القاضي المنصوب وقاضي التحكيم

وحيث إن القضاء الذي هو من الواجبات المهمة يحتاج إلى جعْل من قِبَل مَنْ بيده الأمر وهم الأئمة (عليهم السلام) ، فلا بدَّ من الاستعانة بالروايات لبيان كيفية نَصْبهم (عليهم السلام)  للقضاة، وشروط القاضي المنصوب، فنقول:

إن القاضي نوعان:

أحدهما: القاضي المنصوب.

الثاني: قاضي التحكيم.

والمراد بالقاضي المنصوب: (إما) من نصبه الإمام باسمه وشخصه، كما حصل في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذا خارج عن محل الكلام، (وإما) من نصبه الإمام في زمن الغيبة بعنوان كونه قاضيًا، لكونه جامعًا للشرائط المطلوبة في القاضي، أي شرائط الحكم والفتوى، بناء على ثبوت التنصيب بالنَّص، كما هو الصحيح، أو ثبوته بقاعدة وجوب حفظ النظام.

وأما قاضي التحكيم: فليس في قبال القاضي المنصوب ليقال بأنه من لم ينصبه الإمام، بل المراد به من رضي به المترافعان مع كونه مأذونًا من قِبَل الإمام، وإنْ لم يكن عند بعض الفقهاء واجدًا لصفات القاضي المنصوب، وقد اشترط آخرون وجدان هذه الشرائط.

والسبب في اشتراط كونه مأذونًا: أنّ نفوذ القضاء والولاية من قبل القاضي على خلاف الأصل، لأنه لا حكم إلا لله-تعالى- أو لمن نصبه الإمام، فإذا قام الدليل على تنصيب الفقيه الجامع قاضيًا بأوصافه العامة، فهذا قاضٍ منصوبٌ ابتداءً، سواء أكان ذلك بالنص أم بوجوب حفظ النظام، وأما إذا لم يقم دليل على التنصيب بعنوان القضاء، ولكنه كان واجدًا لشرائط الحكم والفتوى فهو أيضًا قاضٍ منصوب، ولكن لا ابتداءً، بل في طول المحاكمة والمرافعة، بمعنى أنه إذا ترافع عنده الخصمان كان مأذونًا في الحكم من قِبَل الإمام، بدليل التنصيب الابتدائي والتنصيب برضى المترافعين.

وحيث إن الدليل قام على كلا الأمرين -كما ستعرف-، فبناء على ذلك: يكون القاضي المنصوب قاضيَ تحكيم إذا تراضى به المترافعان، فهل إن قاضي التحكيم الذي يتراضى به المترافعان: يشترط أن يكون له صفة التنصيب الابتدائي بمعنى أن له الأهلية ابتداءً، أو لا؟

لذلك لا بد من الكلام في القاضي المنصوب وأنه هل يوجد تنصيب بعنوان القاضي ابتداءً من قبل الإمام في زمن الغيبة، أو لا؟ يعني هل هو تنصيب في طول الترافع مع رضاهما لأنه أهل للحكم، فهل هناك تنصيب أو لا؟ لأنه إذا لم يوجد دليل على أصل التنصيب فلا معنى للكلام على قاضي التحكيم، لأنَّ القاضي بكلا نوعيه يكون قاضي تحكيم.

وحيث إنّ الدليل على التنصيب الابتدائي موجود، يقع الكلام في استفادة التنصيب الابتدائي وقاضي التحكيم من الروايات:

 

( أما التنصيب الابتدائي ):

فلا إشكال فيه ولا خلاف بين الأصحاب، ولا إشكال في أنه يعتبر فيه الاجتهاد، والقدر المتيقن من نفوذ حكم القاضي هو نفوذ حكم الفقيه المجتهد، ويكفي في عدم نفوذ حكم غيره الأصل بعد عدم وجود دليل على نفوذ حكم القاضي وإن لم يكن مجتهدًا، والدليل هو الروايات الآنفة، وهي منحصرة بالفقيه المجتهد الجامع للشرائط:

فمن تلك الراويات: مقبولة عمر بن حنظلة، حيث دلّت على هذا التنصيب الابتدائي، لأنّ قوله (عليه السلام) : (فليرضوا به حَكَمًا) بعد قوله (عليه السلام) : (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا وعرف أحكامنا)، يدلّ على أنهم مُلْزمون بالرضى به حَكَمًا نظرًا إلى أنه مجعول حَكَمًا قبل الترافع إليه، فإن قوله (عليه السلام)  هذا تعليلٌ لإلزامهم بذلك، فالإمام (عليه السلام)  قد ألزمهم بالرضى به، مُعَلِّلاً هذا الإلزام بأنه قد جعله حاكمًا، وهذا يعني ثبوت التنصيب له في مرتبة سابقة على الرضى به.

