يرى أن للفقيه الولاية المطلقة التي للمعصوم (عليه السلام) في كل ما يحتاج إليه الحاكم، وأنه لا قيمة للانتخابات أمام رأيه، لأن قوله وحكمه حكم شرعي واجب التنفيذ.

(وبعضهم): يرى أنه يجب أن يتقيد المرجع بدستور ارتضاه الناس لحياتهم ضمن الشرع، وأن الدستور يجب أن ينص على حدود صلاحيات الفقيه ومدة ولايته، وأنه يجب عليه بدوره أن يتقيد بالدستور، فإن خالفه انعزل تلقائياً، لأنه خالف الشرط الذي نصبه الناس حاكماً على أساسه.

هذا كله عند القائلين بأن ولاية الفقيه منصب نيابة عن الإمام (عليه السلام) في القيادة السياسية، فهذان هما الرأيان الأساسيان، وهناك تفصيلات فيمن لا يرى الولاية تختلف باختلاف الأنظار في انطباق العنوان المشروع على موارده، كما أن هناك رأياً ثالثاً وهو أنه قد ثبت للأمة ولاية على نفسها في عصر الغيبة، ولم نتعرض له لأن كلامنا في ولاية الفقيه لا في ولاية الأمة !

والذي نراه أنه لا إشكال في ولاية الفقهاء على الإفتاء والقضاء، الشامل لإقامة الدولة الإسلامية في نظام خاضع بكل تفاصيله لأحكام الشريعة الإسلامية، الخالية من التأويل والعناوين التي تُخضع الموضوع لحكم من الأحكام الشرعية قهراً، والخالية من الأحكام الولائية التي تخلق حكمًا لم يكن موجوداً في الشريعة، مع تحقق الشروط الموضوعية التي تجعل هذه الولاية فعلية وواجبة التنفيذ.

وسيأتي تفصيل ذلك كله في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.