الباب الأول
في ولاية النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)
والأئمة الأوصياء من بعده (عليهم السلام)
المعصومين من الزَّلَل، والمُطَهَّرين من كل رجس ودنس
(سلام الله عليهم أجمعين)
والولاية التي نتكلم عن ثبوتها للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ثلاث كما عرفت:
1- الولاية التكوينية.
2- الولاية على التشريع.
3- الولاية في التشريع.
( 1 )
الولاية التكوينية للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)
إنّ مبدأ الولاية التكوينية لغير الله -تعالى- يؤمن به كلُّ مَنْ آمن بالله -تعالى- وبالمعصومين من الأنبياء والمرسلين والأوصياء (عليهم السلام) وبالقرآنِ الكريم، لأنّ ذلك من أبسط مهامهم في أداء رسالتهم حيث إنه العنصر الأساسي في قناعة المؤمنين بهم ليؤدّوا هذه الرسالة.
ولا إشكال عندنا في ثبوت الولاية التكوينية للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة البررة (عليهم السلام) على سائر المخلوقين، وعلى الكون بأجمعه.
ولا بدّ: (أولاً): مِنْ معرفة معنى الولاية التكوينية، (ثم): إقامة الدليل عليها، (ثم) بيان اختصاصها بهم (عليهم السلام)، فهنا مباحث ثلاثة:
المبحث الأول والثاني: معنى الولاية التكوينية، والدليل عليها:
الولاية التكوينية لم ترد في نَصٍّ شرعيٍّ من كتابٍ أو سُنّةٍ، وإنما استُعمِلَتْ انطلاقًا من مفاهيم آيات قرآنية معيّنة، دلّتْ على أنّ هذا الذي صدر من أنبياء الله: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد-صلوات الله عليهم أجمعين- هو خَرْق لقانون العلّية الذي بُني عليه الوجود.
وهذه الولاية بدوية عندما تُنْسب لغير الله -تعالى-، لأنّ الولاية التكوينية بمعناها الدقيق الذي يدل عليه اللفظ، هي التسلّط على كل مظاهر الكون وموجوداته إيجابا وسَلْبا، من خلال القدرة على اختراق مبدأ العلّية.
وحيث إنّ المكوِّن الأساسي -تبارك وتعالى- غير قابل للاختراق من خلال اختراق قوانين العلّية، فلا بدّ أن نعرف أولاً معنى الولاية التكوينية للإنسان بعيدًا عن الإعجاز والكرامة.
فالولاية على فِعْل الإنسان الاختياري قد أعطاها الله-تعالى- لكلِّ إنسان عاقل، على أساس نظرية (الأمر بين الأمرين).
فالإنسان هو القادر على المعلول الناشئ عن أفعاله، من حيث القدرة على علّة هذا الناتج وأسبابه، فيكون فعله الاختياري، علةً ومعلولاً، هو واحد من الحلقات في سلسلة موجودات هذا الكون بعَرْضه العريض وامتداده في عمود الزمان.
وليس هذا الذي يصدر من الإنسان خَرْقا لقانون العلّية، لأنّ الإنسان بما فيه من قدرة واختيار، هو أحد معلولات العلّة الأزلية، لأنه -تعالى- علم بهذا على ما هو عليه من العلة والمعلول، وعلم بأن هذا المعلول سوف يوجد نتيجةً لوجود علّته التي علم الله -تعالى- بأنّ الإنسان سوف يختارها ويفعلها، كما علم بأنّ سببيّة بعض الأفعال لبعض مُسبَّباتها قد يزول منها عنصر فلا تؤثر في معلولها ومسبَّبها، كما أنه قد يوجد عنصر في ما لا يكون علةً فيصبح علة لمعلولٍ ما.
فهو-تعالى- يعلم بأنّ بعض أفعال الإنسان قد تُزيل عنصرًا وقد تُوجِد عنصرًا، فتنتفي العلّية في الأول وتصبح عِلَّة في الثاني.
فالاختراق في قانون العلية وعدم الاختراق، عنوانان فَرَضيّان لا تصح نسبتهما إلى ما وقع وإلى ما لم يقع.
فعندما نقرأ قوله-تعالى-: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}([1]) فهو -تعالى- يشير إلى قانون الجاذبية في حدود معلوماتنا نحن البشر، وجَعْل السببيّة في هذا القانون، وعلم الله-تعالى- بأنه سوف يفعل الإنسان فِعْلاً ؛ لا نقول: لاختراق هذا القانون، بل نقول: لإيجاد سبب يؤثر في معلول آخر يضادّ هذا القانون.
