ضرورة الحُكْم والحكومة
وقبل الكلام في ولاية الفقيه وما يستفاد من الأدلة، لا بدَّ من بيان ضرورة الحكم والحكومة لكل مجتمع، وخصوصًا المجتمع الإسلامي الذي بُنِيَتْ كل أحكامه وتشريعاته على أساس أنه كيان قائم، ودولة تطبِّق أحكام الله-تعالى- في الأرض.
فنقول:
ضرورة الحُكْم والحكومة
بما أنَّ الدِّين الإسلامي دِين شامل كامل لأنَّ فيه تبيانَ كلِّ شيء بنصِّ القرآن الكريم، فقد باشر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوَّرة تطبيقَ النِّظام الإسلامي الكامل بإقامة الدولة الإسلامية، لأنه أكمل تبليغ الرسالة مع الممارسة العملية كحاكمٍ هو أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، فألّف بين قلوبهم بإذن الله تبارك وتعالى، وعقد بينهم المعاهدات والاتفاقيات، وساوى بين العبيد والأحرار، كما عقد الاتفاقيات مع غير المسلمين، وحارب من نقض العهد منهم.
فكانت الرسالة الإسلامية في عهده كاملة متكاملة شاملة.
وقد علم الله تعالى أنه بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) سوف تفقد الأمة ركنا هو أهم أركانها الإسلامية، فخاطبَه بقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}([1]).
فما هو هذا الشيء الذي أُنزل إليه من ربه-سبحانه- بعد أن كان قد بلّغ كلَّ ما أمره الله-تعالى- بتبليغه، بحيث لو لم يبلّغه لم يبلِّغ الرسالة وإذا بلّغه فإن الله-تعالى- يعصمه من الناس؟
لا شكَّ في أن المأمور به شيء عظيم له دَخْل في مجموع أحكام الرسالة ومبادئها، حيث إن هذه الآية المباركة نزلَتْ في حجّة الوداع بإجماع المفسرين وفي آخر سورة من القرآن الكريم.
وهذا يدلَّ على أن هذا الذي أنزل إليه أَمْرٌ يوازي الرسالة، وهو الولاية لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) بإجماع المؤرِّخين -وإن ناقشوا في تفسير الحديث-، بأنْ جَعَله مثله (صلى الله عليه وآله) أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، لأنه بالإمامة تُصان الشريعة من الضياع والتحريف، ومن الانحراف في العمل والسلوك مادام هذا الإمام (عليه السلام) له صلاحية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حيث قال بعد كلام له (صلى الله عليه وآله) : (ألسْتُ أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهُمَّ بلى، قال (صلى الله عليه وآله) : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله).
لأنَّ الإمام قائم مقام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد رحيله، وبهذا تستمر الرسالة، ومعلوم أنَّ ذلك لا يَتِمّ إلا بإقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بين الناس بالعدل.
ولا يتمكّن من القيام بذلك مع القيمومة على التطبيق إلا إمام معصوم كعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولا بدَّ أن تجتمع فيه خصائصه، من العلم، والشجاعة، والحلم والنزاهة، والعفَّة، والزهد، والتقوى، والصلاح، والخلُق العظيم الذي مدحه به الله-تعالى- قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}([2])، إلى غير ذلك من الصفات المطلوبة، باستثناء الوحي.
وقد وضع الله-عزَّ وجلَّ- قوانين هذه الدولة في نصوص القرآن الكريم بكلِّ أبعادها، فلا تجد قانونًا من قوانين الدول في الأمم السابقة واللاحقة، إلا وقد أشار القرآن الكريم إلى كلِّ مُقَوِّمات تلك القوانين، بإضافة نسبتها إلى الله سبحانه، وإلى العدالة المطلقة على هذه الأرض، مما يميزها على كل دول العالم.
