الباب الثالث

في ولاية الفقهاء على الأحكام في القضاء

ما هي وظيفة المرجع (الفقيه) إذا تمّت فيه الشرائط المتقدمة العلمية والعملية، والسلوكية، والنفسية، فهل هو مسؤول عن الإفتاء فقط، أو مسؤول عن تطبيق تلك الأحكام من قِبَل مَنْ يجب عليهم الرجوع إليه؟

وما هو مقدار مسؤوليته عن التطبيق-على تقدير القول بها-؟

وما هي حيثيّاتها من القضاء وصلاحية التصرّف في شؤون الغير فَرْدًا ومجموعًا؟

 

لذلك ينحصر الكلام في مبحثين:

( المبحث الأول ): في القضاء والحاكم، وما هو المراد منه في هذه الروايات.

( المبحث الثاني ): في ولاية الفقيه في الفتوى، وهي ذات شقّين:

الشقّ الأول: ولايته على الإفتاء بعد استنباط الأحكام الشرعية وبلوغه درجة الاجتهاد المطلق (وقد تقدم الكلام فيه).

الشق الثاني: ولايته على تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلفين وعلى المصالح المتعلقة بهم عمومًا أو خصوصًا.

 

تمهيد في بيان الفَرْق بين القضاء والفتوى

الفَرْق بين القضاء والفتوى، أنّ الفتوى: عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها، وهي حُجّة على مَنْ يجب عليه تقليد المفتي فقط، والعامل بالفتوى هو الذي يطبّقها، ولا علاقة للمُفْتي بذلك.

وأما القضاء: فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الخصومة والترافع، فالقاضي يطبق الأحكام الكلية التي عنده على ذلك المورد، ويحكم بموجبه للأشخاص وعليهم، كما يحكم بالواقعة المخصوصة، وحكمه نافذ حتى إذا كان أحد المتخاصمَيْن أو كلاهما مجتهدًا، بخلاف الإفتاء فإنه نافذ في حقّ غير المجتهد ممَنْ يجب عليه تقليده فقط.

 

الأدلة على وجوب القضاء

لا إشكال في وجوب القضاء، بل هو من أهم الواجبات الكفائية في الشريعة الإسلامية، وهو من الضروريات كما تقدّم، ويدل على وجوبه أمور:

 

( الأمر الأول ): العقل

فإنّ القضاء يتوقف عليه حفظ نظام النوع الإنساني، حيث إنه من القضايا المشهورة التي تبانى عليها عقلاء البشرية جميعًا من حيث إنهم عقلاء، لأنهم يدركون أنه لا بد من وجود من له الولاية على حسم مادة الظلم والفساد والإشكالات والمنازعات التي تقع من الناس وبين الناس، إذ إن العقل كما أدرك بأن الله-تعالى- لا يترك البشر بدون أنظمة وقوانين تنظّم أمور حياتهم، كذلك يدرك وجوب وجود وليٍّ يقضي بينهم، ويقوم بتطبيق تلك الأحكام المتعلقة بأحوالهم ومنازعاتهم الشخصية والاجتماعية المادية وغيرها.

ومن هنا نشأ إجماع الأمة على وجوب القضاء، وإن كان هذا لا يسمى إجماعًا بالمعنى المصطلح بل هو من الضروريات عند كافّة المسلمين، بالإضافة إلى إطباق كافّة العقلاء عليه.

 

( الأمر الثاني ): الكتاب العزيز:

فقد دلَّتْ الآيات الكريمة في الكتاب العزيز على تنصيب الأنبياء السابقين وخاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله)  للحكم والقضاء بين الناس.

كما أمر نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله)  بتنصيب مَنْ له الأهليّة، وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)  وأبناؤه المعصومون (عليهم السلام) حتى لا تندرس أحكام الإسلام ولا تضمحلّ معالمه، ولا شكّ بأن القضاء من أهم تلك المناصب:

قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}([1]).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}([2]).

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}([3]).

ومعلوم عندنا: أنّ (أولي الأمر) في الآية هم أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) الذين لهم الأمر والولاية بعده، لأننا نتكلم على أسس ثابتة في المذهب، وليس بحثنا مذهبيًا بل في ضمن المذهب، وقد تعرضنا في كتابنا (العقل في أصول الدين) لمدلول هذه الآية وغيرها، وأن الأئمة (عليهم السلام)  هم أولو الأمر.

 

( الأمر الثالث ): الروايات:

والروايات التي يمكن الاستدلال بها على وجوب الرجوع إليه ووجوب قيامه بهذه المهمّة كفايةً وعَيْنًا، عديدة:

بعضها يختص بوجوب القضاء وشروطه وصفات القاضي، وبعضها مطلق، والمدار على ما وصل إلينا من الروايات الدالة على نصب القضاة في زمن الغَيْبة:

فمن تلك الروايات: صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا، فاجعلوه بينكم،فإني قد جعلته قاضيًا فتحاكموا إليه)([4]).

