فعلية ولاية "الفقيه" في ممارسة الحكم

 بعد ذلك نقول:

كيف، ومتى يباشر الفقيه هذه الولاية ؟

وما هو مقدار صلاحيته الشرعية في تطبيقها ؟

بعد الفراغ عن دخول الحكومة في صميم نظام الإسلام وأحكامه، لأنه -كما تقدم- بوساطتها تطبق أحكام الإسلام، وبدونها تضيع مساحات واسعة من أحكام الدين الإسلامي، وهذا يعني الجزم بلزوم إقامتها وإن أدى إلى التضحيات كما ضحى النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) والحسنان (عليهما السلام).

لذلك طرحت بعض الشبهات حول وجوب بل جواز الدعوة إلى إقامة حكم إسلامي فضلاً عن المباشرة بذلك، بمثل: أن الظروف غير مؤاتية، ولو كانت مؤاتية لكان الله يظهر المعصوم لإقامة الدولة وإدارتها، لأن أدلة الجهاد إنما تثبت وجوبه في الظروف التي يمكن فيها الانتصار وإعلاء كلمة الحق، كما كان في زمن المعصومين (عليهم السلام)الذين جاهدوا، ومع العجز فلا إطلاق في أدلة الجهاد، ويشهد بذلك الروايات الواردة الناهية عن الخروج والجهاد في عصر الغيبة من قبيل: (كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد دون الله)([1]).

والكلام المذكور: وإن كان صحيحًا من حيث المضمون، إلا أنه لا يصلح أن يكون ردًّا على لزوم إقامة الحكم الإسلامي.

وصحيح أن الأئمة (عليهم السلام)كانوا ولم يتصدوا لإقامة الحكم الإسلامي لأنهم كانوا في مرحلة التأسيس ونشر أحكام الشريعة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية، لأن قوانين الإسلام التي يراد تطبيقها ليس للجهاد وسفك الدماء فيها موضوعية، بل هي إعلاء كلمة الحق وتثبيته وإظهار المبادئ الإسلامية، وتطبيقها، وعدم التنازل عنها، وهذا لا علاقة له بالانتصار والانكسار والنصر العسكري، وإن كان هذا أوضح مصداق تطبق من خلاله الحكومة الإسلامية.

فالمدار من حيث الربح والخسران والنصر والهزيمة على مقدار ما يعطيه الجهاد من النتائج في سبيل جعل كلمة الله هي العليا، وهذا يرجع إلى تقدير القّيِّم، بل القيِّمين على شؤون الدولة، ورعاية المصلحة من جميع جوانبها السياسية والاجتماعية، مع المحافظة على سلامة أركان الدين ومبادئه، ولابد أن تكون القيادة في منتهى الحكمة من حيث المحافظة على شؤون البلاد وأرواح العباد، حتى لا يذهب دم امرئ مسلم هدرًا لغير حق وبغير حق، فإن ذلك يعني الموافقة على قتل الناس جميعًا إذا كان الجهاد له موضوعية للسلطة والسيطرة فقط بعيدًا عن نتائجه التي ذكرناها.

والغرائز التي أودعها الله-تعالى- في الإنسان من المواد الخام، يمكن توجيهها إلى الخير، كما يمكن توجيهها إلى الشر ودعوة الشيطان من خلال الطاقات والكفاءات والقابليات التي أودعها الله-تعالى- في كل البشر، كلٌّ بنسبته وبما يستوعبه، فلا يبقى لأحد على الله حُجّة من حيث القدرة والكفاءة والهداية إلى النَّجْدَيْن.

فدعاة الباطل يندفعون للقتال والدعوة إلى مبادئهم بدافع غرائزهم، بينما دعاة الحق يندفعون للجهاد بدافع طلب الحق والخير، وهو رضى الله في هداية الناس وإصلاح المجتمع الإنساني على ضوء الشريعة.

ودعاة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا ينظرون، كما لا ينتظرون من أحد جزاء ولا شكورًا، وإنما ينظرون إلى نصر مبادئهم، حتى لو كان ذلك باستشهادهم، والشهادة هدف لهم.

