آراء الفقهاء
ولا بدَّ من التعرُّض لكلمات بعض الفقهاء العظام، بذِكْر بعض أقوالهم وآرائهم في موضوع ولاية الفقيه:
الشيخ المفيد (رحمه الله):
قال الشيخ المفيد([1]): (فأما إقامة الحدود: فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام)، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان.
فمن تمكّن من إقامتها على ولده وعبده، ولم يخَف من سلطان الجور إضرارًا به على ذلك، فَلْيُقِمْها، ومن خاف من الظالمين اعتراضًا عليه في إقامتها، أو خاف ضررًا بذلك على نفسه، أو على الدين، فقد سقط عنه فرضها.
وكذلك إن استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه، وأمن بوائق الظالمين في ذلك، فقد لزمه إقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم، ويجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم.
وهذا فَرْض متعيِّن على من نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له، أو الإمارة من قِبَله على قوم من رعيته، فيلزمه إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والأَمْر بالمعروف، والنَّهْي عن المُنْكَر، وجهاد الكفّار ومن يستحق ذلك من الفجّار، ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدًّا من حدود الإيمان، أو يكون مطيعا في معصية الله-تعالى- من نصبه من سلطان الضلال، فإن كان على وفاق للظالمين في شيء يخالف الله-تعالى- به لم يجز لأحد من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعا لله-تعالى- من إقامة حدّ، وإنفاذ حُكْم على حسب ما تقتضيه الشريعة دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال.
وللفقهاء من شيعة الأئمة (عليهم السلام)أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس، وصلوات الأعياد، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، إذا تمكنوا من ذلك، وأمنوا فيه من معرة أهل الفساد، ولهم أن يقضوا بينهم بالحق، ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البينات، ويفعلوا جميع ما جعل إلى القضاة في الإسلام، لأن الأئمة (عليهم السلام) قد فوّضوا إليهم ذلك عند تمكّنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار، وصحّ به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار).
إلى أن قال: (ومن تأمّر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له، وكان أميرًا من قِبَله في ظاهر الحال، فإنما هو أمير في الحقيقة من قِبَل صاحب الأَمْر -الذي سوّغه ذلك، وأذن له فيه- دون المتغلِّب من أهل الضلال).
ثم قال: (ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهل بالأحكام، أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أمور الناس، فلا َيحِلّ له التعرّض لذلك والتكلّف له، فإنْ تكلّفه فهو عاصٍ غير مأذون له فيه من جهة صاحب الأَمْر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فإنه مأخوذ به، محاسَب عليه، ومطالَب فيه بما جناه، إلا أن يتّفق له عَفْوٌ من الله-تعالى-، وصَفْحٌ عمّا ارتكبه من الخِلاف له، وغُفْران لما أتاه).
وقال: (وليس للوصي أن يوصي إلى غيره.. فإنْ مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولّى إنفاذ الوصية.. وإذا عُدِم السلطان العادل فيما ذكرنا من هذه الأبواب كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل والفضل أن يتولّوا ما تولاه السلطان..)([2]).
الشيخ الطوسي (رحمه الله):
ونقل عن الشيخ الطوسي أنه قال في كتاب الخلاف: (الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق وحِفْظها وتَرْك تضييعها).
وقال في النهاية ص317: (وللناظر في أمور المسلمين ولحاكمهم، أن يوكل على سفهائهم وأيتامهم ونواقصي عقولهم، من يطالب بحقوقهم، ويحتج عنهم ولهم).
المحقق صاحب الشرائع (رحمه الله):
وقال المحقِّق الحلّي -في الشرائع كتاب اللقطة في القسم الثاني في الملتقط من الحيوان-: (فالبعير لا يُؤْخذ، وإذا وُجِد في كلأ وماء أو كان صحيحًا، لقوله (صلى الله عليه وآله): (خُفُّه حذاؤه، وكرشه سِقاؤه )..).
إلى أن قال: (ولو فَقَدَه -أي فَقَد صاحبه- سلّمه إلى الحاكم، لأنه منصوب للمصالح).
وقال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وقيل يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غَيْبة الإمام (عجل الله فرجه)، كما لهم الحُكْم بين الناس مع الأَمْن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك ).