ولا بأس بكلمة (الاختراق) في كل هذه الأمور، لسهولة إيصال المطلب إلى القارئ والسامع، على أن يكون هذا الاختراق داخلاً في سلسلة علل المعلولات المترتبة عليه.
فإذا كانت قدرة الإنسان -مطلق الإنسان- على الاختيار، وما نسميه بالاختراق في بعض الأحيان، هي من الله-تبارك وتعالى- فهذا يعني أنّ له الولايةَ على بعض مظاهر هذا الكون بإيجاد أسبابها، ولكنها ولاية ضئيلة جدًا بمقدار الإنسان في وجوده المادي والمعنوي، فهي ولاية مجعولة ولكن الله-تعالى- جعلها له لِما يعلمه فيه من المؤَهِّلات لهذه الولاية، كما جعل التأثير لبعض العناصر المادية على بعض مثل: سُلطة النار على تبخير الماء، وسُلطة الماء على إطفاء النار، وعنصر البرودة على تجمّد الماء.
وخلاصة القول:
أنّ الإنسان له الولاية الإجمالية على بعض مظاهر الكون بالقدرة التي وهبها الله -تعالى- له على أفعاله واختياره لها، وإذا أساء التصرف في قدرته واختياره، فهذا لا يؤثر في الكون شيئًا، لأنه بمجموعه -من أقواله وأفعاله وذاته- من موجودات الكون، فهذه ولاية ظَرْفها الكون والوجود، ولَيْسَتْ ولاية على التكوين.
ومن مجموع ما قلناه نستكشف:
بأنه لا مانع من أن يجعل الله -تعالى- الولاية للإنسان على نفس السبب غير المقدور، أو على المُسبَّب مباشرة بإذنه وأَمْره -تعالى-، لا بمعنى إنشاء الإذن بل بمعنى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([2])، كما قال للسماوات والأرض{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}([3])، فإنّ قوله-تعالى- هذا هو العلّة في وجودهما بعد أن لم تكونا، فلا مانع من أن يجعل ذلك للإنسان، بمعنى أن يأمر الظاهرة الكونية بالاستجابة للإنسان عندما يقول أو يريد !
وهذا معنى (بإذن الله) في تلك الآيات الكريمة، التي ذكر فيها معاجز الأنبياء (عليهم السلام)، كقوله تعالى على لسان عيسى (عليه السلام): {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ}([4]).
ويدل على ذلك بالإجمال قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}([5]).
وبعد أنْ لم يكن مانع من دخول عمل الإنسان أو تصرّفه في بعض العناصر، خصوصًا على ضوء العلم الحديث، وبعد عدم وجود مانع عقلي من أن يُسخِّر الله -تعالى- بعض العناصر التي لا تدخل تحت قدرة الإنسان لأنْ تستجيب لدعوة الإنسان، خصوصًا بعد أن نصّ القرآن الكريم على إمكانية هذا الأمر بقوله-تعالى-: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}([6]).
فإنّ هذا الطرح يدلّ على إمكانية هذا الأمر في بعض مظاهر الكون كقدر مُتَيَقّن، ويدلّ أيضًا على أنّ هذه القابلية موجودة في الجنّ والإنس من ناحية أخرى، لأنهم خلقوا للعبادة، والمعرفة، والوصول إلى أعلى درجات الكمال الإنساني، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([7])، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([8])، لأنه -تعالى- خلق الكون لأجلهم، كما دلّت على ذلك كثير من الآيات الكريمة، وجعل الإنسان خليفته في الأرض كما دلت على ذلك الآيات الكريمة أيضًا.
فكما أن الإنسان له أن يفعل ما يشاء باختياره وقدرته التي أودعها الله-عزّ وجلّ- فيه، فالذي خلقه وخلق الكون يضع بقدرته الذاتية المقدسة بعض مفاتيح هذه القدرة بيد من يشاء.
وقد دلّ على وقوع ذلك ما فَعَله الله تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، عندما قال للنار {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}([9])، وكما أَمَر أربعة من الطير أن تستجيب الكتل اللحمية المتقطّعة للخليل إبراهيم (عليه السلام) عندما يدعوهنّ فيأتين طوعا([10]).