وأَوْضح شاهد على ذلك أصحاب الحسين (عليه السلام)، بل الحسين (عليه السلام)نفسه، الذي أذن الله-تعالى- له أن يضحي بنفسه الطاهرة التي لا تُعادَل بكل البشر عدا المعصومين (عليهم السلام)غيره.

ولو كنا ننظر بدقة إلى المقولة المشهورة: >إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني<، لعرفنا بأن التضحيات في سبيل إعلاء كلمة الله ثمن رخيص في سبيل الله، مقابل الثمن الذي يعطيه الله لمن باع نفسه في سبيله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}([2])

وأما شُبْهة عدم شمول الإطلاقات للجهاد في زمن الغيبة..

فلا يبقى لها معنى مقبول، لأن وجوب الجهاد أمر مفروغ عنه بالنصوص القرآنية والضرورة الإسلامية كما تقدم، غاية الأمر أن هذا الحكم شأنه شأن كل حكم مجعول على نحو القضية الحقيقية، لا يكون فعليّا إلا بفعلية موضوعه، فلا معنى لهذه الشبهات بعد تسليم أصل مبدأ الحكومة ومشروعية الجهاد.

كما لا معنى لشبهة أننا غير قادرين..

فإن القدرة ليست شرطًا للنتيجة، بل هي شرط للمقدمات وإن كانت بعيدة، وقد علّمنا القرآن الكريم كيفية الإعداد بمقدار الاستطاعة، فلا أحد يدّعي الوجوب مع عدم القدرة، لأن القرآن الكريم أمر بالإعداد بمقدار الاستطاعة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاتعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}([3]).

وأما شبهة أن نفس غيبة الإمام (عجل الله فرجه)تدل على أن الظروف غير مؤاتية في زمن الغيبة، وإلا فهو أولى بإقامتها من كل الخلق..

فصحيحة.. ولكنّ هذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أنه لو بقي حاضرًا لكانت النتيجة هي القتل والفناء للمسلمين وله -أرواحنا فداه-، وبذلك ينقطع حبل الله المتين الباقي بين السماء والأرض، ولهذا شاءت الحكمة الإلهية أن يغيب، لأنه مدّخر، لا للحكومات التي ندعو إليها كلٌّ من موقعه وفي عدة كيلو مترات من الأرض...

بل إن الله-تعالى- قد ادّخره لوراثة الكرة الأرضية كلها وراثة حق، لإقامة قوانين السماء كلها للبشر على هذه المعمورة، التي يتلاعب إبليس وأعوانه من الجن والإنس بها منذ بدء الخليقة، وهذا هو الوعد في قوله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}([4])

والحاصل: أنَّ حِفْظه من كيد الأعداء للمهمة التي ادخره الله لأجلها، من جملة الحِكَم التي ندرسها ونفهمها، فإذا جاء الظرف المناسب يخرج ويصلح الله شأنه في ليلة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا، وليس نحن الذين نقدّر امتلاءها بالظلم والجور مادام في الأرض من ينادي بهذه المقالات ويسعى لها.

وأما شبهة النهي عن الخروج في عصر الغيبة وأنه لا ينتصر حتمًا..

فجوابها: أننا لسنا بصدد تعليل الأحكام الشرعية، لأن ذلك محرم بلا إشكال، إذ لو كنا نعرف العلل والمصالح، أو بإمكاننا أن نعرفها، لكنّا نستخرج الأحكام من تلقاء أنفسنا، وبهذا تضيع الشرائع السابقة، ولذلك لم يأذن الله-سبحانه- بذلك، فإن كل حكم لم يكن فيه نص أو دليل آخر فهو حكم بغير ما أنزل الله-تعالى-، وافتراء عليه، وشراكة له في أحكامه، {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}([5]) ردًّا على من يحلل ويحرم بلا دليل، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}([6]).

لذلك، نحن نلتزم بأمر الله تعالى وأحكامه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([7]).

والغَيْبة الكبرى، كما الغَيْبة الصغرى، ليست من فعلنا، ولسنا مسؤولين عنها وعن أسبابها، وإنما الواجب علينا إطاعة الله-عزّ وجلّ- وإطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام).

