الأمر الثاني: عدم سقوطه في زمن الغَيْبة

لا إشكال في أنَّ وجوبَ الجهاد مشروطٌ بوجود الإمام وإذْنه حال حضوره.

ولا كلام لنا في ذلك في ما مضى وفي ما يأتي من قِبَل المعصومين (عليهم السلام) ، فإنهم أَعْرف بما يفعلون وبما يريده الله-تعالى-.

وإنما الكلام في أنه: هل هو مشروع في زمن الغَيْبة أو لا؟

وعلى تقدير  المشروعية -كما هو الصحيح-، فهل هو واجب ابتداء ودفاعًا، أو يجب دفاعًا فقط؟

ذكر صاحب الجواهر قده) كلمات بعض الفقهاء المختلفة في عدم مشروعيته، وعدم الاكتفاء فيها بنائب الغَيْبة الذي هو الفقيه، ونقل عن بعضهم دعوى الإجماع على ذلك.

ولكنَّ هذا الإجماع غير تامّ، إذ لم يتعرَّض لهذه المسألة جماعة من الأصحاب.

ولكنه لا ينبغي الإشكال في مشروعيته لأنه من أَهَمِّ الأركان التي بُني عليها الإسلام.

وتخصيص هذا الحكم بزمان موقَّت -وهو زمان حضور المعصوم-، لا ينسجم مع اهتمام القرآن والأوامر في الآيات الكريمة بالجهاد، وبدونه لا يستقيم أَمْر الإسلام، فهو واجب إذا اجتمعَتْ الشرائط التي من أهمها المحافظة على مبادئ الإسلام والقرآن من كَيْد الكافرين والظالمين.

وبعد الَجْزم بمشروعيته ووجوبه إذا دَعَتْ الحاجة إلى نَشْر الإسلام أو الحفاظ عليه، فهل يشترَط إذْن الإمام (عليه السلام) أو لا؟

وهذا خارج عن محل الكلام، وإنما نتعرض لذلك، لأن الذي يقول باشتراط إذن الإمام لا يقول بمشروعيته في زمن الغيبة إلا دفاعًا عن الإسلام.

مع أن الدفاع لا يسمى جهادًا بالمعنى الأخص، وإنما يجب على كلِّ مسلم الدفاع عن دين الإسلام إذا كان في خطر ؛ بلا فرق بين زمن الحضور وزمن الغيبة، فلا يُشْترَط إذْن الإمام في حضوره، فضْلاً عن زمن الغَيْبة.

وإذا قُتِل المدافع يجري عليه حُكْم الشهيد، لأنه في سبيل الله-تعالى-، ففي صحيحة أبان قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الذي يقتل في سبيل الله يُدْفَنُ في ثيابه ولا يُغَسَّل إلا أَنْ يدركه المسلمون وبه رَمَق ثم يموت..)([1]).

والحاصل: أنَّ الجهاد الدفاعي هو قتال مَنْ داهم المسلمين، فيجاهدونه للدفاع عن حوزة الإسلام، وأرض المسلمين، ونفوسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وعقائدهم.

ويكفي في الدلالة على عدم الاستئذان قوله-تعالى-:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه}([2]).

والحاصل: أَنَّ الكلام في الجهاد لا في الدفاع، فهل يشترط فيه إذْن الفقيه في عصر الغيبة أو لا؟

وقد ادُّعيَتْ الشُّهْرة على اشتراط إذْن الإمام.

ولا دليل على هذه الشهرة إلا أخبار غير صحيحة، مع معارضتها بعموم آيات الجهاد وكَثْرتها وعدم اختصاصها بزمن الحضور أو بوَقْت خاصٍّ.

وما دلَّ على اعتبار إذْن الإمام -لو صحّ سندها-، لا تدلُّ على عدم مشروعيته في زمن الغَيْبة، لأنها إما في مقام حُرْمة القتال بغير إذْن الإمام حال حضوره، وإما تدل على حكم موقَّت بحسب الظرْف الذي سُئل فيه، وعمدتها روايتان:

الرواية الأولى: رواية سويد القلاَّء عن بشير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلْتُ له: إني رأيت في المنام أني قلْتُ لك إنَّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام، مثل الميتة ولحم الخنزير،فقُلْتَ لي: نعم، هو كذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : هو كذلك هو كذلك)([3]).

فإنَّ الظاهر منها، بمناسبة الحكم والموضوع، الحرمة بدون إذنه حال حضوره، ولا تدل على الحرمة بدون حضوره.

