وِحْدة الوليّ وتعدُّده
هل يجوز أن يكون الوليُّ على جميع الأمة واحدًا؟
أو يجوز أن يكون متعدِّدًا بحسب المناطق والمجتمعات؟
وعلى تقدير وجود الوالي الواحد في بلد واحد، أو في جميع البلدان، سواء أقلنا بجواز التعدد أم بوجوب الوحدة:
فهل يجب على هذا الوالي الاستشارة قبل الجزم بالحكم؟
أو أنه يجوز له أن يتَّخذ القرار النهائي، بلا مراجعة أهل الخبرة في ذلك الشأن؟
لا إشكال في أن هذا البحث لا حاجة له، ولا لمعرفة الحكم فيه، في عصر الإمام المعصوم (عليه السلام)، لأن الإمام في كل عصر هو إمام لكل الساحة الإسلامية وإن وجد إمامان في عصر واحد، لأن الإمامة الفعلية هي لأحدهما لا محالة، ولكنَّ وحدته لا تدل على ضرورة وحدة الولاية للوليِّ الفقيه، ولا على الانفراد بالقرار، كما لو علمنا بأن إمامًا معصومًا استشار في عصره، فهذا أيضًا لا يدل إلا على جواز الاستشارة، لأن سبب استشارته إذا كانت، ليس لشكٍّ في حُكْمه، فإنَّ الإمام ينظر إلى الواقع ويصيب الواقع لعصمته، بالعلم الذي أودعه الله-تعالى- عنده، وهذا من الضروريات في الإمامة.
والروايات التي دلَّتْ على عدم إمامة إمامَيْن في عصر واحد مختصَّة بالمعصومين، خصوصًا بملاحظة مضامينها ومتونها، فالتعدِّي من هذه الروايات إلى غير المعصوم لا دليل عليه.
فمن تلك الروايات: رواية الحسين بن أبي العلاء قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا، قلت: يكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت)([1]).
وفي رواية أخرى للحسين المذكور عنه (عليه السلام): (قلت: فالإمام يعرف الإمام الذي من بعده؟ قال: نعم، قلت: القائم إمام؟ قال: نعم، إمام ابن إمام قد اؤتم به قبل ذلك)([2]).
إلى غير ذلك من الروايات، وهي كثيرة في خصوص الإمام المعصوم كما هو ظاهر، فلا يمكن أن يستفاد منها وحدة الولاية للفقيه، ولا عدم وجوب الاستشارة، ولذا لا يكون إمامان مفترضا الطاعة في عصر واحد، بل هو إمام واحد ولا يحتاج إلى الاستشارة.
وأما الفقهاء: فكلُّهم لهم الولاية في وقت واحد.
فإذا كانوا في بلد واحد: فالأمر واضح، لأن الوليَّ منهم واحد -كما تقدم- بعد قيامه، أو التوافق معه، أو تأييده من قبل الآخرين بمقتضى تكليف الجميع عندما يعمل كلٌّ منهم بمقتضى حُكْمه الشرعي وولايته.
وأما إذا كانوا في بلاد متعددة: فهل تتعدد الولايات والحكومات بحسب المناطق؟ أو يجب أن يكون الوليُّ للجميع واحدًا؟
فقد يستدل على وجوب وحدة الوليِّ: بما دلَّ من الآيات والروايات على أن المسلمين أمة واحدة.
وبما دلَّ على اعتصام الجميع بحبل الله-تعالى-.
وبما دلَّ على توحيد الكلمة.
وبما دلَّ على أن من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكذا مثل: من فارق جماعة المسلمين وإن قلُّوا، ومثل: للمسلمين رأس واحد، ونحو ذلك من المضامين الواردة في الآيات أو الروايات.
وبأن هذا المعنى مرتكز في أذهان المسلمين، ولذلك وقع الخلاف في السقيفة على الإمامة الموحدة، وكذلك ما حصل في صِفِّين، فإن معاوية لم يطالب بتقسيم الولاية، وإن نقل عنه ذلك وأنه طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمقاسمة بين الشام والعراق.
