"الإمام"

في عقيدة الشيعة وعقيدة السُّنة

وهذا النَّحْو من الاعتقاد بولاية المعصوم، هو الفارق بين عقيدة الشيعة في الإمام والخليفة، وبين عقيدة أبناء الطائفة السُّنية.

فإنَّ أَمْر الخليفة عند الشيعة يرتبط بجعْل الله-تعالى-، فإنهم كما آمنوا بالله-عزَّ وجلَّ- كسائر المسلمين، وآمنوا بالنَّص الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله)  يوم الغدير، وذكَّر المسلمين بالآية التي جعله الله-عزَّ وجلَّ- فيها أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، قال لهم: (من كنْتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله وأَدِر الحق معه كيفما دار)، فجعل له نفس الولاية التي ثبتَتْ له، مع فارق الرتبة بالنبوة وبالتسلسل الشرعي، لذلك آمنوا بعصمة الإمام كعصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)  بالبرهان القاطع والأدلة الواضحة، لأنَّ الظالمين غير المعصومين لا ينالهم عهدُ الله-تعالى- أبدًا، فلم يستعملوا الاجتهاد في قبال النَّص، سواء أكان اجتهادًا للدِّين أم للدنيا، بل انقادوا لقوله-تعالى- الذي هو أَمْرٌ لجميع المسليمن: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([1])، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}([2]).

والمؤمن هو الذي آمن بقلبه، وعمل على طبق إيمانه بكل ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومَنْ آمن أو عمل بغير ذلك فهو محكوم بالإسلام دون الإيمان كما نصَّت عليه الآية الكريمة:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}([3]).

وجعلوا الاعتقاد بإمامته وعصمته عهدًا وبَيْعة في أعناقهم، امتثالاً لما أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله)  المسلمين في يوم الغدير ببيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  وتهنئته بهذه الولاية.

وإنما فعل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)  ذلك بعد تنصيبه، لإقامة الحجّة بالتزامهم بالبيعة التي تعتبر قلادة في أعناقهم، وعهدًا مُلزِمًا لهم، بحيث يُعَدُّ من نَكَث البيعة وخالف العهد، خارجًا على طاعة الإمام وباغيًا، وقد نصّ القرآن الكريم على حرب البـُغاة.

بينما يرى أبناء الطائفة السنية، ويقولون: بأن النبي (صلى الله عليه وآله)  لم ينص على الخليفة، وإنْ نصَّ الخليفة الأول على الثاني، ونصَّ الثاني على الثالث مِنْ بين ستة أشخاص بعد القيام بعملية حسابية دقيقة تُوصِل إليه.

وعلى أيَّة حال، هم يرَوْن أن الإمام يتعيَّن عندهم بالانتخاب والبيعة، ويحملون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله)  يوم الغدير على الوصية بشؤونه الخاصة، لأنه ابن عمه وزوج ابنته، كما يوصي أي إنسان لإنسان آخر يثق به.

وهذا الفَرْق بين النهجَيْن العقائدييْن، فرْق أساسي وجوهري في جعل الولاية وممارستها من قبل الولي والمُولَّى عليه، فكم فرق بين الإمام الذي لا يكون إمامًا إلا بانتخاب المأمومين وبيعتهم، يعني: يعطونه صفة الإمامة والولاية بذلك، ولو تراجعوا لسبب من الأسباب سقطَتْ إمامته وصار كواحد منهم وربما أقــل ! وبين الإمام الذي يجعله الله-تعالى- ويأمر بمبايعته ليسهل لهم جميع ما يحتاجونه في سائر شؤونهم الدينية.

هذا الفرق في جَعْل الإمامة لأمة تريد إصلاح وإنجاز جميع أمورها، فرق أساسي وجوهري في أصل الإمامة والخلافة.

