الأمر الثالث: ولاية الفقيه على الأَمْر بالمَعْروف والنَّهْي عن المُنْكَر
بما أنَّ الحكومات الإسلامية تقوم في المجتمعات التي يغلب على شَعْبها الطابع الإسلامي، ويكون دين الدَّولة فيها هو الإسلام، فإنَّ هذه الحكومات في الأغلب تتعامل على أساس قوانين وَضْعية يُدعى بأنها مما يريدها الإسلام، وأنَّ المصلحة العامة تقتضيها، مع أنه لا يعرف مَصْلحة البشر إلا خالقهم،{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير})[1](.
لذلك اهتمَّ التشريع الإسلامي بكلِّ شؤون الإنسان، في جميع حاجاته، وما يُصْلِحه في دنياه وآخرته، وَبَيَّنَ له ما يُوجِب سعادته في جميع مراحل حياته، وما هو صالح له من حين انعقاد نطفته إلى أن يوضع في لَحْده المقرِّ النهائي في هذه الدنيا، لتبدأ بعد ذلك حياته الحقيقة الأبدية الخالدة.
الإسلام دِين ودولة وعقيدة، يَنْبثق عنها نظام متكامل يقوم على أساس تلك العقيدة، ليكون هذا النظام بعنوانه وجَوْهره، نظامًا لخير أُمَّة أُخْرِجَتْ للناس من خلال تجسيد الأمة لهذا النظام من جهة، وقيامها بنَشْره وإرشاد سائر الأمم إليه بفريضة الأَمْر بالمعروف والنَّهْي عن المنْكَر في داخل الأمة وخارجها من جهة أخرى.
فبالنسبة لسائر الأمم، يدعو المسلم إلى سبيل ربِّه بالحِكْمة والمَوْعظة الحَسَنة، ويجادلهم بالتي هي أَحْسَن {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}([2])، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}([3])، و{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين}([4]) الذي يعني التَّديُّن بشيء والاعتقاد به، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}([5]).
فإذا حصل عند المسلمين خَوْف من عدوٍّ كافر، أو ضالٍّ، أو باغٍ على دِينِهم وأَنْفسِهم وأموالهم وأَعْراضِهم وأراضِيهم، قاموا بفريضة الجهاد على النَّحْو الذي أَنَفَتْ الإشارة إليه، تحت (ولاية وليِّ الأمر)، أي الوليِّ الفقيه الذي نصَّبه الإمام المعصوم (عليه السلام) .
ففريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أُولى الولايات في ولاية الفقيه، لأنها الأساس والبداية للتَّشريع الإسلامي بأُصوله وفروعه في ظلِّ الدَّولة الإسلامية التي يقودها الوليُّ الفقيه، بعد استجماع الشروط التي يراها ويُؤَدِّي نَظَرُه المُخْلِص الدَّقيق إليها، أو في ظلِّ دولة إسلامية تنسجم مع ما يريده الفقيه الوليُّ من المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، فيما بينهم، وفي تعاملهم مع سائر الأُمَم من جميع الجِهات المطلوبة،كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مراسلة الملوك والأُمَراء في البلاد، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وينشر مبادئه وتشريعاته قبل الغزْو، عندما تدعو الحاجة إليه.
وأما فريضة الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر في داخل الأمَّة الإسلامية، فهي تتمثل بتعليم الأحكام بعد تأسيس العقائد ورسوخها في النُّفوس، ثم بالدَّعوة إلى تطبيقها بالوَعْظ والإرشاد، ثم تنفيذها بالقوَّة والإجبار.
والذي له الولاية على التَّطبيق القَهْري، هو نفسه الذي له الولاية على الإفتاء والحُكْم والقضاء، إذ ليس معنى الحاكم والقاضي إلا ذلك.
([1]) الملك :14 .
([2]) يونس: من الآية108
([3]) فصلت: من الآية46
([4]) البقرة: من الآية256
([5]) البقرة: من الآية256