كيفية جَعْل الولاية للفقيه

بعد الفراغ عن أن البحث العلمي لا يضرُّ بالوحدة والأخوَّة الصادقة بين المؤمنين، ولا بوحدة الهدف، لأنّ الهدف من الأبحاث العلمية هو التركيز والتكريس للوحدة في العقيدة والسلوك، لذا لا يكون البحث العلمي سببًا للتباعُد ومحاولة الوقيعة والرّصد من أحد الطرفين للآخر.

مع أنّ كلَّ واحد من أطراف النزاع العلمي لا يدَّعي العصمة، وإنما يناقش ويجادل بالتي هي أحسن لأجل الوصول إلى النتائج الصحيحة.

وعلى هذا الأساس، نرى في فتاوى الفقهاء مسائلَ الاحتياط، التي تعني بالدقة: أنَّ الفقيهَ لم يتمكَّن من الوصول إلى واقع الحُكْم الشرعي الذي هو حجَّة في حقِّ المكلَّفِين، ولم يطمَئِنّ بنتيجة نهائية، فهو يجهل الواقع الشرعي مع شدَّة فَحْصِه وبَذْلِ جهْده.

في حين نجد أنَّ المفتي الآخر يفتي بهذا الحكم عن قناعة واطمئنان بعد بَذْل الجهْد.

فليس بينهما خلاف في الهدف -وهو طاعة الله تعالى والبُعْد عن سَخَطِه- بل يستعين أحدهما بالآخر، واللاحق بالسابق، للوصول إلى أحكام الشريعة التي يريدها الله-عزَّ وجلَّ- من العباد، كلٌّ حسب تكليفه.

وبعد ذلك، لا بدَّ من الكلام في الفقيه الذي له الحق في جواز التصرف، ولايةً، أو حِسْبةً وقُرْبةً، في كل ما يحتاج فيه إلى التصرُّف، عدا المكلفين الذين لهم الولاية بأشخاصهم على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، فإنَّ هذه الشؤون الخاصة بالأفراد الذين لهم صلاحية التصرُّف، ولهم الولاية على أنفسهم وأموالهم، لا يحتاجون إلى أكثر من الحكم الشرعي الذي يصدر من المفتي.

نعم، العصيان في أي شأن من شؤونه الخاصة، تنطبق في حقه قواعد الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنْكَر.

 

فمن هو هذا الفقيه من بين الفقهاء:

هل هو جميع الفقهاء على نحو الاستغراق والعموم، بمعنى: أنه يجوز لكل واحد منهم بانفراده استعمال ولايته؟

أو هو مجموع الفقهاء على نحو الوجوب الكفائي، فإذا تركوا جميعًا عصَوا وإذا قام به واحد سَقَط الواجب عن الآخرِين؟

أو هو العموم المجموعي، بمعنى: إطباق المجموع على إعمال الولاية ولو من قِبَل شخص واحد، في قضية أو في مجموعة قضايا؟

أو أن الولاية لواحد منهم فقط؟

 

أما كَوْن المنصوب شخصًا واحدًا:

فهو باطل بلا إشكال، إذ ما هو الطريق لتعيينه غير اختيار الفقهاء له فإذا اختاروه يعيَّن!

ولكن الحق الثابت لهم هو إعمال ولايتهم، لا اختيار آخر، إذ ربما  يخالفهم في الرأي.

والاختيار من الفقهاء إنما يصِحُّ في مقام تمييز الأعلم للتقليد، والأعلمية ليسَتْ شَرْطًا في الولاية.

 

وأما العموم المجموعي:

فهو خلاف سيرة العقلاء، إذ معنى العموم المجموعي أن يتَّفق الكل على رأي واحد، وهذا نادر الحصول إلا في المسَلَّمات الفقهية، مع أنهم قد يختلفون في الكيفية، والمشرِّع العالِم بذلك لا يمكن أن يجعل الولاية على هذا النحو، من جهة أنه لا يترتَّب عليه الأثر المرغوب للشارع، على أنه على خلاف سيرة العقلاء في مثل هذه الأمور.