صاحب الجواهر (رحمه الله):
ولم يستبعد صاحب الجواهر (رحمه الله)أن يكون هذا الحُكْم إجماعيًا، ولذلك استغرب من المحقّق الحلّي وغيره لتوقُّفهم في إقامة الحدود من قِبَل الفقهاء.
ثم استدلّ صاحب الجواهر على ذلك بمقبولة عمر بن حنظلة، ومقبول أبي خديجة، وبالتوقيع الوارد على إسحاق بن يعقوب التي أَنَفَ ذِكْرُها، واستظهر إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف، الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب عليهم فيه.
ثم قال: (بل قوله (عليه السلام) (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) أشدّ ظهورًا في إرادة كونه حجة في ما أنا حجة الله عليكم، ومنها إقامة الحدود).
واستشهد بباقي الروايات الواردة في شأن العلماء، وبالآيات الكريمة الدالة على لزوم إقامة الحدود في حال الحضور والغَيْبة.
ثم ذكر: بأنه لا بد من إقامة الحدّ مطلقًا بثبوت الولاية لهم في كثير من المواضع، على وَجْه يظهر منه عدم الفَرْق بين مناصب الإمام أجمع، وكُتُب الأصحاب مملوءة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغَيْبة في سائر المواضع، أي التي يحتاج فيها إلى الإمام أو الفقيه.
المحقق الكركي (رحمه الله):
ونقل صاحب الجواهر عن المحقّق الكركي في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة: (اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى، المُعَبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائبٌ من قِبَل أئمة الهدى (عليهم السلام)في حال الغَيْبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود).
الشهيد الثاني (رحمه الله):
وقال الشهيد الثاني -في أول كتاب الجهاد من المسالك-، بعد قَوْل المحقّق (رحمه الله): يشترط وجود الإمام أو من نصبه للجهاد:
(يتحقّق ذلك بنصبه له بخصوصه أو بتعميم ولايته، على وَجْهٍ يدخل فيه الجهاد، فالفقيه في حال الغَيْبة وإن كان منصوبًا للمصالح العامة لا يجوز له مباشَرة أَمْر الجهاد بالمعنى الأول-أي الابتدائي-).
المحقق النراقي (رحمه الله):
وقال المحقق النراقي في عوائد الأيام([3]):
(عائدة: اعلم أن الولاية من جانب الله-سبحانه- على عباده ثابتة لرسوله (صلى الله عليه وآله)وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام)، وهم سلاطين الأنام، وهم الملوك والولاة والحكّام، وبِيَدهم أَزِمّة الأمور، وسائر الناس رعاياهم والمُولّى عليهم، وأما غير الرسول (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه (عليهم السلام)فلا شكّ أن الأصل عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلا مَنْ ولاّه الله-سبحانه- أو رسوله (صلى الله عليه وآله) أو أحد من أوصيائه (عليهم السلام)على أحد في أَمْر، وحينئذ فيكون هو وليا على مَنْ ولّاه في ما ولّاه فيه، والأولياء كثيرون كالفقهاء العدول والآباء والأجداد والأوصياء والأزواج والموالي والوكلاء، فإنهم الأولياء على العَوَام والأولاد والمُوصى له والزوجات والمماليك والموكلين، ولكن ولايتهم مقصورة على أمور خاصة على ما ثَبَتَ من ولاة الأَمْر.
ولا كلام لنا هنا في غير الفقهاء.. والمقصود لنا هنا بيان ولاية الفقهاء الذين هم الحكّام في زمن الغَيْبة والنوّاب من الأئمة (عليهم السلام)، وأنّ ولايتهم هل هي عامة في ما كانت الولاية فيه ثابتة للإمام الأصل أم لا ؟
وبالجملة في أن ولايتهم فيما هي: فإني قد رأيت المصنّفين يحوّلون كثيرًا من الأمور إلى الحاكم في زمن الغَيْبة، ويولّونه فيها، ولا يذكرون عليه دليلاً، ورأَيْتُ بعضَهم يذكرون أدلة غير تامة، ومع ذلك كان ذلك أمرًا مهماً (مهملاً.ظ) غير منضبط في مورد خاص.
