كيفية تعيين الفقيه

ذكرنا في ما سبق: أن الدليل في باب التقليد قد دلّ على وجوب الرجوع إلى الأعلم كما حُرِّر في محله، لسقوط فتوى غير الأعلم عن الحجية عند التعارض مع فتوى الأعلم:

( إما ): للارتكاز العقلائي في الرجوع إلى أهل الخبرة، حيث يكشف الارتكاز عن لابدية الرجوع إلى الأكثر خبرةً، والأدلة اللفظية منصرفة إلى هذا الارتكاز.

(وإما ): لأنّ إطلاق الأدلة الشامل لكِلتا الفتوَيَيْن في حال الموافقة يحصل اليقين بسقوطه، لقصوره عن الشُّمول لغير الأعلم، لأنه يستحيل أن يشمل حجية كِلتا الفتوَيَيْن المتعارضتَيْن، حيث إن الخبرة في العلم معتبرة في الدليل، فإذا كانت هذه الخبرة مؤكَّدة في الأعلم أكثر فلا يلتفت العرف بمقتضى ارتكازاتهم إلى حجية فتوى غير الأعلم مع التعارض.

وأما في موضوع الولاية: فالأَمْر يختلف عن التقليد، فلا يجب أن يكون الوليُّ الفقيه أعلم، بل يكفي أن تجتمع فيه الصفات المتقدمة من النظر في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، نعم لا بد أن تتحقق فيه شروط أخرى من الكفاءة الاجتماعية والسياسية.

ويُفرَّع على ما ذكرناه: أنه إذا تعدد الفقهاء وكانوا كلهم واجدِين للصفات والشرائط، فمن هو الذي يتولّى الحُكْم بعد أن لم نشترط الأعلمية، وبعد أن كان كل واحد منهم صالحًا لأنْ يُرجع إليه في الأمور التي هو وليّ فيها، أو التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى الفقيه حِسبةً؟

فنقول: يمكن أن نفترض صُوَرًا متعدِّدة بالنظر إلى ما يُستفاد من الأدلة الشرعية بغضّ النظر عن التطبيق:

(الصورة الأولى): أن يتفق الفقهاء الموجودون على واحد منهم.

وهذا هو الأفضل والأمثل، مهما كانت الطريقة التي يتوصلون بها إلى اختيار هذا الواحد، وإن كان بينهم اختلاف في وجهات النظر في بعض المسائل من حيث أصل الحكم ومن حيث التطبيق، فإن هذا غير ضائر بعد أن كان حُكْمه نافذًا على أفراد المكلَّفِين وإن كانوا يُقلِّدون غيره.

وكذا ينفذ حُكْمه في حقِّ المجتهدين الآخَرِين، لا أقل من أنه يجب المحافظة على النظام العام.

(الصورة الثانية): أن لا يتفقوا على واحد معيَّن، ويتصدَّى واحد منهم لإدارة شؤون الدولة دون الآخرين، ولا إشكال في أنه يكون الوليَّ الفِعليَّ لتحقُّق موضوع الولاية، فتصبح ولايته فِعلية ويجب على أفراد الأمّة أن يرجعوا إليه.

(الصورة الثالثة): أن يتصدَّى أكثر من واحد.

ولا مانع بحسب العادة الجارية في الحكومات من أن يكون لكل هؤلاء القيمومة على إدارة شؤون الأمة ضِمْن الدولة، بتبادل الآراء والأدوار المباشرة أو بالتوكيل، بعد الاتفاق على الأسس العامة، وأمهات المسائل الشرعية المعروفة في الشريعة الإسلامية الراجعة إلى تدبير الشؤون العامة، التي لا تخصّ شخصًا بعَـيْنه، ولا يلزم من ذلك الهرج والمرج.

وفي هذه الحالة من المميِّزات ما لا يخفى، حتى لو اختلَفَتْ آراؤهم في المسائل الفقهية، فيتولّى كلٌّ منهم شأنًا من الشؤون على طريقة الحكومة الثابتة للوليِّ والقاضي، أو على أساس ولاية الأمور الحِسبية، فتكون القوانين العامة محلّ اتفاق، وتكون الفروع على أساس حُكْم الحاكم، إذ ليس المقصودُ الحُكْمَ الشخصيَّ لكل واحد، بل الشؤون العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية.

ولم يحصل اختلال نظام وفوضى في كل الدول، مع أنها كلها قائمة على هذا النحو، مع الاختلاف الجوهري في الأُسُس والقوانين الوضعية مع قوانين الشريعة الإسلامية.

علمًا بأن قوانين الوضع تتغير وتتبدَّل حسب رغبات الدول وتوجهاتها، بينما قوانين الشريعة ثابتة وخالدة ثبوت الإسلام وخلوده، وإن اختلفَتْ أساليب التطبيق في المكان والزمان والظروف التي تحيط بكل مجتمع.

ولا مجال للمناقشة بدخالة التصدِّي في فِعْلية الولاية، فإنَّ الولاية ثابتة بأحد الأنحاء المُفترَضة، وقد دلَّتْ الأدلة على إناطة شؤون الأمّة وأفرادها بالفقيه، فيجب عليه التصدِّي لذلك بمعنى القيام بوظيفته الواجبة، ويجب على الناس الرجوع إليه والأَخْذ منه بعد الفَحْص عن تمامية الشروط، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة.

وهذا معنى النظر في قولهم (عليهم السلام): (انظروا إلى رجل منكم قد عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا)، فإنَّ معناه الرجوع إلى أهل الخبرة في تعيين الفقيه الذي يصلح بتمامية الشروط للولاية.

ولو تصدَّى أكثر من واحد، يتعيَّن الرجوع إلى الأعلم، لأنه القدر المتيقَّن، وتعيينه أيضًا يكون بِيَد أهل الخبرة، (إما) ابتداء، (وإما) برجوع المكلَّفِين إليهم لأَجْل أن يمتاز من بين الآخرين.