وحيث لا يقدر على تأويل القرآن وتفسيره بأدقِّ معانيه ومطالبه إلا الله تعالى والراسخون في العلم، وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، لذلك جعل الإمامة والولاية لأشخاص، هم القرآن الناطق، ابتداءً من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وانتهاءً بخاتم المعصومين الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه) .
وخاطب المسلمين بحديث الثقلين المتواتر: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبدًا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)([3]).
فالإسلام حكومة، والقرآن دستورها، والإمام (عليه السلام) يفسِّر هذا الدستور، ويقوم على تنفيذه وتطبيقه.
فهو حكومة للفرد في عقيدته وأفعاله وسلوكه، وللمجتمع في داخله، ومن خارج المجتمع الإسلامي، أيًا كان هذا الخارج، سواء أكان خارجًا على الإسلام كالكفار والملحدين، أم خارجًا على نظام الإسلام وإن كان يملك صورة العقيدة.
الحاكم الأول في حكومة الإسلام
والإمام الوليُّ هو الحاكم الأول في هذا الإسلام، ولذلك ورد بأنَّ الأئمة (عليهم السلام) هم القرآن الناطق، بل هم النسخة الأخرى من القرآن العظيم، نسخة حيَّة تجسِّد القرآن الكريم بكل قوانينه وتشريعاته، وبكل المبادئ والقِيَم التي عبَّر عنها القرآن الكريم.
بل نقول: بأن القرآن من خلال توصيفه للإنسان الكامل، قد حكى عن هؤلاء الصفوة حيث جعلهم خلفاء في الأرض.
فقد عَلِم الله-تعالى اسمه- حين ذرأهم قبل الأرواح بما سيكونون عليه، فشرح للناس ذواتهم التي سبقَتْ في علمه، وجميع خصائصهم التي لا يوازيهم فيها أحد من المخلوقِين، ليقتدي بهم كلٌّ بحسب قدرته وكفاءته،كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد)([4]).
فالحكومة أَمْرٌ لازم للإسلام والمسلمين، وقِوامها الحقيقي هو الوليُّ والإمام والحاكم، لأجل ما فيه من تجسيد الإسلام كاملاً غير منقوص، ولما يحمله من العلوم التي يعجز عن إدراكها البشر العاديون.
روى الشيخ الكليني أعلى الله مقامه في الكافي، عن عبد العزيز بن مسلم -والرواية طويلة نذكر منها بعض الفقرات- قال: (كنّا مع الرضا (عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسَّم ثم قال (عليه السلام) :
يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بيَّن فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كُمَلاً، فقال-عزَّ وجلَّ-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍْ}([5])، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله) : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا}([6])، وأَمْرُ الإمامة من تمام الدين.
ولم يمضِ (صلى الله عليه وآله) حتى بيَّن لأمّته معالم دينهم، وأَوْضَحَ لهم سبيلهم، وتركهم على قَصْد سبيل الحق، وأقام لهم عليا (عليه السلام) علمًا وإمامًا، وما ترك شيئًا تحتاج إليه الأمة إلا بيَّنه، فمن زعم أنّ الله-عزَّ وجلَّ- لم يكمل دينه فقد ردَّ كتاب الله، ومن ردَّ كتاب الله فهو كافر به.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلَّها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟!
إنَّ الإمامة أجلُّ قَدْرًا، وأعظم شأنًا، وأعلا مكانًا، وأَمْنَعُ جانبًا، وأَبْعَدُ غورًا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إمامًا باختيارهم.
إنَّ الإمامة خصَّ الله-عزَّ وجلَّ- بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلّة مرتبةً ثالثة، وفضيلةً شرّفه بها، وأشاد بها ذكره، فقال: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، فقال الخليل (عليه السلام) سرورًا بها: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}؟ قال الله تبارك وتعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([7])، فأبطلَتْ هذه الآية إمامةَ كلِّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}([8]) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنًا فقرنًا، حتى ورثها الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال جلَّ وتعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}([9]) فكانت له خاصة، فقلّدها (صلى الله عليه وآله) عليًا (عليه السلام) ، بأمر الله تعالى، على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ}([10]) فهي في ولد عليٍّ (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبيَّ بعد محمد (صلى الله عليه وآله) ، فمِنْ أين يختار هؤلاء الجهال؟!
إنَّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنَّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وميراث الحسن والحسين، إنَّ الإمامة زمام الدِّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزُّ المؤمنين، إنَّ الإمامة أسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي.
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفَيْء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومَنْع الثغور والأطراف.
الإمام يحلّ حلال الله، ويحرِّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبُّ عن دِين الله، ويدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة.
الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى، وأجواز البلدان والقفار، ولجج البحار.
الإمام الماء العذب على الظمأ، والدالّ على الهدى، والمنجي من الرَّدى.
الإمام النار على اليفاع([11])، الحار لمن اصطلى به، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك.
الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة.
الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد([12]).
الإمام أمين الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله.
الإمام المُطهَّر من الذنوب، والمبرّأ عن العيوب، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم، نظام الدِّين، وعزُّ المسلمين، وغَيْظ المنافقين، وبَوَار الكافرين.
الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كلِّه، من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمَنْ ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره ؟!
هيهات هيهات، ضلَّتْ العقول، وتاهَتْ الحلوم، وحارَتْ الألباب، وخسِئَتْ العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيَّرَتْ الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألبَّاء، وكلَّتْ الشعراء، وعجزت الأدباء، وعَيِيَتْ البلغاء، عن وَصْف شأنٍ من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرَّتْ بالعجز والتقصير.
وكيف يُوصَف بكلِّه، أو يُنْعَتُ بكُنْهه، أو يُفْهَم شيء من أَمْرِه، أو يوجَد من يقوم مقامه ويغني غناه ؟ لا، كيف وأنَّى ؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووَصْف الواصفين.
فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجَد مثل هذا؟ أتظنُّون أنَّ ذلك يوجَد في غير آل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ؟! كذَّبَتْهم واللهِ أنفسُهم، ومنَّتْهم الأباطيل، فارتقوْا مرتقًى صعبًا دَحْضًا، تزلُّ عنه إلى الحضيض أقدامهم.
راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضِلَّة، فلم يزدادوا منه إلا بُعْدًا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}([13]) ولقد راموا صعبًا، وقالوا إفكًا، وضلوا ضلالاً بعيدًا، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}([14]).
رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهلِ بَيْتِه إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}([15]) وقال عزَّ وجلَّ:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}([16])، وقال:{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ([17]).
وقال عزَّ وجلَّ:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}([18])، أم طبع الله على قلوبهم فهم لايفقهون؟! أم قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ؟! {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لايَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}([19])، {أم قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}([20])، بل هو {فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([21]).
فكيف لهم باختيار الإمام ؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوصٌ بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونَسْل المطهَّرة البتول، لا مغمز فيه في نَسَبٍ، ولا يدانيه ذو حَسَبٍ، فالبيت من قريش، والذّروة من هاشم، والعترة من الرسول (صلى الله عليه وآله) ، والرِّضى من الله عزَّ وجلَّ، شرف الأشراف، والفرع من عبد مناف، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله-عزَّ وجلَّ-، ناصح لعباد الله، حافظ لدِين الله.
إنَّ الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفِّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحُكْمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان، في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}([22])، وقوله تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}([23])، وقوله في طالوت: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([24])، وقال لنبيِّه (صلى الله عليه وآله) : {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}([25])، وقال في الأئمة من أهل بيت نبيِّه وعترته وذريته (صلى الله عليه وآله) : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}([26]).
وإنَّ العبد إذا اختاره الله عزَّ وجلَّ لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأَوْدع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعيَ بعده بجواب، ولا يحيد فيه عن الصواب، فهو معصومٌ مؤيَّد، موفقٌ مسدَّد، قد أمن من الخطايا والزَّلل والعثار، يخصُّه الله بذلك ليكون حجَّته على عباده، وشاهده على خلقه، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ([27]).