وكذا نرى كثيرًا من غير المحتاطين من أفاضل العصر وطلّاب الزمان إذا وجدوا في أنفسهم قوة الترجيح والاقتدار على التفريع يجلسون مجلس الحكومة، ويتولّون أمور الرّعيّة، فيُفْتون لهم مسائل في الحلال والحرام، ويحكمون بأحكام لم يثبُتْ لهم وجوب القبول عنهم كثبوت الهلال ونحوه، ويجلسون مجلس القضاء والمرافعات، ويجرون الحدود والتعزيرات، ويتصرّفون بأموال اليتامى والمجانين والسفهاء والغيّاب، ويتولّون أنكحتهم ويعزلون الأوصياء وينصبون العَوام، ويَقْسمون الأخماس، ويتصرّفون بمال المجهول مالكه، ويؤجرون الأوقاف العامة إلى غير ذلك من لوازم الرياسة الكبرى، وتراهم ليس بيدهم فيما يفعلون دليل، ولم يهتدوا في أعمالهم إلى سبيل، بل اكتفوا بما رأوا وسمعوا من العلماء الأطياب، فيفعلون تقليدًا بلا اطّلاع لهم على محطّ فتاواهم فيُهْلِكون ويَهْلَكون، أذن الله لهم أم على الله يفترون.
فرأَيْتُ أن أذكرَ في هذه الفائدة الجليلة وظيفة الفقهاء، وما فيه ولايتهم، ومَنْ عليه ولايتهم على سبيل الأصل والكلية، وَلْنُقَدِّم أوّلاً شَطْرًا من الأخبار الواردة في حق العلماء الأبرار المثبتة لمناصبهم ومراتبهم، ثم نُتْبِعُه بما يُستفاد منها كلية، ثم نذكر بعد ذلك بعض موارد هذه الكلية.. ).
ثم ذكر من الروايات تسعة عشر رواية، قد أنف قِسْم منها، وأَشَرْنا إلى الآخر، ثم قال:
(المقام الثاني: في بيان وظيفة العلماء الأبرار.. إنّ كلية ما للفقيه العادل تولّيه، وله الولاية فيه، أَمْران:
أحدهما: كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام)، الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام، فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضًا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما).
واستدلّ على ذلك بظاهر الإجماع والأخبار التي صرّحَتْ بكونهم ورثة الأنبياء وأُمَناء الرسل، وحصون الإسلام والقضاة، وسائر الروايات بالعناوين المختلفة التي قلنا أنها مختصة بالمفتي والقاضي ونحو ذلك.
ثم ذكر الأمر الثاني مما لهم فيه الولاية وهو: (كل فعل متعلّق بأمور العباد في دِينهم أو دُنْياهم ولابدّ من الإتيان به ولا مفرّ منه، إما عقلاً أو عادة من جهة توقُّف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه وإناطة انتظام أمور الدِّين أو الدنيا به، أو شرعًا من جهة ورود أمر به.. أو وَرَدَ الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعيَّن واحد أو جماعة، ولا لغير معيَّن، أي واحد لا بعَيْنه، بل عُلم لابدّية الإتيان به أو الإذن فيه، ولم يُعلم المأمور به ولا المأذون فيه: وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به ).
ثم استدل على الولاية أو الإذن بعد الإجماع بأَمْرين:
الأول: وحاصله أنه بعد العلم بلابدّيّة الأَمْر المذكور وبعد الفراغ عن حكمة الشارع ورأفته، فلا بد أن ينصب واليًا وقَيِّمًا ومتوليًا، ولا دليل على أحد كما تقدم، فالروايات المذكورة كافية في كونه المتعيِّن والمنصوب.
الثاني: وحاصله: أنه بعد عدم إمكان تَرْك الأَمْر بدون تَوْلية، فكل مَنْ يمكن أن يكون وليًا ومتولّيًا ويُحتمل ثبوت الولاية له، يدخل في الفقيه قطعًا، بعد كونه الأمين والمرجع.
ثم استطرد قائلاً: (إن ما ذكرناه يجري في جميع المقامات الفرعية والموارد الجزئية، ويندرج تحتهما جميع ما ذكره الفقهاء في المسائل الشخصية).
ثم ذكر أن الأمور التي هي وظيفة الفقهاء ومنصبهم ولهم الولاية فيه كثيرة، ُيعلم مواردها مما ذُكِر.
