كيف تثبت فقاهة الفقيه
لا معنى لأنْ يكون المكلَّفون هم الذين ينتخبون الفقيه، لأنهم ليسوا أهل خبرة، ولا فقهاء، وإنما الوليُّ منصوب من قِبَل الشريعة.
والتعرُّف عليه يكون من قِبَل (أهل الخِبرة)، كما هو الحال في سائر الحيثيات والتخصيصات التي يتعرَّف الناس عليها ويحتاجونها في جميع نواحي حياتهم، فإن التوصُّل إلى معرفتهم إنما يكون من قِبَل أهل الخبرة في ذلك الاختصاص.
وهذه هي الطريقة العقلائية المستمِرَّة، وليس في ذلك تحكُّم وظُلْم للأمّة، ولا دكتاتورية من قِبَل الشريعة، لأنهم هم الذين يفحصون ويتحرّون، ويرشد بعضهم بعضًا إلى ما توصَّل إليه، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([1]).
وأما ( الانتخاب ): فلا يعطي صِفة الولاية للفقيــه بحال من الأحوال، وإنما يجعله الفقيه وسيلة لانتخاب الدولة وأعضائها من قِبَل أفراد الأمّة، حتى إذا أراد أن يجعل رئيسًا للدولة له كفاءةُ إدارةِ شؤونِ الدولة في ظِلِّ ولاية الفقيه وتحت إشرافه، يكون الانتخاب أرضى لنفوس الشَّعْب وأَدْعى للالتزام بقوانين الدولة والمحافظة عليها.
فتكون الدولة هي التي تُطَبِّق أحكام الشريعة بعد انتخابها من قِبَل الأمّة، وتكون الأمّة قد مارسَتْ دَوْرَها في الخلافة القرآنية ضِمْن الإطار التشريعي بإشراف الفقيه، فيكون الانتخاب مشروعًا كممارسة عملية بغطاء من الوليِّ الفقيه.
وأما إذا كان الفقيه هو الحاكم ورئيس الدولة، فلا يحتاج في ولايته إلى انتخاب من قِبَل الأمّة.
نعم، يمكن انتخابه من قِبَل أهل الخبرة لإلقاء الحُجّة على أفراد الأمّة، بِكَشْف صفة الاجتهاد وسائر الشرائط المعتبَرة.
نعم، لو لم يكن هناك فقيه، وأرادَتْ الأمّة أن تمارس دَوْرَها بالأمر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكَر، يَصِحُّ لها حينئذ أن تنتخب مجموعة من أهل الخبرة في كل الاختصاصات والشؤون، لإدارة شؤون الدولة، ووَضْع قوانين التطبيق والصيانة للأمّة ومصالحها على ضوء الشريعة، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر}([2])، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}([3])، وهو المسمَّى في العصور الحاضرة بالمجالس النيابية، أو بمجلس الشعب أو بمجلس الشورى، على اختلاف الدول في هذه التسمية، ويعتبر هؤلاء الأعضاء أمناء على تنظيم شؤون الدولة.
وهذا الكلام لا يصح كلّه في تصوّرنا الشرعيّ والمشروع في ولاية الفقيه وكيفية وصوله أو إيصاله إلى ممارسة الولاية، بعد أن جُعِلَتْ له في مرتبة سابقة، وإلا فإنَّ مراحل التطبيق وإقامة الفرائض وإيصال الحقوق إلى أهلها وتطبيقها أَمْر خاضِع لظروف كلِّ أمّة أو مجموعة تريد إقامة دولة أو تبديل دولة، خاضع من حيث التطبيق لا من حيث أصل التشريع إلا بمقدار ما يؤدِّي إليه اجتهاد المجتهد، لأنَّ حلال سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
وهناك طريق آخر لإثبات فقاهة الفقيه وولايته -من ناحية صغروية بعد البيّنة-: هو (الشياع) المفيد للعلم الوجداني أو العلم التعبُّدي، كالاطمئنان الذي هو بمنزلة العلم تعبُّدًا، لدلالة الدليل على ذلك.
وكما نعتمد على البينة من أهل الخبرة في التقليد، كذلك نعتمد على الشياع في التقليد.
وكما نعتمد على هذين الأمرين في التقليد، كذلك نعتمد عليهما في إثبات الولاية، بلا فَرْق من هذه الجهة أصلًا.
وكِلا الأمرَيْن يجب على المكلَّفين السَّعْي لتحصيلهما، فإذا اكتفى عامة الناس بالبينة فهو طريق شرعي، وإذا لم يقتنع الكل فلا بدَّ لهم من السعي، لأنَّ هذا هو معنى النظـر الذي أمر به الأئمة (عليهم السلام) في قولهم: (انظروا إلى رجل منكم قد نظر في أحكامنا، وعرف حلالنا وحرامنا)، فإنَّ هذا لا يعني بالطبع أن كل مكلف يحتاج إلى شاهدَيْن من أهل الخبرة، بل الأمر للمجموع بأنْ يكلِّف بعضهم بعضًا، ويُوكِل بعضهم بعضًا.
فإذا حصلَتْ البـيِّنة واكتفوا، فهو، وإلا فمن الطبيعي عندما يسعى أكثر من فرد وأفراد للبحث فسوف يحصل الشياع المفيد للعلم، أو الاطمئنان على أقل التقادير.
والمراد بالشياع: هو الشياع بين أهل الخبرة من العلماء الفضلاء الذين يملكون قابلية التمييز والمعرفة بالاجتهاد.
وهذا الشياع قد يحصل فيما إذا أعلن أهل الخبرة أمام ملأ من الناس عن شهادتهم.