وكما أمر عصا الكليم موسى (عليه السلام) بأن تكون له كلَّ شيء يريده عندما تدعو الحاجة لذلك، وكما أَمَر البحر والحجر بالاستجابة لِضَرْب موسى (عليه السلام) بالعصا([11])، وختمه بنبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، عندما أَمَر القمر بالانشقاق وفجّر الأرض ينبوعا، وردّ الشمس وطوى الأرض لسيّد الكائنات والأنبياء وسيّد الأوصياء، محمد وعليّ عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
ولم تضطرب مسيرة الكون بما أعطاهم الله-سبحانه- من الصلاحية، ولن تضطرب، لأنه-تعالى- يعلم أنهم بمقتضى كفاءتهم العليا لا يسيؤون الاختيار، لذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله) الأكرم وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام) في الرعيل الأول من أصحاب هذه الولاية التكوينية مع سائر الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) الذين أُعطِيَتْ لهم هذه الولاية في زمانهم.
ولا عجب في ذلك، فإنّ مرتبة الولاية التكوينية دون مرتبة النبوة والإمامة بمراحل، حيث أعطى الله سبحانه -كما حكى القرآن الكريم- هذه الولايةَ لبعض الصالحين من الأمم السابقة مع عدم بلوغهم مرتبة النبوة، كما سنشير إلى ذلك وإلى ثبوتها لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
الفرق بين النبوة والإمامة:
ثم إنه لابدّ من بيان الفَرْق بين النبيّ والإمام، فنقول:
النبوّة: حالة وصفة في النبيّ، ينال بواسطتها الاتصال بعالم الغيب والملكوت، ويوحي له الله -تعالى- بما يريد إيصاله إلى البشر، {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً}([12]).
فالنبيّ هو البشير النذير والمنبئ المبلِّغ عن الله -تبارك وتعالى-.
وأمّا الإمام: فليست له النبوّة، ولكن له الولاية، وهي أمر عظيم ودرجة عالية من الأهمية، لأنها حكومة وسُلطة على الأموال والنفوس والأعراض والنواميس الطبيعية في الكون بالمعنى الآنف من الولاية التكوينية.
فالإمام يقود الخلق باتجاه المصالح التي أرادها الله -تعالى- لهم وخلقهم من أجلها، ويفجّر الطاقات الكامنة في النفوس والمواهب التي أودعها الله -عزّ وجلّ- في عقول الناس.
والآيات التي نصَّتْ على نبوّة الأنبياء لا تدلّ على إمامتهم، وإنما تستفاد إمامة بعض الأنبياء من آيات أخر، لأنّ النبيّ مخبِرٌ ومرشد ومبلِّغ.
وأمّا الإمام فهو الذي يوجه الناس توجيهًا تكوينيًا أي عمليًا، لأنه يصون الرسالة ويطبّقها، وهذا هو معنى التطبيق والصِّيانة.
وقد ثبتَتْ الإمامة لبعض الأنبياء، مثل خليل الله إبراهيم (عليه السلام) في الآية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}([13])، ومثلها {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}([14]) بعد ذكر الأنبياء: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) .
وثبتَتْ أيضا لكليم الله موسى (عليه السلام) في الآية: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}([15]).
وقد جعل الله -تعالى- الولاية التي هي من وظيفة الإمام لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}([16]).
فالولاية للمعصوم هي ولاية الإمام، سواء أكان نبيا أم لم يكن إلا إمامًا.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد النبوة هو أوَّل إمام ووليّ، بتلك الآية من القرآن الكريم، وبغيرها مما ثبت بالدليل القطعي الذي لا يقبل الشك، وبعده سائر الأئمة (عليهم السلام) .
ثبوت الولاية للأئمة (عليهم السلام):
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}([17]).
فإنّ الأمانة تقتضي سلطنة المؤتمن على أمانته وتمكّنه من حفظها بالنحو الذي يناسبه ويكون فيه محفوظًا كأمانة.
حمل الأمانة نوع الإنسان الظلوم الجهول ولم يحافظ عليها بكل أبعادها لظلمه وجهْله.
وحملها المعصومون من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، فلا بدّ بالإضافة إلى قدراتهم التكوينية وإلى ما أعطاهم الله -تعالى- إياه من القدرات الإضافية بإذنه، أن تكون لهم المعرفة بما سلّطهم الله تعالى عليه من مكنونات الكون وأسراره.