ومنها: صحيحة أبي خديجة، الظاهرة في جَعْل منصب القضاء للفقيه، فيجب الرجوع إليه في مورد التنازع.

وقوله (عليه السلام) : (يعلم شيئًا من قضايانا) لا يُراد به العلم بشيء مهما كان قليلاً، فإن علومهم (عليهم السلام)  لا يمكن لأحد الإحاطة بها، فالعالم بالأحكام -مهما بلغ علمه- لا يعلم إلا شيئًا من قضاياهم (عليهم السلام) ، والمراد من مثل ذلك: هو المجتهد العالم بالأحكام، فتدلّ على التنصيب الابتدائي.

 

(وأما قاضي التحكيم ):

فقد استفيد من نفس هذه الصحيحة، حيث ناقش فيها السيد الأستاذ الخوئي (قده)  وربما غيره، وقال بعدم دلالتها على التنصيب الابتدائي، لأن قوله (عليه السلام) : (فإني قد جعلْتُه قاضيًا)، متفرّع على قوله (عليه السلام) : (فاجعلوه بينكم)، وهو القاضي المجعول من قِبَل المتخاصمَيْن، فمن جعله المتخاصمان حَكَمًا فهو الذي جعله الإمام (عليه السلام) ، فتدل على قاضي التحكيم، لأن قوله (عليه السلام) : (اجعلوه بينكم) يعطي معنى الجعْل التشريعي وإعطاء صفة الحاكمية له بعد رضاهما به.

والوجه في ذلك: أنّ قوله (عليه السلام) : (يعلم شيئًا من قضايانا) لا دلالة فيه على اعتبار الاجتهاد، فإن علومهم (عليهم السلام)  وإن لم تكن قابلة للإحاطة بها، إلا أنَّ قضاياهم في موارد الخصومات قابلة للإحاطة بها، لاسيما لمن كان في عهدهم أو كان مثل مَنْ في غيبتهم، فمثل هذا يجوز للمترافعَيْن أن يتحاكما إليه وينفذ حكمه، وإن لم يكن مجتهدًا أو عارفًا بمعظم الأحكام كالقاضي المنصوب.

 

ولذا ذكر السيد الأستاذ (قده) :

 أنه لا يعتبر في قاضي التحكيم الاجتهاد، خلافًا للمشهور، مستندًا إلى إطلاق الآيات والروايات، مثل قوله-تعالى-: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}([1])، وإطلاق مثل صحيحة أبي خديجة (يعلم شيئًا من قضايانا) أي: ولو في باب المنازعات.

 

ويمكن الرد على مناقشة السيد الأستاذ  (قده) من وجهين:

( الوجه الأول ): أنه يمكن استفادة التنصيب الابتدائي منها، لأنه بعد أن نهاهم الإمام (عليه السلام)  عن أن يحاكم بعضهم بعضًا إلى حكام الجور قال: (ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئًا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيًا، فتحاكموا إليه)، فقد ألزمهم بمن عرف شيئًا من قضاياهم مُعلِّلاً بأنه قد جعله قاضيًا.

فقوله (عليه السلام) : (فاجعلوه) و (فإني قد جعلته قاضيًا)، هو حُكْم على موضوع مفروض الوجود، وهو بعد النظر إلى رجل يعلم شيئًا من القضايا، ومعنى ذلك ثبوت التنصيب في مرتبة سابقة، غايته أنه مجعول ابتداءً في خصوص ما يعرفه من مسائل المرافعات، لأن هذه المسائل قابلة للإحاطة بها، فيجوز الترافع إليه وينفذ حكمه.

فإذا دلَّتْ هذه الصحيحة على التنصيب فيمن يعلم شيئًا من قضاياهم في خصوص المرافعات فإنها تدل على التنصيب وإن لم يتراضيا عليه بطريق أولى، فيكون قاضيًا منصوبًا في خصوص هذه المسائل، ولا مانع من تسميته (قاضي تحكيم) إذا تراضى عليه المترافعان.

والفَرْق بينه وبين القاضي المنصوب: أن القاضي المنصوب ابتداءً لو رجع إليه أحد المتخاصمين، فطلب الحاكم من الآخر الحضور وجب عليه الحضور، لأن هذا المنصب ثابت له من قِبَل الإمام (عليه السلام)  لأنه (.. روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا)، فهو إذًا فقيه مجتهد مطلق.