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه، أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيُقَدِّمونه ؟! تعدوا- وبيتِ الله- الحقَّ، ونبذوا {كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}([28])، وفي كتاب الله الهدى والشفاءُ، فنبذوه واتَّبعوا أهواءَهم، فذمَّهم الله ومقَتَهم وأَتْعَسهم فقال جلَّ وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}([29]) وقال:{فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}([30]) وقال: {كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}([31]))([32]).
وليس الغرضُ من التعرُّض لهذه الرواية الاستدلالَ على الإمامة، فإنّا في غنًى عن الاستدلال على هذا الموضوع، بل الغرض من ذِكْرها بيان حاجة الأفراد والمجتمعات إلى الوليِّ الذي يكون بهذه الصفات، وبيان حاجة البشر إلى الحُكْم والحكومة، ولا يمكنهم الاختيار ولا الانتخاب في قبال اختيار الله-تعالى-.
فإنَّ الإنسان المدنيَّ بالطبع، الاجتماعي بالطبع، الذي يملك كلَّ الغرائز التي تدفعه لارتكاب أيِّ شيء، أو اختيار أيِّ شيء في سبيل تنفيذ مآربه وإشباع غرائزه وطموحاته.
هذا الإنسان إذا تُرِك وشأنه ليختار لنفسه، يقع في المهالك لا محالة، وينطبق عليه الوصف القرآني: {... أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}([33])، فلا بدَّ له من حكومة صالحة، وحاكم قادر.
والمجتمع الإنسانيُّ من حيث كونه مجتمعًا، وبغضّ النظر عن خصوص الأفراد، له سِمات وحاجات، وله طابع وصفات، لا يمكن أن يتَّصف بها إذا لم ينضوِ تحت سَقْفِ نظامٍ صالح، ولو من وجهة نظره، ومن الناحية التي يرى أهل هذا المجتمع أنهم يستحقون الاتصاف بها.
فقد عاش الإنسان في العصور القديمة أسير غرائزه التي تعطيه الحرية الكاملة، والتي من شأنها تضييع حقوق الآخرين، فتضيع بالنهاية كلُّ الحقوق.
وعلى مرِّ الزمن كان فيهم العقلاء الذين ينظرون إلى صالحهم، ويتوارثون التعاقد الاجتماعي على وَضْع قوانين خاصَّة، تضع حدًّا للانحراف والفوضى التي تؤدي إلى تفكيك المجتمع وضياع الأفراد، ليتمكَّنوا من ممارسة حياتهم براحة وطمأنينة، ويتوجهوا للذي خُلقوا من أجله وفطرهم الله تعالى عليه، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}([34]).
فلم يتركهم حتى وَضَع لهم القوانين التي يسيرون عليها،{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}([35]).
نعم، الناس في فطرتهم أمة واحدة.
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (وفرض الله تعالى.. والإمامة نظامًا للأمة)([36])، والولاية من شؤون الفطرة، لذلك لا تختص بأمة دون أمة، لأنَّ كلَّ مجموعة على وجه الأرض، صغرَتْ أو كبرَتْ، لا بدَّ أن يعهدوا لواحد منهم لأنْ يقوم بمهامهم الاجتماعية والمرافق العامة وغيرها من الشؤون التي لا بدَّ أن يقوم بها شخص مادام الإنسان مدنيًا بالطبع.
وبما أنَّ الإسلام دِين الفطرة، فهو ينسجم في تخطيطه مع شريعة الفطرة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}([37]).
وتوضيحًا لذلك نقول: إنَّ الكون، بنظامه الدقيق، الدائب، الدائم، الذي لا يستوعبه الإنسان كما لا يستوعب دقائق ذاته، هذا النِّظام الكونيُّ يربط جميع أجزائه ببعضها، من أصغر ذرة إلى أكبر الأجرام الكونية، يربطها في انقياده للتأثيرات والانفعالات نتيجة التفاعل والدوام دوام النِّظام الواحد.