 

ويتلخص هذا الفرق:

بأن الإمام إما منصوب من قبل الله-تعالى-، وإما أن كل واحد من أفراد الأمة هو إمام في المرحلة الثانية إذا حالفه الحظ، أو كان ذا نفوذ وسلطان دنيوي أو مادي، يرغب به الآخرون لأجل أن ينتخبوه، نحو قول علي أمير المؤمنين (عليه السلام)  لعمر: (احلب حلبًا لك اليوم شطره، اشدد له اليوم ليردَّ عليك غدًا)([4]).

ويترتب على هذا الفرقِ: الفرقُ الآخر الجوهري والأساسي في كيفية الممارسة لهذه الإمامة من قِبل الوليِّ والمُولَّى عليه، والحاكم والمحكوم، فالذين ينتخبون ويجعلون لهم إمامًا منهم، إنما ينظرون لما يريدونه ويرون أنه أصلح وأنفع لهم، فيستجيب لانتخابهم ومطالبهم وأهوائهم، بينما إمام الشيعة قد نصّبه الله-تعالى- العالم بكل ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم، وأَمَر باتباعه.

وهذه الفوارق هي التي عصفَتْ بالأمّة، وجعلتها كريشة في مهب الريح، فكانت مؤهَّلة للزوال والفناء، لولا حكمة الوليِّ الحقيقي المعصوم (عليه السلام)  الذي حافظ على جوهر الإسلام والتشريع.

ولا يعني هذا انعدام دور الأمة، فالأمة لها الأثر الكبير، لا في الإمامة، بل في الانقياد لمقتضيات تلك الإمامة وتنفيذها، مِنْ تطبيق الشريعة، والقيام بما يفرضه الإمام من ترويج الدِّين، وقتال الكافرين والمنحرفين، وغير ذلك من الأحكام الأولية المجعولة في حقِّهم من قِبل الشارع بالنسبة للإمام الذي نصبه لهم.

وقد قام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشؤون الحكومة العادلة، وقام كل منهم (عليهم السلام)  بما يرون أنه يجب القيام به، لأنهم يعرفون مجاري الأمور، وبحكم الله-تعالى-، في كل ظَرْف وواقعة، حتى أرسوا قواعد الإسلام وتشريعه في نفوس أصحابهم من الرواة والتابعين لهم.

إلى أن وصل الدور إلى خاتم الأئمة (عجل الله فرجه) ، وأرسى قبل غيابه قواعد الولاية في الإفتـاء والقضاء، وسائر الشؤون التي يحتاجها المؤمنون ولا حلَّ لها إلا من قِبل الشريعة، ليكون الحلُّ عادلاً.

 

خلاصة الكلام في معنى الولاية المجعولة

نقول: إذا كان الأمر كذلك في الإمام المعصوم (عليه السلام) ، ينصبه الله-تعالى- ويأمر الأمة بإطاعته، فالأمر كذلك في الفقيه، فإنَّ ولايته متوقفة على التنصيب من قِبل الإمام (عليه السلام) ، ولكنْ لا بالتعيين، بل بالعناوين والصفات والكفاءات التي تتوفر فيه، ولا شأن للأمة غير الطاعة والانقياد للإمام (عليه السلام)  بالالتزام بمعطيات هذه الولاية بالنسبة لهم.

بل إنَّ ولاية الفقيه وإنْ كانت مجعولة وثابتة في الشريعة، إلا أنها ليست ولاية مستقلة، بل هي شأن من شؤون ولاية الإمام (عليه السلام) ، وفرع من ثمرات ولايته المباركة، فلا تقاس ولا تُحسَبْ في عداد ولاية الإمام (عليه السلام) ، لأنه جُعِل من قِبله (عليه السلام) ، حيث إنَّ جعله هو جعل الله-تعالى-، فهي كسائر الأحكام التي يبلِّغها الإمام (عليه السلام) ، فإنه يجب القيام بها والالتزام بشؤونها على هذا الأساس، لأنها مشمولة لوجوب إطاعة (أُولي الأَمْر) بالنَّحو الذي تصدَّر البحث.