وأما المذكور في صحيحة أبي خديجة فهو (يعلم شيئًا)، وهو مسائل المرافعات كقدر متيقّن، فلو رجع إليه أحد المتخاصمين وطلب القاضي من الآخر الحضور فلا يجب عليه ذلك، لقوله (عليه السلام)  في جعله قاضي تحكيم: (انظروا)، فرجوع أحدهما ونظره لا يكفي، ويدلّ على ذلك صحيحة الحلبي (فيتراضيا في رجل منّا) في مقام سؤال الإمام (عليه السلام) .

( الوجه الثاني ): من الإشكال على القول بعدم اعتبار الاجتهاد:

أنه لا بد في قاضي التحكيم من أن يعلم شيئًا من قضاياهم وأحكامهم، والمقلد ينقل الفتوى ويعلم بأحكام العالم لا بأحكامهم، ولا يصدق عليه أنه يعلم شيئًا من قضاياهم، فلا بد من الاجتهاد، لأن المجتهد علم من طريق رواياتهم وأحاديثهم التي تنقل أحكامهم.

والاستدلال على عدم اعتبار الاجتهاد بإطلاق الآيات والروايات مُسَلَّم، ولكن الإطلاق إنما هو في الحكم بالعدل، وأما من هو الحاكم فلا إطلاق للآيات من هذه الجهة، بل تدلّ الآيات بمعونة الروايات على أن الذي أُمِر أن يحكم بالعدل هو العالم بالعدل الذي تعلمه من محمد وآل محمد صلوات الله عليهم، وأما من هو هذا العالم الذي يحكم، فهو الذي يعلم شيئًا من قضاياهم أو الذي يعرف حلالهم وحرامهم.

والمقلد الناقل للفتوى والعامل بها: لا يسمى عالمًا، ولا عارفًا بأحكامهم، ولا قاضيًا، بل هو ظانّ بالحُكْم، ودليله القطعيّ إنما هو في أصل وجوب التقليد.

بينما المجتهد يعلم بالحكم بعد قيام الدليل القطعي على الحكم، والإمام (عليه السلام)  نصب (العالم) لا (ناقل الحكم).

والحاصل: أن القضاء منصبٌ إلهيٌّ وقضاءٌ بحُكْم الله-تعالى-، فلا يصحّ إلا ممن خوّله الله-تعالى- وهو الإمام (عليه السلام) ، أو من نصبه الإمام (عليه السلام) .

والقاضي بقِسْمَيْه لا ينفذ حُكْمه إلا بإذن الإمام (عليه السلام) ، والإمام (عليه السلام)  لا يأذن إلا لمن عرف أحكام الشريعة بقول مطلق أو مسائل القضاء من مداركها، دون مَنْ عرف تكليفه من قِبَل مرجعه الذي يقلِّده.

وعلى ما ذكرنا: فلا ثمرة لوجود قاضي التحكيم في زمن الغيبة، بعد اشتراط اجتهاده، إلا في حال تراضيهما بالمتجزّي الذي اجتهد في أحكام القضاء، تعبُّدًا بصحيحة أبي خديجة.

وبعد ذلك، لو سلَّمْنا بأن المراد بإطلاق الحُكْم بالعدل هو العدل الواقعي، سواء أكان الحاكم به مجتهدًا أم غير مجتهد، فلا بدّ من تقييد الإطلاقات بالروايات المذكورة، لأن الردَّ إلى الله-تعالى- والرسول وأولي الأمر منحصر في الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، فإذا أَذِنوا لأحد عمومًا أو خصوصًا فهو رجوع إليهم لأنه بإذنهم.

لا أَقَلّ من أن المجتهد هو القدر المتيقَّن للخروج عن الأصل الآنف من عدم نفوذ قضاء القاضي أو ولاية أحد على أحد إلا بدليل، وهذا هو القدر المتيقَّن من الدليل.

نعم لو لم يمكن الرجوع إلى المجتهد، وتوقَّف حِفْظ النِّظام على قضاء غير الفقيه العارف بالأحكام فلا مانع من الرجوع إليه.

والقدر المتيقَّن منه حينئذٍ مَنْ أَذِنَ له المجتهد الجامع للشرائط الذي نصبه الإمام (عليه السلام) ، لأنّ ذلك من الأمور الحِسْبية، أي القُرْبيّة التي يؤتى بها احتسابًا وقُرْبةً إلى الله-تعالى-، لأن المجتهد هو وليّ الأمر فيها.

أما إذا لم يبلغ حدّ الحاجة إلى الإخلال بالنظام فهل يحقّ للفقيه أن يوكِّل من يقوم بالقضاء، على فتواه أو لا؟

وبعبارة أخرى: هل تصِحُّ الوكالة بالقضاء أو لا؟


([1]) النساء: من الآية 58.