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: (سألْتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رَجُلَيْن من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة: أيحلّ ذلك؟ قال (عليه السلام) : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنما يتحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم به فإنما يأخذ سُحْتا وإن كان حقًا ثابتًا له لأنه أخذه بحُكْم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله-تعالى-: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}([5]) قلْتُ: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فَلْيرضوا به حَكَمًا، فإني قد جَعَلْتُه عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبلْ منه فإنما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله)([6]).

وقد ناقش سيدنا الأستاذ الخوئي (قده)  في سند هذه الرواية بأنّ عمر بن حنظلة لم يثبت توثيقه إلا ما ورد من الرواية في توثيقه من قوله (عليه السلام) : (إذًا لا يكذب علينا)، ولكنّ راويَ هذه الرواية هو يزيد بن خليفة ولم يثبت توثيقه.

ولكنّا نقول: بأنه ثقة، وذلك لرواية صفوان عنه، وهو أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة على ما بنينا عليه، والثلاثة هم: صفوان، والبزنطي، وابن أبي عمير، والسيد الأستاذ (قده)  لا يقول بهذا المبنى.

ومنها: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)  قال: (أيما مؤمن قدّم مؤمنًا في خصومة إلى قاضٍ أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم)([7]).

ومنها: صحيحة الحلبي قال: (قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : ربما كان بين الرَّجُلَيْن من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا، فقال (عليه السلام) : ليس هو ذاك -أي الممنوع والحرام- إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط)([8]).

ومنها: موثقة الحسن بن علي بن فضّال قال: (قرأْتُ في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني وقرأت بخطه، سأله: ما تفسير قوله-تعالى-{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}([9]) فكتب (عليه السلام)  بخطّه: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أَخْذه إذا كان قد علم أنه ظالم)([10]).

ومنها: التوقيع المنسوب إلى مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه) ، قال: في كتاب (إكمال الدين وإتمام النِّعمة) عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابًا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه) : أمّا ما سأَلْتَ عنه أرشدك الله وثبّتك..)، إلى أن قال: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم، وأما محمد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنّه ثقتي وكتابه كتابي)([11]).

وإسحاق بن يعقوب وإن كان مجهولاً في الرجال، إلا أننا صحَّحْناه بتوثيق عام للشيخ الطوسي في كتاب الغَيْبة حيث قال: (وقد كان في زمن السفراء المحمودين أقوام ثقاة ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل)([12])، فإنّ هذه الفقرة من الشيخ (ره) شهادة بوثاقة من روى له توقيعًا، وقد روى هو هذا التوقيع.

إلى غير ذلك من الروايات في الأبواب المتفرِّقة.

والغرض من كل تلك الروايات، هو الحكم بالحق الذي أودعه الله-تعالى- عند محمّد وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، لأنّ منصب الولاية على الأموال والنفوس والأعراض، مختصّ بهم بالدرجة الأولى، وهذه الولاية مجعولة لهم من قِبَل الله-تعالى- بواسطة تبليغ الرسول (صلى الله عليه وآله) .

فكلّ ما يُدّعى غير ذلك فهو بحاجة إلى دليل وإذْنٍ من قِبَلهم (عليهم السلام)  للخروج عن هذا الأصل الثابت، فمع عدم النص في مورد أو عدم استجماع الشرائط في شخص لا تكون هناك ولاية لأحد على أحد.

وقد استُدِلّ على هذا الأصل المذكور بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (اتقوا الحكومة فإنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبيٍّ أو وصيِّ نبيٍّ)([13]).

وإن كنّا لا نحتاج إلى الاستدلال بهذه الرواية بعدما تقدَّم من ثبوت ولايتهم (عليهم السلام) ، وإنما نذكرها لأنها نصٌّ في ما ذكرنا من ولايتهم المطلقة، لنرى ما يمكن أن نخرج به عن هذا الأصل من الروايات الأخرى.


 

([1]) سورة ص: 26.

([2]) النساء: 59.

([3]) النساء: 65.

([4]) الوسائل باب1 من أبواب صفات القاضي ح5.

([5]) النساء من الآية 60.

([6]) الوسائل باب11 من أبواب صفات القاضي ح1، وذيل الحديث في الباب9 من أبواب صفات القاضي ح1 فيما إذا اختلف القضاة في الحكم.

([7]) الوسائل باب1 صفات القاضي ح1.

([8]) نفس الباب السابق ح 8.

([9]) البقرة من الآية 188.

([10]) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح9.

([11]) الوسائل باب11 من أبواب صفات القاضي ح9، ورواه الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الرازي وغيرهما كلهم عن محمد بن يعقوب، رواه الطبرسي في الاحتجاج مثله.

([12]) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص415- مؤسسة المعارف الإسلامية.

([13]) الوسائل ب3 من أبواب صفات القاضي ح3، رواها الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.