والإنسان أحد مفردات هذا الكون، يتأثر قَهْرًا بمظاهر الكون ومعطياته وسلبياته في عملية سَيْر متواصلة للتطور والكمال، وتتكامل فيه الظواهر الكونية بنسبة ثابتة ليصل إلى النضوج الطبيعي والكمال المطلوب.
وبما أنه وحده مالك العقل في هذا الكون، ولا نعرف غيره لحدّ الآن، لذا يجب عليه أن يستوحي من الكون ذاته، الذي خُلق بكل ظواهره لأجل الإنسان -كما ذكرَتْ الآيات القرآنية الكريمة-.
فالكون يسير بنظام قهري قسري، والإنسان بوجوده التكوينيِّ أسير هذه المسيرة، والوليّ الحاكم في هذا الكون وهذه المسيرة، هو الله-تبارك وتعالى-.
بينما الإنسان في ضِمْن النِّظام، يتكامل عن طريق الوعي والتفكير والإرادة، وكلها موجودات كونية، لأجل أن يلائم بين نفسه كفرد وبين الكون، فلا بدَّ أن تتمثل لديه الهداية التكونية في المعرفة الإنسانية، لأنَّ {..فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}([38]).
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}([39]).
فنواميس الكون التي يعيشها الإنسان تتبع الكون ذاته، فلا يصلح له ما يشذّ عن نظام الكون لأنه يخالف فطرته الكونية.
ونظام الكون ثابت موحَّد، فنظام الإنسان يجب أن يكون ثابتا في حياته الاجتماعية كما الفردية.
فإذا كان نظام الكون حقًا، والفطرة الكونية كذلك، فنظام الإنسان يجب أن يكون حقًا، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال، فلا انجراف مع الهوى لأنه خلاف النظام الكوني وصِدام بنظام الفطرة الكونية.
فالإسلام يعتمد الفطرة، لأنه أَمَر قائلاً: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}([40])، ومن الأمور الفطرية حاجة الإنسان للولاية والحُكْم، لذلك قام النبي (صلى الله عليه وآله) بمهام هذه الولاية، ولأجل ذلك عبَّر القرآن الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ}([41])، لأنه سنَّ سُنَّة ووَضَع قانونًا وهو الولاية، فيجب الإبقاء عليه، وإلا فقد انقلبوا على الأعقاب.
فيجب المحافظة على النظام الذي فعله وقاله الرسول (صلى الله عليه وآله) ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([42]).
وقد بعث الله-تعالى- النبيين لإصلاح شؤونهم وتلبية حاجاتهم التي أَشَرْنا إليها، فكانت تلك النبوّات المقدَّسة تأتي بالقوانين والشرائع والمواعظ والإرشاد إلى طاعة الله-سبحانه-، امتدادًا لنبوة نبيِّ سابق وتمهيدًا لنبيٍّ لاحِق.
وتكاملت رسالات السماء إلى البشر، وخُتِمَتْ برسالة خاتم النبيين وسيِّد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) ، بعد أن وصل البشر إلى المستوى الذي علم الله-تبارك وتعالى- أنهم على مرِّ العصور سوف يستوعبون هذه الرسالة، لأنها شملَتْ جميع العنصريات والقوميات والعقليات والنفسيات، وكلَّ ما كانت له أصالة ودخالة في حياة البشر.
فكانت -كما قلنا- رسالة كاملة شاملة أبدية، لا يستغني عنها البشر، ولا يرضى الله-تعالى- بالتخلِّي عنها، لأنه أخذ على نفسه تطبيقَها كاملة قبل زوال الدنيا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}([43]).