وقد يحصل بتكرُّر السؤال من قِبل المكلَّفين والإدلاء بشهادتهم أمام كل فرد أو مجموعة، بحيث تسأل كل مجموعة غير أهل الخبرة الذين سألتهم المجموعة الأخرى..وهكذا، وحينئذ يعلم الناس بوجود الشياع.
ولا يكفي الشياع بين الناس من غير العلماء، لأن هذا الشياع قد يحصل من أي سبب كان.
ويمكننا أن نقول: بأن الشياع مبدؤه البـيِّنة والبيِّنات، لأن كل واحد من أهل الخبرة لا بدَّ أن يكون من أهل العدالة والتقوى، فإذا سأل كل واحد أو مجموعة بـيِّنة غير التي سألها الآخرون، حصل الشياع عند أهل العلم، فيكون الكل معتقدين بهذا الفقيه، كلٌّ حسب بيِّـنته، وتنتهي البيِّنات إلى الشياع الثابت عند الكل.
فلو تعارضت البيِّنات في حق الفقهاء المتعدِّدين، لا تكون هناك منافاة، بل يثبت أن هؤلاء المتعددين كلهم فقهاء، فيقع الكلام بينهم في كيفية تعيين الوليِّ أو تعـيُّنه: (إما) بانتخاب أهل الخبرة، بشهادتهم على أفضليته في شأن الولاية. (وإما) بالاتفاق بين الفقهاء أنفسهم. (وإما) بتصدِّي أحدهم مع عدم معارضة الآخرين، على النحو الذي تعرَّضنا له في ما سبق.
فكما أن الشياع حجة على المكلَّفين، كذلك البـيِّنة لو اطلعوا عليها واقـتنعوا بها، هي حجة عليهم.
وأما ما يقال: من أنه في الشأن الاجتماعي لا نستطيع أن نقول بكفاية اثنين من أهل الخبرة.
فهو مردود: بأنه لا يحق لنا أن نقول يكفي ولا يكفي من الناحية الشرعية، بل نقول إن بينة واحدة قد لا يقتنع بها بعض الناس -كما أشرنا إليه- فيحتاجون إلى الشياع، وإلا فإنَّ البـيِّنة حجة بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة، ويثبت بها كل ما نحتاج إثباته من الموضوعات التي تترتب عليها الأحكام الشرعية، ولا نعلم استثناء إلا في الزنى الذي يحتاج إلى أربعة شهداء.
فالاكتفاء بالبـيِّنة في مرجع التقليد الذي هو الفقيه، كما في الوليِّ الذي هو الفقيه أيضًا، لأن البـيِّنة تشهد للمجموع إذا كانت واجدة للشرائط.
فلو لم يحصل شياع، أو كان ولم يمكن الحصول عليه، فالبينة هي الحجة لإثبات فقاهته.
فإذا قلنا بأننا لا نستطيع أن نكتفي بالبينة، فهذا من القوانين الوضعية لإثبات الفقاهة التي هي موضوع الحكم، وهو معارض للتشريع بلا إشكال، لأن الذي ينصّ القانون الوضعيَّ هو مجموعة تنتهي إلى موافقة الأكفّاء منهم، مع أنه من صُنْع البشر، ومُواِفق لغرائزهم وتطلُّعـاتهم، بينما قوانين الشريعة وضَعَها خالق البشر وصانعهم، وهي ناظرة إلى كل البشر.
وعندما يفتي الفقهاء بعدم قبول البـيِّنة التي تشهد برؤية الهلال، مع صفاء الجوِّ وعدم رؤية سائر المسلمين للهلال ، يقولون بأن البينة لم تسقط عن الحجية، وإنما يُشك في خطئها، بحيث يحصل الاطمئنان بعدم صحتها، مع أنهم يفتون بالهلال استنادًا إلى البينة عندما لا يكون هناك صَحْو وصفاء في الجو، وهذه البـيِّنة سوف تكون حجة على جميع المسلمين، إن أفتى المجتهد أو حَكَم، أو إن اطلعوا عليها وإن لم يكن هناك مجتهد يفتي.
فالبـيِّنة حجة على كل حال، حتى بشهادتها في فقاهة الوليِّ، وهي حجة على من قامت عنده تعبُّدًا، وأما الشياع فهو حجة بالتعـبُّد لحصول الاطمئنان بــه، والاطمئنان قد دلَّ الدليل على حجيته.
نعم حجية الشياع أقوى، لأنه كلما حصل الشياع كانت في ضِمْنه البـيِّنة، وقد تحصل البـيِّنة ولا شياع، وكلها حجة على كل حال، وليست في الأدلة اللفظية ما يُوجِب استثناءها في هذا المقام.
وكونها أحد الأدلة، أو هناك دليل أقوى منها في شموله لقناعة العدد الكبير من الناس، لا يستوجب التخلِّي عنها والاعتذارَ بأننا لا نتمكن من العمل بها.
نعم، البـيِّنة تنفع في إثبات الفقاهة، وأما الشؤون الاجتماعية الأخرى فهذه لا تكفي فيها شهادة الواحد، بل العشرات، لا لعدم حجية أقوالهم، بل لأن شهادتهم بكفاءته تابعة لوجهة نظرهم، وهي أمر حدسي، لا تقبل فيه الشهادة، بل الشهادة إنما هي في الأمور الحِسِّية.
فلا بدَّ في سائر الأمور، غير الفقاهة والعدالة والتقوى، من الشهرة والشياع بين أهل كل اختصاص من الشؤون والمواصفات التي يطلب توفُّرها في الوليِّ الفقيه.
([1]) التوبة: 71.
([2]) التوبة: 71.
([3]) الشورى 38.