وهذا النوع من الاستدلال من أغرب أنواع الاستدلال!!
فإننا نعلم أن القرآن خطاب لجميع المسلمين، وكذلك الروايات، فإن كل الأحكام التي وردَتْ هي لجميع المسلمين الذين كانوا في بلاد متباعدة، وشعوب مختلفة، فأيُّ علاقة لهذا بوجوه الولاية!؟
وكيف يمكن أن نستدل بذلك على أي شأن من الشؤون، فضلاً على أن نستدل به على أمر خطير مثل وحدة الولاية!؟
وما ذُكِر من الارتكاز ووحدة الأمة: فإنما هو في أصل الإمامة والخلافة، وقد تعاقبت على هذه الأمة الولايات المزيَّفة والكافرة على مرّ العصور الإسلامية، فهو نزاع في أصل الخلافة، التي تعني الإمامة والولاية على كل الأمة، وهذا خارج عن محل الكلام.
فإذا ادَّعى الإمامة من ينكر النَّص ومن ليس أهلاً لها، فهو يدَّعي الإمامة، ولا يدعي ولاية الفقيه المتفرِّعة عليها.
فلا يمكن الاستدلال بارتكازهم في وحدة الإمامة على وحدة ولاية الفقيه.
كما لم نستدل ولا نستدل بكل القرآن والروايات التي تُعنى ببيان العقائد والأحكام، وكيفية السلوك والتعامل، وتطبيق هذه الشريعة الغـرَّاء.
والحاصل: أن هذا النوع من الاستدلال هو استدلال خجول، لأنه يخلو من المضمون العلمي الفقهي بدرجة كبيرة.
وأما القول بالتعدد:
فبالنسبة للموارد الخاصة التي تتعلق بالأفراد، كالقضاء، والولاية على القاصرين، والأوقاف، وغيرها من الشؤون الجزئية في موارد متعددة، فهذه لا يدعي فقيه الوحدة فيها، لأن مجرد مراجعة الفقيه في هذه الأمور، وتصديه لها يكفي في ولايته، وليس لفقيه أن يمنع فقيهـًا آخَر عن التصدِّي لهذه الأمور، أو يردَّ حُكْمه في مرافعـة، أو ولايته في مورد.
ويدل على ذلك صريحًا: ما تضمَّنته مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، حيث إن أهل الحاجة إلى القضاء والولاية ينظرون ويبحثون عن الفقيه ويرجعون إليه.
على أن الولاية في مثل هذه الأمور ذات موضوعات متعددة، وراجعة للأفراد والموارد الخاصة في أماكن مخصوصة، لذلك يرجعون إلى من تتوفر شروط الوليِّ بعد الفحص عنه، أو بعد الفراغ عن معرفته مسبقًا، فيرجعون إليه.
إنما الكلام في الولاية على المجتمع، التي هي ذات موضوع واحد، فهل يمكن فيها التعدد؟ أو لا بدَّ من الوحدة؟
ومعنى التعدد: أن يكون كل واحد وليًا في دولة معينة، ويكون كل واحد منهم وليًا من قبل الحجة (عجل الله فرجه)، لأنه حي يرزق، غايته أنه لا يمكن اللقاء به، وأما هو (عجل الله فرجه): فإنه يطَّلع ويعلم بما يجري في هذه المجتمعات البشرية على كلّ الكرة الأرضية، فيمكن أن يفعل في غيابه، كما فعل هو أو غيره من الأئمة (عليهم السلام) علنـًا أو سِـرًّا، حيث كان يوكّلهم وهو غائب، ولا فرق بين الحالتين.