فالاستخلاف في الأرض، وتمكين الدِّين الذي ارتضى لهم، يعني بوضوح أن يملأ الله-تعالى- الأرض قِسْطًا بعد ما مُلئَتْ ظلمًا وجَوْرًا، على يد خاتم الأوصياء، وآخر المعصومين الحجة بن الحسن المنتظر (عجل الله فرجه) .
ولقد بدأ بعمله الذي ادَّخره الله-تعالى- له من حين ولادته الشريفة، ورسم للأمة قوانين الحكم والحكومة وكيفية تطبيق أحكام الله-تعالى- في البشر وعلى البشر.
ولا تحتاج هذه الحكومة من الناحية التشريعية إلى قوانين جديدة، وإنما تحتاج إلى أسباب وأساليب للتطبيق والممارسة.
وقد تعرَّض القرآن الكريم لحكايات الأمم السابقة، وقصص الأنبياء (عليهم السلام) الذين تعاقبوا عليهم، وما أرادوه منهم، وما آل إليه أَمْرُ كلِّ فريق منهم.
وتعرَّض القرآن الكريم أيضًا للتشريع الإسلامي بالنَّحْو الذي يعطي الصورة الكاملة لحكومة إسلامية كاملة شاملة في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات والاقتصاد وسياسة الأمة في داخلها وخارجها، وقد أرشد إلى الأسس والأساليب الكلية لكيفية التعامل، بما ينطبق على مختلف الحالات من حيث الأمكنة والأزمنة والأشخاص، ومن حيث الحاكم والمحكوم، وأشار إلى نبذة في كيفية الممارسة والتطبيق من قِبل المنفِّذ الأكمل والمربِّي الأوَّل والرسول الأعظم: محمد (صلى الله عليه وآله) ، ثم أمر بإطاعته، وإطاعة أوليائه (عليهم السلام) .
وهذا الذي ذكرناه من ضرورة الدولة لكلِّ أمة، مما أجمع عليه عقلاء العالم في شؤونهم الدنيوية.
الأدلة على ضرورة الحكومة
ويستدل لضرورة الحكومة في الإسلام -بالإضافة إلى السيرة العقلائية-: بالعقل، لأنه لو لم يكن هناك دليل، فإنَّ المدرَكات العقلية المستقلَّة من حُسْن العدل وقُبْح الظلم متوفِّرة، وكذلك ضرورة المحافظة على النِّظام وعدم اختلاله، فإنه أيضًا من الأحكام العقلية، وهو مطلوب من الناحية الشرعية.
لذلك يمكن، بالإضافة إلى الضرورة الشرعية بوجود حكومة في كلِّ المجتمعات وفي المجتمع الإسلامي، الاستدلالُ المنطقي على وجوب الحكومة في مورد المستقلِّات العقلية وفي مورد غير المستقلات.
وتوضيح ذلك: أنَّ الدليل العقلي من أهم الأدلة الأربعة لإثبات أصل الشريعة.
وثبوتُ الحكم الشرعي والقطعُ به:
تارةً: يستقلُّ بإدراكه العقل النظري، وهو الذي يدرك الأمور التي لها واقع في أنفسها من علوم ومعارف.
وأخرى: لا يستقلّ العقل النظري بإدراكها إلا بمعونة العقل العملي الذي يدرك ما ينبغي فِعْله من حيث هو، لِما فيه من المصلحة أو المنفعة أو الحُسْن، فإذا أدرك العقل العملي حُسْنَ شيء، يكون هذا الإدراك صغرى لقضية كبرى هي إدراك العقل النظري للملازمة بين ما أدرك العقل العملي حُسْنَه وبين الحكم الشرعي، فإذا تمَّتْ هذه الملازمة، فتترتَّب النتيجة -لا محالة-.