فكما يجب على الفقيه أن يقوم بشؤون ولايته كما فهم من الإمام (عليه السلام) ، كذلك يجب على الأمة أن تطيعه وإن كانت كارهة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الولاية بالانتخاب ولا بالبيعة، في أمة أوجدها الله-تعالى- خير أمة أُخْرجَتْ للناس بما شرّع لها، مما يجعلها في طليعة الأمم.

نقول: لا يمكن أن تكون الولاية على هذه الأمة ناشئة من صميم نفسها واختيارها في قِبال ما جعلها خيرَ أمة، وهو الالتزام بهذه الإمامة وبتلك الولاية المتفرِّعة عليها.

والمضامين التي وردَتْ في الروايات من الرجوع إلى الفقهاء والنظر فيمن حفظ أحاديثهم (عليهم السلام)  وعرف أحكامهم (عليهم السلام) ، تدلّ بوضوح على وجوب الفحص عن هذا الفقيه الذي نصبه الإمام (عليه السلام)  في مرتبة سابقة على اختياره، والانقياد له والرجوع إليه في كل أمورهم الخاصة والعامة، في العبادات والمعاملات والمعاشرات، والتعامل مع المنحرفين والخارجين على قوانين الإسلام ومع الأعداء.

فيكون هو الحَكَم والحاكم في جميع الأمور: لا بمعنى تحويل هذه الحاكمية إلى شأن دنيوي وهو الحكومة، ولا بمعنى اختزال قضية الإمامة واختصارها، بحيث يكون هناك ترادف بين كلمتَيْ الحكومة والإمامة، وقد استعمل الإمام (عليه السلام)  أحد التعبيرين، كما أنه ليس بمعنى العبادات المتعارفة من الحج والصلاة والصيام فقط...

بل المقصود: جميع الشؤون التي تعطيهم صفة العبودية لله-تعالى-، لأن امتثالَ كلِّ حُكْم شرّعه الله-تعالى-، وترْك كل فعل حرّمه، هو عبادة لله-سبحانه-، وتقرُّب منه، ودخول في ساحة رضاه الواسعة.

وقد نطق القرآن الكريم بقوله-تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([5])، فإنَّ المراد بالعبادة بعد تفسيرها بمعرفة الله-تعالى- العالم بجميع شؤون الإنسان ومعرفة ما يصلحه ويقربه إليه، هي: معرفة جميع ما شرّعه للعالمين رحمة لهم، لأجل أن يشكروه بتنفيذها وتطبيقها كما أراد-تبارك وتعالى-.

ويدل على ذلك: ما ورد في القرآن الكريم من مدح الأنبياء (عليهم السلام)  بالعبودية الصالحة وبالعبد الشكور، فلولا أن تكون العبودية مرتبة عليا في الإنسان، لما كانت من أسمى أوصاف الأنبياء (عليهم السلام) ، ولم تكن عبودية الأنبياء (عليهم السلام)  لمجرَّد العبادة المتعارفة، بل لأنها تجسيد حيٌّ للشرع والشريعة وللمبادئ التي جاء بها كل واحد منهم (عليهم السلام) .

فإذا لم يكن الإسلام منحصرًا في العبادات المصطلحة، والتكاليف الشخصية للأفراد، ولم يكن متمحِّضًا في أنه لإعمار الدنيا من جميع جوانبها وبكل زخرفها وغرائز الإنسان فيها، فهو نظام كامل وشريعة شاملة تحت سقف واحد، وهو العبودية لله-عزَّ وجلَّ- ورضاه، ليكون خليفة الله-تعالى- في الأرض، فينالوا بذلك رضى الله-عزَّ وجلَّ- الذي تطمئنُّ بذكره القلوب في الدنيا، والذي هو أرقى أنواع النعيم في الآخرة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}([6]).


 

([1]) الحشر: من الآية7 .

([2]) الأحزاب: من الآية36 .

([3]) الحجرات: من الآية14 .

([4]) البحار، ط2، مؤسسة دار الوفاء، بيروت: 28/186 ؛ والإمامة والسياسة لابن قتيبة، ط1: 1/29.

([5]) الذاريات : 56 .

([6]) التوبة : من الآية72 .