فما هو المانع بعد ذلك من أن يعرج النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى السماء ويتعرّف على الأسرار ومفاتيحها ما دامت له المرتبة الروحية العليا عند الله عزّ وجلّ !
وقد عرج بإذنه تعالى، قال جلّ مِنْ قائل:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}([18]).
ثم إنّ الأمانة: تشمل الأمانة بمفهومها العريض والممتد في عمود الزمن، فالكون بما فيه من قوانين وأنظمة مُسخّرة لصالح الإنسان، كونٌ متكامل تشريعًا وتكوينًا، وتجسيد الخلافة على الأرض من قِبل الإنسان، وهو من ضمن الكون، هو أهم ما في هذا الكون، وهو أهم أمانة.
وعرْضُ الأمانة على السماوات والأرض عرضٌ تكويني كالإباء، كما أنه كذلك على الإنسان لما فيه من القابلية والكفاءة، ولم يكن العَرْض بسؤال وجواب.
فكان من جملة الأمانة وأهم عناصرها: (شريعة السماء) وما فيها من مبادئ وقيم، جسّدها الأنبياء والأوصياء وأهل البيت (عليهم السلام) بأعلى مراتب التجسيد، وكان هؤلاء بأشخاصهم ومبادئهم أمانة.
وقد حمل أهل البيت (عليهم السلام) الأمانة، ولم يحملها الإنسان الظلوم الجهول ؛ لا تكوينًا، لعجزه وبعده عن الله-تعالى- وعن أسرار هذا الكون ؛ ولا تشريعًا، لأنهم لم يحفظوا الأمانة ولم يحفظوا أهل بيت النبي (عليهم السلام) الذين هم أهم مظاهر الوجود التكويني.
فالكون أمانة، والشريعة أمانة، وانسجام الإنسان مع الشريعة والكون أمانة.
ولم يجسّد ذلك بأعلى المراتب سوى أهل البيت (عليهم السلام)، فهم حاملو الأمانة.
وهم أيضًا بأشخاصهم ومبادئهم أمانة عند نوع الإنسان، لأنه مهما حَفِظ الإنسان هذه الأمانة فيهم فهو مقصّر، وتتدانى مراتب التقصير حتى يكون ظلومًا جهولاً.
وحيث إنّ لكل واحد من موجودات الكون دَوْرًا في نظام الوجود، كالشمس والهواء والماء والصيف والشتاء، فهناك سببيّة وعليّة تكوينية بين هذه الظواهر وبين آثارها ومسبَّباتها.
فكذلك المعصوم والإمام الذي له الولاية التكوينية بمعنى التأثير في الكون، له هذا الدور أيضًا في حياة الإنسان ومصيره والولاية عليه، لا بمعنى المنصب الاجتماعي والسياسي الذي يزول بزوال الأشخاص وتبدلهم بالاعتبار والانتخاب، حيث لا أهلية لكلا الطرفين الناخب والمنتخب، بل بمعنى جعل الإمامة المعصومة بشخص الأئمة المستمرين إلى قيام الساعة، فهم الشجرة الطيّبة التي {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}([19]).
لذلك، فالإمامة قانون كبقية القوانين التكوينية.
وهذا البعد العقائدي -التكويني- هو البنية التحتية للإمامة، وثمراتها هو المجتمع بكل حيثياته.
أما الولاية على الكون فقد ثبتت للأنبياء والمعصومين وغيرهم من الصالحين كما ورد في القرآن الكريم.
ولايتهم (عليهم السلام) التكوينية على جميع شؤون المجتمع الإنساني:
ولا بد الآن من الكلام عن ولايتهم (عليهم السلام) في حدود الإنسان والمجتمع، فنقول:
الحاجة إلى ولايتهم (عليهم السلام) التكوينية على جميع شؤون المجتمع الإنساني بأفراده ومجموعه حتميّة على ضوء ما تقدّم، حيث إن الإنسان هو خليفة الله-تعالى- في الأرض، وخُلِق للعبادة، والمعرفة، وللوصول إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني، كما قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([20])، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}([21])، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}([22])، وغيرها من الآيات والدلالات.
وهذه المراتب لا يستطيع الإنسان تشخيصها بمختلف مواقعها، فلا يستطيع معرفة أقرب الطرق ولا أكمل الدالِين عليها، مع أنه ينشد بفطرته الكمال، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}([23])، فلا يتمكن إلا بواسطة الشرائع السماوية، لأنه لا يصل إلى شيء بلا نظام، ولا يمكنه وَضْع النظام، بل وضَعَه مَنْ خلقه وهو اللطيف الخبير.