ثم تعرّض لبعضها: فمنها: الإفتاء، واستدل عليه باختصار، ثم ذكر أنه إذا وجب على الناس تقليدهم في علمهم وهدايتهم دلّ ذلك على حجية عِلْمهم على من يقلّدهم وهو محطّ رواية أبي خديجة، وتكون دالة على أنه إذا حكم بحُكْم ينسبه إلينا أو ما هو حكمنا باعتقاده يجب القبول، وليس المراد بالحُكْم خصوص ما يكون بعد الترافع، لأنَّ الحُكْم أعمّ لغةً وعُرْفا.
المحقق الهمداني (رحمه الله):
قال المحقق الهمداني (قدس سره) في (مصباح الفقيه):
(ولكن الذي يظهر بالتدبُّر في التوقيع المَرْويِّ عن إمام العصر (عجل الله فرجه)الذي هو عُمْدة دليل النصب، إنما هو إقامة الفقيه المتمسِّك برواياتهم مقامه بإرجاع عَوَامّ الشيعة إليه في كل ما يكون الإمام مرجعًا فيه، كي لا يبقى شيعته متحيِّرِين في أزمنة الغيبة، وهو ما رواه في الوسائل).
ثم ذكر التوقيع وقال: (ومن تدبَّر هذا التوقيع الشريف، يرى أنه (عليه السلام) قد أراد بهذا التوقيع إتمام الحجة على شيعته في زمان غَيْبته، بجَعْل الرواة حجة عليهم، على وجه لا يسع لأحد أن يتخطّى عما فرضه الله معتذرًا بغَيْبة الإمام (عليه السلام)، لا مجرد حجية قولهم في نقل الرواية أو الفتوى، فإن هذا -مع أنه لا يناسبه التعبير بـ(حُجَّتي عليكم)- لا يتفرّع عليه مرجعيتهم في الحوادث الواقعة، التي هي عبارة عن الجزئيات الخارجية التي من شأنها الإيكال إلى الإمام، كفَصْل الخصومات وولاية الأوقاف والأيتام وقبالة الأراضي الخراجية التي قصرت عنها أيدي الشخص الذي لا ولاية عليه شرعًا، وينصب شخصًا آخر قيِّمًا عليه في ضبط أمواله وصرفها في حوائجه، فليس لمن عنده مال اليتيم أن يمتنع من ذلك ويستعمل رأيه في التصرف فيه على حسب ما يراه صلاحًا لحال اليتيم، وكذا في الأوقاف ونظائرها وإن أفتى له الفقيه عمومًا بجواز التصرف فيها بالتي هي أحسن، فإنه لو امتنع عن دفع المال إلى من نصبه الفقيه قيِّمًا عليه بزعمه أن بقاءه الشخصي في ما رآه بعد أن نصب الإمام (عليه السلام) الفقيه حجة عليه في الحوادث الواقعة التي منها هذا المورد.
والحاصل: أنه يُفهم من تفريع (إرجاع العوامّ إلى الرواة) على (جعلهم حجة عليهم)، أنه أريد بجعلهم حجة إقامتهم مقامه في ما يرجع فيه إليه، لا مجرد حجية قولهم في نقل الرواية والفتوى، فيتم المطلوب.
إن قلْتَ: إنَّ القَدْر المتيقَّن الذي يقتضيه هذا التفريع إنما هو إقامته مقامه من حيث الولاية، بل لا معنى لجَعْله حُجَّة عليهم إلا وجوب إطاعته ونفوذ تصرفاته، فإنه في ما يُرجع إليه، ومقتضاه ثبوت منصب الولاية له من قِبَل الإمام (عليه السلام)، ولكن في ما من شأنه الرجوع إلى الإمام كالأمثلة المزبورة، كما هو المنساق إلى الذهن من الخبر، لا في كل شيء كي يقتضي ذلك الولايةَ المطلقة وكَوْنَ الفقيه كالإمام أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم.
وملخص الكلام: أنه غاية ما يمكن ادِّعاؤه، إنما هو دلالة هذا التوقيع على ثبوت منصب الرياسة والولاية للفقيه، وكون الفقيه في زمان الغيبة بمنزلة الولاة المنصوبين من قِبَل السلاطين على رعاياهم في الرجوع إليه، وإطاعته في ما من شأنه الرجوع فيه إلى الرئيس، وهذا غير مسألة النيابة والتوكيل في قبض أمواله كما هو المُدَّعى.