وأما الوجوب الكفائي بحيث لو تصدَّى واحد سقط عن الباقين:

فهذا يعني أنه يجب عليهم الإطاعة في الحكم، لأن حُكْمه نافذ حسب الفرض، فإذا لم يذعنوا، تقع الفوضى.

ولا معنى لهذا الجعل، لأن أهلية كلٍّ منهم أمر واقعي، فلا معنى لإلغائه كفايةً.

كما لا معنى للجعْل الكفائي بمعنى أن ولايته تسقط عند ولاية الآخر، فإن الحكم الكفائي: معناه وجوب مجعول على كافة المكلفين، فالخصوصية الكفائية في نفس الجعل على المكلف، لا فيمن جعل له الحكم، ولا في نفس المجعول -أعني الولاية للمجتهد-، فإن الولاية للمجتهد موجودة واقعاً، والولاية بمقتضى الجعل من لوازم الاجتهاد، فالولاية للفقيه لا عليه، فلا تتصور فيها الكفائية بالنسبة له، لأنه مجتهد واقعاً، اجتهد غيره أم لم يجتهد، ووليٌّ واقعاً، ثبتت الولاية لغيره أم لم تثبت.

على أن لسان الجعل لا يتحمل هذا المعنى ولا يحتمله.

 

وأما الجَعْل للجميع بنَحْو الاستغراق:

فقد يقال: بأنه قبيح، لاختلاف الأنظار في الاستنباط وتشخيص  الحوادث التي يبتلي الأفراد والمجتمع بها، لا سيما الأمور العامة، فلَوْ تصدَّى كل واحد للولاية لإعمال رَأْيه، لَزِم الهرج والمرج ونقض الغرض، فيختلّ النظام العام الإسلامي.

مع أن حفْظ النظام هدف أساسي من جعْل الولاية والسلطة وتوحيد الكلمة، فالولاية كالإمامة، نظام للأمة، ومع التعدد لا يستقر النظام، لا سيما في الأمور العامة كالحرب، والصلح مع الدول والأمم الأخرى والمناطق الإسلامية المختلفة، فإنَّ الجَعْل للجميع، مع كون كل واحد منهم تجب إطاعته في حُكْمِه، خلاف الحِكْمة والمصلحة.

وقد ورد في صحيحة الحسين بن أبي العلاء: (قلْتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال (عليه السلام) : لا، قلْتُ: يكون إمامان؟ قال (عليه السلام) : لا، إلا وأحدهما صامت)([1])، وفي بعض الروايات (إلا أن يكون أحدهما صامتًا مأمومًا لصاحبه والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه..الحديث)([2]).

ويستطرد من يطرح هذه الشبهة: بأنه لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام)  يتدخل في الأمور الولائية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله)  إلا بإذنه، وكذلك الحسين (عليه السلام)  في زمن الحسن (عليه السلام) ، مع ما عليه هؤلاء من العظمة والقداسة.

فإذا لم تصحّ لإمامين معصومين، فكيف تصحّ لمجموعة فقهاء في عصر واحد على أمة واحدة؟! فإنه إذا سكت أحدهم عن الآخر جاز للكل -حسب الفَرْض- أن يسكتوا، فتُعَطَّل الحقوق والأحكام والفرائض!

وإذا لم يجز -كما هو المفروض في ولايةِ كلِّ واحد منهم- وقع المحذور!

نعم، لا يقع هذا المحذور في الأمور الجزئية والولايات الخاصة، ولكنه يقع حين التصدِّي لأمور المسلمين المهمَّة في كلِّ بلدانهم، فإنَّ تعدُّد مركز القرار في مثل ذلك مضرٌّ بلا إشكال!!