لذلك احتاج الإنسان إلى الرسل للهداية إلى الشريعة، وذلك من خلال التبليغ والإنذار والوعد والوعيد.
فإذا اكتملَتْ رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ورحل شخص الرسول إلى الرفيق الأعلى، تبقى شريعته، فالذي يرشده إلى الطريق أو يوصله مباشرة وتكوينًا -أي عمليًا- هو الإمام، لأن الرسالة لا تستمر بشخص الرسول، بل بشريعته الخالدة، وهي رسالة الإسلام، والذي يصونها من الضياع والتحريف ويرشد الناس إلى الهدف السامي هو الإمام (عليه السلام) .
فالإمامة: منصب ثبَتَ لبعض الأنبياء السابقين ولنبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله) كما ثبتت لهم النبوة.
بينما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا أئمة حافظين للشرع والشريعة والمتشرّعين، فلابد من استمرارهم باستمرار الشريعة التي هي خالدة إلى قيام الساعة، ولذلك لا بدّ من جعل هذه الإمامة معصومة عصمة الدِّين الإسلامي، وشاملة شمول الشريعة، وعامة لكل البشر، ومواكبة لكل العصور.
وهذا منصب ربّاني، لا يقدر عليه إلا من نصّبه الله-تعالى-، وكانت فيه كفاءة النبوة، مع الاستمرار بالإمامة، لا بشخص إمام معيّن، ولا يختم إلا بخاتم الأوصياء والأئمة، الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه) .
فالإمام باستمراره، هو الذي يبرز الإسلام بالقول والعمل والسلوك العام، نظرية كاملة، وعملية مجسّدة، ويحفظ معالم القرآن الخالد، لأن هذا القرآن يهدي للشريعة التي هي أقوم.
والولي التكويني لحفظه وتطبيقه ونشره هو الإمام (عليه السلام) .
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ*وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ*وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([24]).
فإذا كانت موجودات الكون المرتبطةُ بآثارها لها حقٌّ عليها وعلى الإنسان الذي هو أحد آثارها بمقتضى النظام العام..
وإذا كانت أعضاء الإنسان من السمع والبصر والفؤاد لها حقّ بحكم آثارها..
وإذا كانت الموجودات التكوينية عمومًا لها آثارها ولها حقوقها وامتيازاتها التي يقدسها الإنسان ويشكرها كنعمة -إذا كان شاكرًا للنعم التي لا تُعدّ ولا تُحصى-..
فالإمام.. أعظم الموجودات التكوينية، وصاحب أقوى ولاية على الكون في الجملة، وله الولاية التكوينية على الإنسان بالمعنى المتقدم، وله أعظم الحقوق في التبعية والانقياد.
المبحث الثالث: في اختصاص الولاية التكوينية بهم (عليهم السلام):
وليس لغيرهم (عليهم السلام) تلك الولاية، إلا بمقدار ما يصل إليه المؤمن من درجات التقوى والروحانية، التي تؤهله لاستجابة الدعاء بشكل قطعي، أو الاطلاع بأي سبب من الأسباب على بعض الأمور الغيبية، بمقدار ما ثبت اتصاف بعض العلماء والصلحاء به.
* * *
([1]) الرحمن:33 .
([2]) يـس:82 .
([3]) فُصِّلَتْ: من الآية11 .
([4]) آل عمران 49 .
([5]) غافر من الآية 78 .
([6]) الرحمن: 33 .
([7]) الذاريات: 56 .
([8]) الحجر: 99 .
([9]) الأنبياء:69 .
([10]) البقرة: 26 .
([11]) البقرة:60 - الأعراف:160- الشعراء: 63 .
([12]) الإسراء:95 .
([13]) البقرة: من الآية124 .
([14]) الأنبياء: 73 .
([15]) السجدة: 24 .
([16]) النساء: من الآية59 .
([17]) الأحزاب: 72 .
([18]) الإسراء:1 .
([19]) إبراهيم: 24-25 .
([20]) الحجر:99 .
([21]) الأنعام: 75 .
([22]) البقرة: من الآية 260 .
([23]) الروم: من الآية30 .
([24]) إبراهيم: 32-33-34 .