مع أنَّ الرواية غير سليمة السند، لأنه لا يمكن إحراز أن (بشير) الذي روى عنه (سويد) هو (بشير الدهان)، لأنَّ المسمى بهذا الاسم متعدد في طبقته، ورواية (سويد) عنه في مورد، لا تدل على أن المراد منه هنا هو (بشير الدهان).

هكذا ذكر السيد الأستاذ قده) ، وفيه مناقشة.

وعلى أية حال هي غير تامَّة الدلالة على المدَّعى.

الرواية الثانية: رواية عبد الله بن المغيرة، قال محمد بن عبد الله للرضا (عليه السلام) وأنا أسمع: (حدثني أبي عن أهل بيته عن آبائه أنه قال له بعضهم: إنَّ في بلادنا موضع رباطٍ يُقال له قزوينُ، وعدوًا يقال له الدَّيْلَم، فهل من جهاد أو هل من رباط؟ فقال (عليه السلام) : عليكم بهذا البيت فحُجُّوه، فأعاد عليه الحديث فقال (عليه السلام) : عليكم بهذا البيت فحُجُّوه أَمَا يرضى أحدكم أَنْ يكون في بَيته، يُنْفق على عياله من طَوْله، يَنْتظر أَمْرنا، فإنْ أدركه كان كمن شَهِدَ مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بَدْرًا، وإنْ مات ينتظر أَمْرنا كان كَمَنْ كان مع قائمنا صلوات الله عليه..)([4])

وهذه أيضًا في مقام بيان الحكم المؤقَّت، ولم يكن في الجهاد والمرابطة في ذلك الوقت مصلحة، لأنه ذَكَر الرباط تلو الجهاد، مع أنه لا شُبْهة في عدم توقُّفه على إذْن الإمام وثبوته في زمان الغَيْبة فالجهاد مثله.

ويؤكِّد ما ذكرنا جوازُ  أَخْذ الجِزْية في زمن الغيبة إذا قبلوا بذلك، مع أنَّ الجِزْية إنما هي مقابل تَرْك القتال، فلو لم يكن القتال معهم مشروعًا في زمن الغَيْبة لم يَجُزْ أَخْذُ الجِزْية منهم.

فالجهاد في عصر الغَيْبة ثابت، وهو مَنُوط بتشخيص المسلمين من ذوي الخبرة في الموضوع، وإنَّ في الجهاد مصلحة عائدة للإسلام والمسلمين بإعلاء الكلمة، ودَفْع الشبهات، واحتمال الغلبة العقلائية، مع سبق الدعوة والجدال بالتي هي أحسن، والإرشاد إلى الحق، والتفاوض، فإن قبلوا وإلا قوتلوا، ويجوز أثناء الدعوة أن يجعل له الأمان على نفسه أو ماله أو عرضه برجاء أن يقبل الإسلام وكلمة الحق، فإنْ قَبِل فهو، وإلا فحيث أُعْطي الأمان يرد إلى مأمنه لقوله-تعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}([5]).

هل يشترط إذن الفقيه في الجهاد:

ولا يهمُّنا في محلِّ الكلام التعرُّض لبقيَّة الأحكام في هذه الفروع، لأنَّ محلَّ الكلام هو الولاية واشتراط إذْن الفقيه.

ويظهر من صاحب الجواهرSوغيره، اعتبار إذْن الفقيه الجامع للشرائط، لأنه هو الذي يفحص ويشاور ويقلِّب الأمور ويرجِّح على ضوء اطِّلاعاته الأمينة، ويطَّلع بشكل مجمل على عُدَّة العدو وعدده، ثم يقرِّر الحرب.

واشتراط إذْنه إمّا بالولاية التي استظهرناها من الأدلة، وإمّا من باب الحِسْبة والقُرْبة، لأنَّ هذا الأمر مما لا يرضى الله-تعالى- بتَرْكه، وقيامُ المسلمين به، بلا قائد ينفِّذون أَمْره ولا يشكُّون به، يستلزم الفوضى واختلال أَمْن بلاد الإسلام. 


([1]) الوسائل ج2 باب 14من أبواب  غسل الميت ح7، ومثلها غيرها .

([2]) الحج: 39-40  .

([3]) الوسائل ج15 باب 12من أبواب جهاد العدو ح 1 .

([4]) الوسائل ج15 باب 12من أبواب جهاد العدو ح 5 .

([5]) التوبة :6 .