 

وبناء على هذه الشبهات:

يتعيَّن على هذا الرأي -بعد فَرْض تحقُّق النَّصْب- أن يقال: إن الإمام لم ينصّب الفقيه تنصيبًا فعليّاً، وإنما جَعَله أهلًا للولاية وأَصْلحَ من غيره، ولا يكون وليًّا فِعْلًا إلا إذا انتخَبَتْه الأمَّة، فلا يبقى هرج ومرج، من غير فَرْق بين خطير الأمور وصغيرها، ولا يجوز للآخرين مخالفته بعد دَعْم الأمة له، والروايات لا تدل على أكثر من الصلاحية، ولا تدل على الفعلية، وإنما تكون فِعْليةً بالانتخاب.

وبعد بيان هذه الشبهات التي وُصِفَتْ بأنها ثبوتية، وأن الدليل الإثباتي اللفظي لا ينفع، لأنه لا يمكن حَمْله على واحد من المحتمَلات الآنفة، فلو وُجِد -وقد وُجِد- فلا بدّ من تأويله، وقد أَوّله بالانتخاب وأنه يعطي للفقيه فِعْلية الولاية.

 

بعد هذا نقول لتوضيح الجواب عن هذه الشبهة:

بأنَّ الموضوع الذي جُعِلَتْ له الولاية هو (الفقيه)، ولم تُجْعل له هذه الولاية على نحو صِرْف الوجود الذي يتحقَّق بفقيه واحد، فإنَّ هذا لا معنى له، بل جُعِلَتْ الولاية للفقيه على نحو مُطلَق الوجود الساري الشامل لكلِّ فقيه، بمعنى أنه إذا وُجِد فقيه بالفعل انطبقَتْ عليه الولاية المجعولة، فهو وليٌّ فِعْلًا.

وعلى هذا فلا وجود لتلك الاحتمالات الثبوتية التي قيل بأنها كلها ممنوعة، لأن جَعْل الولاية هو لطبيعيّ الفقيه على نحْو مطلَق الوجود، أي الوجود الساري في كل فقيه، ولا تتأتّى فيه هذه الاحتمالات.

وأما كيفية ولايته، وآثارها الشرعية، ومقدار ولايته، فهي راجعة إلى الحكم الشرعي المترتِّب عليه وعلى المكلفين.

أما بالنسبة إلى الفقيه: فيجب عليه القيام بوظيفته الولائية مثلما يجب عليه الإفتاء، وذلك واجب على كل فقيه جمع الشرائط، إذا تعرَّض لسؤال أو مراجعة في موضوع له حُكْم معيَّن بنظره.

ولا معنى لطَرْح احتمال أن الوجوب: على الواحد، أو الكل المتفرِّق، أو المجموع، أو على الكفاية، فإنه واجب عينيّ تعييني على كل فقيه بمقتضى الجعْل المذكور.

فلو فَرَضْنا أنه عُرِضَتْ مجموعة قضايا متفرِّقة على فقهاء عصر واحد، فإنه يجب على كلِّ واحد منهم أن يفتي وأن يقضي وأن يحكم في المسألة التي تُعْرَض عليه بلا نَظَرٍ إلى الآخر أو استشارته، لا مجموعًا ولا كفايةً.

وهذا في القضايا المنفردة واضح بالنسبة إلى تكليف الوليِّ الذي جُعِلَتْ له الولاية.

وأما بالنسبة إلى المكلَّف غير الوليِّ فإنه يجب عليه الأَخْذُ بفتواه إنْ كان يقلِّده، والرضوخُ لحُكْمه في القضاء، وأيُّ واحد من المكلَّفين اختار قاضيًا ليس عليه أن ينظر إلى تلك العناوين (البعض أو الكل)، بل إلى واحد من مصاديق الطبيعة، فالإمام قد أَرْجعه إلى أي واحد منهم.

وهذا كله في القضايا التي تُعْرَض عليه من قِبَل السائل أو المترافعَيْن-مهما كان نوع الترافع-، أو فيما يطَّلِع عليه من أمور القاصرين الذين لا وليَّ لهم، أو في الأملاك العامة والمرافق والأوقاف والأموال التي لا وليَّ لها، ولا بدَّ من القيام بشؤونها وتوجيهها إلى جهاتها المشروعة.