قلْتُ: يُفهم هذا عرفًا من إعطاء هذا المنصب لشخص بالفَحْوى، خصوصًا في ضَبْط أمواله الراجعة إليه من حيث الرياسة، كجمع الفيء والأنفال والأخماس، ونحوها مما هو كجَمْع الخراج من مناصب الرئيس.
وكيف كان فلا ينبغي الاستشكال في نيابة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى عن الإمام (عليه السلام) حال الغَيْبة في مثل هذه الأمور، كما يؤيِّده التَّتبُّع في كلمات الأصحاب، حيث يظهر منها كَونها لديهم من الأمور المسلَّمة في كل باب، حتى أنه جَعَل غيرُ واحد عُمْدَةَ المستنَد لعموم نيابة الفقيه لمثل هذه الأشياء هو الإجماع.
هذا مع أنه يكفي في المقام الشك، فإنَّ جواز التصدُّق به للعاميِّ موقوف على إحراز كَون سَهم الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى العاميِّ من قبيل المال الذي يتعذَّر إيصاله إلى صاحبه أو نائبه، وإلا فمقتضى الأصل حُرمة التصرُّف الذي لم يعلم برضى صاحبه به، فعليه الاحتياط إما بدفعه إلى الحاكم واستنابته في الصَّرْف إلى الفقراء، أو الرُّخصة منه بتوكيله في المباشرة، بل هذا هو الأحوط في مطلق الخمس، بل ربما نُسِبَ إلى بعضٍ القَوْلُ بوجوب دَفْعِ الجميع إلى الحاكم في زمان الغَيْبة، كما كان يجب دَفْعُه في زمان الحضور إلى الإمام نظرًا إلى عموم نيابته لمثل هذه الأمور)([4]).
السيد الخميني (رحمه الله):
تعرض السيد الخميني (قدس سره) في الجزء الثاني من كتاب البيع لمبحث ولاية الفقيه، بعنوان أن الفقيه من جملة أولياء التصرف في مال مَنْ لا يستقل بالتصرف في ماله فقال: (ولا بأس بالتعرض لولاية الفقيه مطلقًا بوجه إجمالي).
ونحن نذكر بعض ما كتب مما يهمنا التعرض له في محل الكلام:
قال: (إن الأحكام الإلهية، سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسات أو الحقوق، لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة.
ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي، وتتكفل لإجرائه، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها، لئلا يلزم الهرج والمرج، مع أن حفظ النظام من الواجبات الأكيدة، واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة، ولا يقوم ذا ولا يسد عن هذا إلا بِوَالٍ وحكومة، مضافًا إلى أن حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم عن غلبة المعتدين، واجب عقلاً وشرعًا، ولا يمكن ذلك إلا بتشكيل الحكومة.
وكل ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون، ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع، فما هو دليل الإمامة، بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (عجل الله فرجه)، سيما مع هذه السنين المتمادية..).
ثم قال: (يبقى الكلام في شخص الوالي، ولا إشكال على المذهب الحق أن الأئمة والولاة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)سيد الوصيين أمير المؤمنين وأولاده المعصومون-صلوات الله عليهم أجمعين- خلفًا بعد سلف، إلى زمان الغيبة، فهم ولاة الأمر، ولهم ما للنبي (صلى الله عليه وآله) من الولاية العامة والخلافة الكلية الإلهية.
أما في زمان الغيبة، فالولاية والحكومة وإن لم تُجعل لشخص خاص، لكن يجب بحسب العقل والنقل أن تبقيا بنحو آخر، لِما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك..).
إلى أن قال: (وعليه فيرجع أمر الولاية إلى الفقيه العادل، وهو الذي يصلح لولاية المسلمين.
فالقيام بالحكومة وتشكيل أساس الدولة الإسلامية من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء العدول، فإن وُفِّق أحدهم بتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتباع، وإن لم يتيسر إلا باجتماعهم يجب عليهم القيام اجتماعًا، ولو لم يمكن لهم ذلك أصلاً يسقط منصبهم، وإن كانوا معذورين في تأسيس الحكومة، ومع ذلك كان لكل منهم الولاية على أمور المسلمين من بيت المال إلى إجراء الحدود، بل على نفوس المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها..