ومعنى الإطاعة: هو تطبيق أحكامه في الأرض، ومن أهمها إطاعة أولي الأمر، وقد بيّنوا لنا معالم الشريعة وتفاصيلها، وكيفية الإطاعة في غيبته بالنحو الذي نفهمه من ولاية الفقيه بحيثياتها، كلاً أو بعضًا.

وقد وردت في غيبته روايات، مثل: خوف القتل وإبعاده عن أعين الظالمين، ومثل: حتى لا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف، ومثل: امتحان الناس، ومثل: أنه لحكمةٍ لا تعرف إلا بعد ظهوره([8])، والروايات في ذلك كثيرة، وما ذكر من هذه الروايات كله، لا ينافي أن يكون الإمام (عليه السلام) مدّخرًا لإقامة الدولة الإسلامية الكبيرة على وجه الأرض كلها، وهذا كله لا يمنع من قيام دولة في مجتمع معين أو زمن معين حتى ترد هذه الشبهات.

وأما الأخبار الناهية عن الخروج قبل قيام القائم:

فبعضها: إرشاد إلى عدم الملاءمة، وأن الهزيمة والانكسار محتمة، وأنه لا فائدة في الخروج.

وبعضها: يظهر من مضمونها خروج الشخص للدعوة إلى نفسه مقابل المعصوم، بقرينة التعبير بأنه طاغوت يعبد من دون الله، أي يطاع من دون الله، وبعضها جواب للسائل بأن يلزم بيته ولا يحرك ساكنًا، في مقام إعطاء علامات عن القائم (عجل الله فرجه).

ولو تمَّتْ بمجموعها، فهي للتقية التي كان الأئمة (عليهم السلام)يستعملونها أثناء وجودهم في تلك العصور.

 

والنتيجة:

أن الحكومة القائمة، يجب الاحتفاظ بها، والاستيلاء عليها.

وإذا لم تكن قائمة يجب على الأمّة أن تتحرّك مع وجود الفقيه الجامع للشرائط، فتطيعه ليكون تحرّكها من باب الحِسْبة والأَمْر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكر، فإنَّ للأمّة -في إنجاح دعوة الفقيه سواء أكان بالولاية أم بالحسبة- دَوْرًا كبيرًا مهمًّا، إذ لولا الأمّة المُطِيعة فماذا يفعل الفقيه أكثر من الإرشاد ؟ وحتى لو لم يقوموا برأي الفقيه، فإنه يجب الرجوع إليه لِسَنِّ القوانين والإرشادات اللازمة للدولة.

ووجوب القيام من قِبَل الأمّة، يكفي فيه ولاية كل المؤمنين المأمورين على هذا الواجب، وهو الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر.

ويمكنهم الاستدلال حينئذٍ بآية الخلافة والاستخلاف في الأرض التي يظهر منها خلافة الله-تعالى-، بقرينة أن الملائكة لم يتخوّفوا من آدم (عليه السلام) بل من ذرّيته، وحيث لم يذكر متعلَّق الخليفة فتدلّ على أنها خلافة عن الجاعل وهو الله-تعالى-.

والخلافة: تعني جَعْله حاكمًا، فإذا كان البشر خليفة لله-تبارك وتعالى-، فالواجب أن يخلفوه في الحكم بما يريد وتطبيق مبادئ السماء، ولا يَتِمّ ذلك إلا بالمعصوم أو بالفقيه الذي يَنْصِبه المعصوم بعد غيبته.

والحُكْم: هو إشاعة العدل، وقَمْع الظلم، وإقامة الفرائض، والحدود، والجهاد، وإعلاء كلمة الله-تعالى-.

وهذا لا يتم إلا من خلال الفقيه.


([1]) الوسائل: كتاب الجهاد باب13 جهاد العدو ح6 .

([2]) التوبة : 111 .

([3]) الأنفال: من الآية60 .

([4]) النور : 55 .

([5]) يونس : من الآية59 .

([6]) النحل:116 .

([7]) الحشر: من الآية7 .

([8]) البحار ج52 باب20 علّة الغيبة .