فهذه الأمور كلها يتولَّاها الفقيه، إما بعد الرجوع إليه، وإما ابتداء إذا اقتضَتْ المصلحة ذلك، أو كان في تَرْكها مفسدة، وتضييع للحقوق أو إهمالها، أو ظُلْم للآخرين.

ولا ولاية له على الأشخاص، ولا على أموالهم وأعراضهم، لا ابتداءً، ولا إذا رأى المصلحة في ذلك.

لأن هذا النوع من الولاية على الأنفس والأموال والأعراض ثابت للمعصوم (عليه السلام) ، والحُكْم بالنسبة إلى هذا النوع كان واضحًا عند جميع المسلمين، لذلك لا ينظر إليه الإمام عندما يجعل الفقيه وليًّا، لأنه يجعله وليًّا في المَوْرد الذي لا بدَّ منه أو ليس له وليٌّ، وهذه الموارد لها أولياؤها، وأحكامها واضحة، فلا يحتاج إلى جَعْل جديد من قِبَل الإمام (عليه السلام)  ولم يسأل عنها السائلون.

حتى إن الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا يتصرَّفون إلا بما يعرفونه من المصالح الغَيْبية للأشخاص، أو ما يترتَّب على التَّرْك من المفاسد، ولا نعلم شيئًا محدَّدًا من تلك الموارد، فالولاية الثابتة للأئمة (عليهم السلام)  على هذا النوع ليسَتْ ثابتةً للفقيه، من قبيل أمر الصادق (عليه السلام)  لعلي بن يقطين بوضوء العامة الذي لم يكن واجباً عليه لأنه آمن ومؤتمن من قبل الرشيد، ولكن الإمام علم بكثرة الوشايات عليه لهارون بطريق غيبي، فأمره بأن يتوضأ وضوء التقية، هذا في الأمور الشرعية.

وكذا الحال في الأمور التكوينية، مثل ما روي عن مأمون الرقي قال: (كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام)  إذ دخل سهل بن الحسن الخراساني فسلم عليه ثم جلس فقال له: يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه!؟ وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف!؟ فقال له (عليه السلام) : اجلس يا خراساني رعى الله حقك، ثم قال: يا حنيفة أسجري التنور، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: يا خراساني! قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار، أقلني أقالك الله قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي، ونعله في سبابته فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله فقال له الصادق (عليه السلام) : ألق النعل من يدك، واجلس في التنور، قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الامام (عليه السلام)  يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: قُمْ يا خراساني وانظر ما في التنور قال: فقمت إليه فرأيته متربعا، فخرج إلينا وسلم علينا، فقال له الإمام (عليه السلام) : كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقال: والله ولا واحدا فقال (عليه السلام) : لا والله ولا واحدا، فقال: أما إنا في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت)([3]).

نعم، ربما تكون هناك مصالح عُلْيا تترتَّب على التصرُّف، كمصلحة عامة ملزمة، أو مفاسد عظيمة تضرُّ بالمجتمع الإسلامي.

فسواء أكانت له ولاية أم لم تكن، فلا بدّ أن يتصرَّف من باب الحِسْبة، وهذا راجع إلى الولاية على الأمور العامة والمصالح الاجتماعية في المجتمع الإسلامي.

فإذا وقع التزاحم بين ولاية الأشخاص على شؤونهم، وبين وجوب محافظة الفقيه على النظام العام، فالفقيه هو يُجْرِي قواعد التزاحم، ويتصَّرف بحسب ما يُؤَدِّي رَأْيه، لأنه (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، التي علَّلَ بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)  أَمْره للأنصاري بقَلْع النَّخْلة ورَمْيها بوَجْه صاحبها سَمَرة بن جنْدب.

وهذه القاعدة التي أَسَّسها الفقهاء واستَنْبطوها من هذا الحديث الشريف -لا ضرر ولا ضرر في الإسلام-، قد لاحظوا فيها ألفاظ الحديث بحرفيَّته ومُتُونه المتعدِّدة وموارده المختلفة، وهي قاعدة سيَّالة نافعة في كثير من الموارد والأبواب الفقهية.