فيكون فقهاء متعددون في مناطق متفرقة، وكلٌّ منهم وليٌّ في تلك المنطقة، ولا تزاحم ولايةُ أحدهم ولايةَ الآخَر، ليقال بلزوم الفوضى مع تعدد الحكام والأحكام، لأن الأحكام تختلف باختلاف موضوعاتها، والموضوعات في كل شَعْب أو منطقة تختلف عنها في المنطقة الأخرى، بعد الفراغ عن أنه لا تشترط الأعلمية في الوليِّ الفقيه -وإن اشترطناها في مراجع التقليد لأنه يمكن الاطِّلاع على فتوى المرجع في جميع أنحاء العالم-.
وأما الوليُّ: فيستحيل بحسب العادة، وحتى عقلاً، أن يكون وليًا في جميع أنحاء العالم، لكل الأمور العامة، بحسب المناطق المختلفة، ليتصدى لكل الشؤون.
وقد كان ذلك جائزًا ثبوتًا وإثباتًا بالنسبة للإمام (عليه السلام) في حال حضوره، وهو الآن موجود وحيٌّ يعرف جميع الشؤون.
وحيث إنه هو إمام الزمان الذي ينصب الأولياء، فكل فقيه في كل منطقة يكون وليًا من قِبله مباشرة.
وهذا أَوْلى، بل لا تصل النوبة إلى أن نقول أن الفقيه هو الذي ينصب الأولياء في كل العالم، وبإمكانه أن يحكم جميع العالم بوكلائه، فإنه ليس أَوْلى من الإمام (عليه السلام) بذلك، فإن الفقيه غير موجود في كل تلك المناطق، وغير مطَّلع عليها، والإمام (عليه السلام) الذي جعل الولاية الأصلية موجود ومطَّلِع.
والإطلاق المقامي يقتضي ذلك بمناسبات الحكم والموضوع، فإن الإمام (عليه السلام) عندما جعل الولاية للفقيه فهو في مقام بيان جميع ما تحتاجه الأمة من قِبله، في كل مكان وزمان، فهذا يعني أن كل فقيه له هذه الولاية.
وجَعْل هذه الولايات للفقهاء في عرض واحد لا مانع منه، إلا في المكان الواحد حيث يجب عليهم عدم نقض الحكم من قبل أحدهم للآخر.
وأما في البلدان المتفاوتة المتباعدة، والتي تختلف مصالحها عن الأخرى، فجَعْل الولاية يقتضي أن يكون كل فقيه وليًا وحاكمًا على نفس المجتمع، كما هو وليٌّ في الأمور الفردية ذات الموضوعات المتعددة، فإن تعدُّد البلدان هنا أيضًا ذو موضوعات متعددة.
فلو تصدَّى الكلُّ في بلادهم المتباعدة، وتمَّتْ حكومته وولايته الفعلية، ورضخ المؤمنون لحُكْمه في تلك الدولة، فما هو الموجِب لأَنْ يكون الآخَر متوليًا على نفس هذه المجموعة، ما دام الكل يحكمون باسم الإسلام، وما دامت ولايتهم جميعًا -على تفرقها وتباعدها- محكومة بسقف الأحكام الإسلامية وإن اختلفت آراؤهم الاجتهادية، لأن هذا الاختلاف يكون غالبًا في وجهة النظر في الأمور الفرعية التي تخصّ بلدهم.
وأما في الشأن الإسلامي العام الذي هو إظهار عظمة الإسلام وأحقيته، والمحافظة على مبادئه وقواعده الأساسية، فهذا لا يقع فيه الاختلاف إلا من حيث الأسلوب الذي ينحل بالاجتماع والتشاور، فيستقرُّون على رأي واحد بالنسبة للقواسم المشتركة، ويحكم كل منهم برأيه في ما يخصّ منطقته كما ذكرنا.
والحاصل: أن هذا المعنى يقتضيه سياق جَعْل الولاية من قِبل الأئمة (عليهم السلام)، لأن كل إمام هو إمام، حـيًّا وميـتًا، ويستفاد منه بوضوح أنهم (عليهم السلام) في مقام رعاية شؤون مواليهم وتابعيهم، في حال حضورهم وعند غيابهم، لذلك يكون جَعْل الولاية للفقيه على نحو القضية الحقيقية لكل فقيه، وتكون هذه الولاية فعلية عند الممارسة في أي مكان وزمان.