ولا يلزم من ذلك أن تكون رتبتهم كرتبة الأنبياء أو الأئمة، فإن الفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم (عليهم السلام) فيه غيرهم، فالخلافة لها معنيان:
أحدهما: الخلافة الإلهية التكونيية، وهي مختصة بالخُلَّص من أوليائه، كالأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
وثانيهما: المعنى الاعتباري الجعلي، كجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)أميرَ المؤمنين (عليه السلام) خليفة للمسلمين، أو انتخاب فلان وفلان للخلافة، فالرئاسة الظاهرية الصورية أمر لم يعتنِ بها الأئمة (عليهم السلام) إلا لإجراء الحق..)، واستشهد بالخطبة الشقشقية لأمير المؤمنين (عليه السلام).
ثم قال: (وأما مقام الخلافة الكبرى الإلهية فليس هيّنًا عنده، ولا قابلاً للرفض والإهمال وإلقاء الحبل على غاربه، فللفقيه العادل جميع ما للرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة ولا يعقل الفرق، لأن الوالي، أي شخص كان، هو مجري أحكام الشريعة، والمقيم للحدود الإلهية، والآخذ للخراج وسائر الماليات، والمتصرِّف فيها بما هو صلاح المسلمين، فالنبي (صلى الله عليه وآله) يضرب الزاني مئة جلدة، والإمام (عليه السلام) كذلك، والفقيه كذلك، ويأخذون الصدقات بمنوال واحد، ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي، ويجب إطاعتهم..).
ثم ذكر الاستدلال ببعض الروايات، ومنها التوقيع الذي تقدم ذكره، ثم قال: (فيستفاد من قوله (عليه السلام) (أنا حجة الله، وهم حُجَّتي عليكم)، أن المراد أن ما هو لي من قِبل الله–تعالى- لهم من قِبلي، ومعلوم أن هذا يرجع إلى جعل إلهي له (عليه السلام)، وجَعْل من قِبله للفقهاء، فلا بد للإخراج من هذه الكلية من دليل مُخرِج فيُتَّبع..).
ثم استطرد، وقال في حديث (العلماء ورثة الأنبياء): (كما أنه (صلى الله عليه وآله) جَعَل الأئمة (عليهم السلام)خلفاء، ونصبهم للخلافة الجزئية، والفرق بينهم (عليهم السلام)وبين الفقهاء من هذه الجهة هو الفرق بين السلطان وبين الأمراء المنصوبين من قِبله في الأمصار، وبهذا يظهر أن جَعْل الخلافة للفقهاء لا يكون في عرض جَعْلها للأئمة (عليهم السلام) كما توهم..).
ثم قال: (فتحصل مما مرَّ ثبوت الولاية للفقهاء من قِبل المعصومين (عليهم السلام) في جميع ما ثبت لهم فيه، من جهة كونهم سلطانًا على الأمة، ولا بد في الإخراج عن هذه الكلية في موردٍ، من دلالة دليل دال على اختصاصه بالإمام المعصوم (عليه السلام)، بخلاف ما إذا ورد في الأخبار أن الأمر الكذائي للإمام (عليه السلام)، أو يأمر الإمام بكذا، أو أمثال ذلك، فإنه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول بالأدلة المتقدمة..).
ثم قال: (وأما إذا ثبت لهم ولاية من غير هذه الناحية فلا، فلو قلنا بأن المعصوم (عليه السلام) له الولاية على طلاق زوجة الرجل، أو بَيْع ماله، أو أَخْذِه منه ولو لم يقتضِ المصلحة العامة، لم يثبت ذلك للفقيه، ولا دلالة للأدلة المتقدمة على ثبوتها له، حتى يكون الخروج من قبيل التخصيص ).
([1]) المقنعة، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية: ج1 في باب الأمر بالمعروف ص810.
([2]) المقنعة:كتاب الوصَية.
([3]) عوائد الأيام ص186.
([4]) مصباح الفقيه: كتاب الزكاة، باب الخمس، ص 160-161.