فيمكن للفقيه بحسب رأيه وما يُؤَدِّي إليه نَظَرُه بحسب الموارد، أن يتصرَّف أو لا يتصرَّف في المورد الذي لصاحبه الولاية على نفسه وماله وسائر شؤونه، إذا حصل تزاحم بين ولاية هذا الشخص وولاية الحاكم الشرعي على شأن عام.

فإنْ كان هناك ضرر على الشأن العام، فالفقيه هو الذي يحدِّد ذلك، لا على أساس ولايته على الشخص المذكور، بل على أساس التزاحم بين ولايته وولاية ذلك الشخص، وقد يرى الفقيه غير ذلك.

وأما إذا لم يكن ضرر في تعطيل ولاية الفقيه على الشأن العام، ولكن كانت هناك مصلحة وفائدة اجتماعية مادية أو معنوية، فالأمر حينئذ مُشْكِل، إلا إذا كانت تلك المصلحة مما يتقوَّم بها نظام المجتمع، ويكون في تَرْكها اختلال النظام، فإن الأمر يختلف.

وعلى كلِّ حال، ففي هذه المسائل يكون لكلِّ فقيه رأيه.

والحاصل: أن المستعصي والممتنع من القضايا الخاصة، وليُّها هو الفقيه.

والممتنع من القضايا العامة بمعنى أنه لا يوجد إلا من قِبَل شخص، فوليُّه هو الفقيه للمحافظة على النظام وقَلْع مادَّة الفساد، وليسَ المجتمع، لأن المفروض أن هذا المجتمع هو المحتاج للحلّ.

فلو كان في المجتمع من يقوم بهذا الأَمْر من باب الأَمْر بالمعروف والنَّهْي عن المنْكَر، فَهْوَ، فإنْ لم يتمَكَّن إلا مِنْ بعض المراتب، وكانت المراتب الأخرى بحاجة إلى شخص مُطاع وأَمْره نافذ، فالمرجع هو الفقيه.

والمقصود بالقضايا الخاصة في موضوع الولاية هي الموارد المستعصية الحلّ، أو الممتنعة من قِبَل أصحابها كالمرافعات المالية والزواج والطلاق، والخلافات الشخصية التي لها آثار شرعية، والقصاص والجنايات والضمانات المادِّية والبدنية.

 

وقد ظهر مما ذكرنا:

أنْه ليس هناك مانع ثبوتي من جَعْل الولاية للفقيه كما ذكرنا، فإذا لم يكن المانع موجودًا، فلا بدَّ لنا من الرجوع إلى الأدلة الإثباتية الصادرة عن الإمام (عليه السلام)  التي دلَّتْ على الولاية بالنَّحْو المتقدِّم، كما دلَّتْ على أنَّ الذي يجعل هذه الولاية للفقيه ويعطيه صلاحية التصرُّف كحاكمٍ ووليٍّ، هو الإمام المعصوم الذي نصبه الله-تعالى- على لسان نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، بالإضافة إلى النَّص الخاص على كل إمام من الإمام الذي قبله.

فالحاكم المطلَق هو الله-تبارك وتعالى-، وقد جعَل الولاية المطلقة إلى خاتم سلسلة المعصومين الحجّة بن الحسن (عجل الله فرجه) ، فكل ما يصدر عنه من قَوْل أو فِعْل، فهو حُكْم مجعول في الشريعة الإسلامية.