وقوله (عليه السلام): (فارجعوا إلى رواة حديثنا فإنهم حُجّتي عليكم)، هو من مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التفريق، فيكون كل فقيه حجة على مجموعته، والإمام (عليه السلام) حُـجّة على الجميع.
وكذلك قوله (عليه السلام) فيما تقدم: (فإني قد جعلته حاكمًا)، يقتضي الإطلاق لكل فقيه، لأن هذا الإطلاق يستفيده الفقيه، حيث إنه يستفيد جَعْل الولاية له، كما يستفيد جَعْلها للآخرين، ولا يستفيد كل فقيه إطلاق حجيته لكل بقاع الأرض.
وهذا هو المستفاد من الدليل العقلي الذي هو حفظ النظام وغيره.
والدليل العقلي وإن كان لُبّيـًّا يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن -وهو ولاية الفقيه في المنطقة التي هو فيها واستعمل ولايته في هذه المنطقة-، لأن الدليل العقلي في هذا المورد لا معنى لأن يُتكلم في إطلاقه وعدم إطلاقه، فهو قاعدة عقلية من قبيل الكبرى الكلية، ويطبقها الفقيه على مواردها، سواء أكان في أصل الولاية أم في موارد التطبيق.
ودليل حِفْظ النظام كما يُحتِّم على الفقيه أن يفعل ذلك في بلده، كذلك يُحتِّم عليه أن لا يعارض الآخَر، أو أن لا تمتد ولايته إلى الآخَر، لأنه مخالف للنظام العام، فإن نظام كل أمة ومصلحتها يختلف عنه في الأمة الأخرى من الناس المسلمين، حسب اختلاف نوعيات هؤلاء الناس ومناطقهم الجغرافية.
فالدليل العقلي بمقتضى حفظ النظام في كل المناطق مجتمِعة -إذا أمكن- ومتفرِّقة، فإنها كلَّها مشمولة للدليل العقلي من باب التطبيق، أي تطبيق هذه القاعدة على مواردها، لا بالإطلاق ليقال بأنه لا إطلاق للدليل اللُّـبِّي، أو يُبحث له عن نتيجة تؤدي إلى الإطلاق.
فهذا الدليل ينطبق عند كل فقيه على كل مجموعة من المسلمين، ويجب على كل فقيه أن ينفِّذه مع الإمكان، ويقوم بحفظ النظام بالنحو الذي يناسب مناطقه.
فالاستفادة منه على نحو الاستغراق، لا على نحو العموم المجموعي، لا نعني بذلك العموم اللفظي، بل عموم القاعدة وشمولها لكل مواردها، إلا مع التخصيص، وليس هنا مخصِّص.
على أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص، لأن الخارج عن القاعدة العقلية يكون خروجه موضوعيًا لا حكميًا أي بالتخصُّص وما بحُكْمه كالورود والحكومة.
وهكذا الحال في دليل الحِسبة: فإن فيه سعة وشمولاً لكل فقيه على نحو الاستغراق، في كل مكان وزمان يمكن فيه ذلك، فهو قاعدة كلية لها موارد، لأن رضى الله-تعالى- واحتساب الواقعة أو الوقائع عليه لا يقبل التخصيص.
ولا فرق بين وجوب حفظ النظام ودليل الأمور الحسبية القُرْبيّة، فإن إقامة الحكم الإسلامي وولاية الفقيه مصداق لوجوب حفظ النظام وهو من الأمور الحسبية.
([1]) الكافي ج1: كتاب الحجة، باب الأرض لا تخلو من حجة ح1.
([2]) كمال الدين وتمام النعمة: باب 22 الأرض لا تخلو من حجة ح17.