وهذه الكبرى -وهي إدراك العقل النظري للملازمة-، هي الكبرى في موارد المستقلِّات العقلية، ولذلك يمكن الاستدلال على لزوم الحكومة العادلة في كِلا الموردَيْن:
فنقول في غير المستقلات مثلاً: إن إقامة الدولة، وحِفْظ النظام، وقَلْع مادَّة الفساد، والإصلاح بين الناس، وتسهيل أمورهم.. كل واحدة من هذه الأمور، مجتمِعة ومنفرِدة، واجبة شرعًا بأدلَّتها الفقهية: وكل واجب تجب مقدماته، فتجب مقدمات هذه الأمور.
ومعلوم أن مقدِّماتها متوقِّفة حَصْرًا على الحكومة الصالحة والحاكم العادل، فينتج: وجوب قيام الحكومة العادلة.
وكذلك الاستدلال في المستقلات، فيقال: أدرك العقلاء كافّة مَدْحَ قيامِ حكومةٍ عادلة، فإنه حَسَن ذاتا لأنه عَدْل، والعقل لا يدرك حُسْنا ذاتيًا إلا العدل، وجميع ما ذُكِر هو من مصاديق العدل، وكلُّ ما كان كذلك فالعقل النظري يدرك لزومَ حُكْمِ الشارع على طِبْقه، فيحكم الشارع بوجوب إقامة الحكومة العادلة.
هذا مع العلم بأنَّ المراد بالدليل العقلي المقابلِ للكتاب والسُّنة: هو كلُّ حُكْم للعقل يوجِب القطع بالحكم الشرعي، وذلك منحصِر بحُكْم العقل النظري بالملازمة في غير المستقلات، أو حُكْمه بالملازمة ووجوب مطابقة حكم الله-تعالى- لِما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة كما في المستقلات، فإنَّ هذه الملازمة لها واقع، يدركها العقل النظري بالبداهة أو بالكَسْب، لأنَّ الله -تعالى- لا يحكم بغير المعقول، أو بما ليس بمحمود من قِبل العقلاء بما هم عقلاء، فإذا قَطَع العقلُ بالملازمة، يقطع بثبوت اللازم وهو الحُكْم الشرعي.
([1]) المائدة :67 .
([2]) سورة القلم : 4 .
([3]) الوسائل ب5 من أبواب صفات القاضي ح9.
([4]) خطب نهج البلاغة - الشيخ محمد عبده - دار المعرفة : خطبة رقم45.
([5]) سورة الأنعام : 38 .
([6]) سورة المائدة : 3 .
([7]) سورة البقرة : 124 .
([8]) سورة الأنبياء : 72- 73 .
([9]) سورة آل عمران : 68 .
([10]) سورة الروم : 56 .
([11]) اليفاع : المشرف من الأرض والجبل - لسان العرب .
([12]) النآد : الداهية، والداهية النآد : نعت أو بدل - لسان العرب.
([13]) سورة التوبة : 30 .
([14]) سورة العنكبوت : 38 .
([15]) سورة القصص : 68 .
([16]) سورة الأحزاب : 36 .
([17]) سورة القلم : 36-41 .
([18]) سورة النساء : 82 .
([19]) سورة الأنفال : 21-23 .
([20]) سورة البقرة : 93 .
([21]) الجمعة : 4 .
([22]) يونس : 35 .
([23]) البقرة : 269 .
([24]) البقرة : 247 .
([25]) النساء : 113 .
([26]) النساء : 54- 55 .
([27]) الحديد : 21 ؛ الجمعة : 4.
([28]) البقرة : 101 .
([29]) القصص : 50 .
([30]) محمّد : 8 .
([31]) غافر : 35 .
([32]) أصول الكافي 1/ 198 .
([33]) الأعراف : من الآية 179.
([34]) الروم : من الآية30 .
([35]) البقرة : من الآية 213 .
([36]) بحار الأنوار 6/111 .
([37]) الروم :30 .
([38]) سورة البقرة : من الآية 164 .
([39]) سورة آل عمران:190-191
([40]) سورة الروم : من الآية 30 .
([41]) آل عمران : من الآية 144 .
([42]) الحشر : من الآية 7 .
([43]) النور : 55 .