فكما أنَّ ولايته (عليه السلام)  بعُمْقها وشمولها وامتدادها في عمود الزمان إلى قيام الساعة، جَعْلٌ ثابتٌ، وتشريعٌ دائمٌ من الله-تعالى-، فكذلك سائر الولايات الجزئية الثابتة في الشريعة الإسلامية، فإنها جَعْلٌ ثابت وتشريع دائم من الله-تعالى-، شأنها شأن أرش الخدش والجناية، لأنَّ حلال محمد (صلى الله عليه وآله)  حلال إلى يوم القيامة وحَرامه حرام إلى يوم القيامة، مثل ولاية الأب على أولاده القاصرين، لأيِّ سبب كان القصور، ومثل ولاية الزوج وقيمومته بالحدود المعينة المنصوصة في القرآن الكريم، كذلك ولاية البنت على تزويج نفسها في حدود معينة، ومثل ولاية وليِّ الوَقْف وولاية الوصي، فإن هذه كلَّها ولايات ثابتة بأصل الشرع، ولا يتدخّل  في شرعيتها وحدودها العملية والزمنية سوى موافقتها للشريعة الإسلامية.

وكذلك ولاية الفقيه المجعولة من قِبل الإمام (عليه السلام) ، فإنها ولاية شرعية مجعولة بجَعْلٍ شرعيٍّ، وهي وإنْ كانت محدودة بالنسبة لولاية الإمام (عليه السلام) في الشرع والتشريع بالإضافة إلى ولايته التكونية على البلاد والعباد، إلا أنها فَرْع من ثمرات ولايته المباركة وحيثية من حيثياتها، فلا تقاس بها، كما لا يقاس غيرها من موارد الجعْل الشرعيّ للولايات المذكورة، وإن اشترك الكل في ثبوت الجعْل الشرعيّ، إلا أن الشراكة في الجعْل لا في المجعول، كالاشتراك في الجعْل بين وجوب فريضة الحج التي مَنْ تركها مُنكِرًا كان كافرًا، أو بين وجوب ردِّ السلام، أو غيره من الواجبات المشابهة له في الحجم.

مع أن معصية الله-تبارك وتعالى- لا تكون صغيرة وإن كان المجعول صغيرًا، لأنَّ التمرُّد والعصيان واحد.

ولا نعني بذلك أن هناك نسبة بين مجعول ومجعول آخر، بل المقصود أن الفارق هو صيغة الجعْل من قبل الله-تعالى-:

ففي جَعْل الولاية المطلقة للإمام المعصوم (عليه السلام) ، كان الجعْلُ من قِبل الله-تعالى- ابتداء لأشخاص معينين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}([4])، جَعْلًا فعليًا دائمًا للإمام المخصوص.

بينما كان جَعْل الولاية للفقيه من قِبَل الإمام (عليه السلام) ، جعْلًا على نحو القضية الحقيقية، وهو مُمضى من قِبل الله-تعالى- بنفس جَعْل ولاية الإمام، وفي طول جَعْلها، بكل ما للطولية من المعنى.

فإذا وُجد فقيه جامع للصفات المطلوبة باستمرار، ينطبق عليه تنصيب الإمام، وتكون له الولاية الفعليّة من قِبل الإمام (عليه السلام)  بالمقدار الذي يدلّ عليه التنصيب.

وكما لا يتدخل ولم يتدخل في ولاية الإمام (عليه السلام)  أحد إلا النَّص من قِبل الله-تعالى-، كذلك لا يتدخل في ولاية الفقيه إلا تنصيب الإمام (عليه السلام) ، لتكون الفعلية دائرة مدار وجود الفقيه وكفاءته بجهده وتوفيقه.

وقد نصب الإمام (عليه السلام)  بالنصب العام كلَّ من جمع الصفات المطلوبة، وجَعْلُه هو جعْلُ الله-تعالى-، لأنه لا يقول إلا ما قاله الله-تعالى-، ولا يفعل إلا ما يريد الله-تعالى- أن يفعله، ولذلك لم يجعل الله-سبحانه- هذه الولاية على التنصيب إلا للمعصوم (عليه السلام) .


 


([1]) الكافي 1/178 باب أن الأرض لا تخلو من حجة ح1.

([2]) وهو خبر هشام بن سالم عن الصادق (ع)، رواها في البحار ج25 ص106 عن إكمال الدين ص 232.

([3]) بحار الأنوار 47/123 عن المناقب ج 3 ص 362.

([4]) النساء: من الآية59.