الأعلمية والولاية
لقد كثر الكلام عن وحدة المرجع وولي الفقيه وتعدده إيجابًا ونفيًا، لزومًا وجوازًا.
ونظرًا لما تقدم: من أنه يشترط في التقليد الأعلمية، ولا يشترط ذلك في الولي الفقيه بالنسبة للأدلة الإجتهادية، نعم يشترط كونه أعلم وأعرف وأكفأ بالنسبة للأمور الاجتماعية والسياسية، ولو اشترطنا الأعلمية في ولي الفقيه في سائر الأمور الفقهية أيضًا، يلزم تعدد الأولياء، لاختلاف الآراء في تشخيص الأعلم.
وأيضًا قيل: بأن المرجعية شأن فردي لأفراد المسلمين في أمورهم وتكاليفهم الشخصية، لا بما هم مجتمع إسلامي كامل يحتاج إلى المرجعية.
وعليه: فلا تناقض ولا تنافي بين اعتبار الأعلمية في المرجع وعدم اعتبارها في الولي، دون ما إذا اعتبرناها شأنًا إجتماعيًا عامًا.
وقيل: بأن المرجعية ليس لها في الواقع العملي للمرجعيات هذا الدور الاجتماعي على مرّ العصور، باستثناء بعض الحالات النادرة، وعليه فيجب أن يكون للمرجعية شأن اجتماعي في أنظار المكلفين، وهذا الدور موجود في نظر الناس، فيجب أن يكون موجودًا من قبل المرجعيات.
وحينئذ، يقول أصحاب هذا الرأي بلزوم اتحاد المرجعية والولاية، بمعنى أن الولي إذا كان هو الأعلم فهذه أفضل الحالات، بل إذا اشترطنا في مرجعية التقليد الشأن العام وجب كون الأعلم هو الولي.
إلى غير ذلك من التفصيلات والاحتمالات التي خلت منها الروايات، إلا ما ورد من الترجيح في باب المرافعة وفي تعارض الروايات، من الترجيح بالأعدل والأفقه والأشهر وموافقة الكتاب ومخالفة المخالفين.
والذي نريد قوله هنا:
أن هذا البحث ليست له ثمرة عملية على المستوى الفقهي، ولا على الوضع الاجتماعي العام في التشريع الإسلامي:
أما من الناحية الثبوتية:
فالمجتهد العادل الجامع للشرائط يصح تقليده، وكذلك يصح أن يكون وليًا في الشؤون الاجتماعية العامة، ولا فرق بينهما من هذه الجهة.
وأما من الناحية الإثباتية:
فقد دل الدليل -كما تقدم- على أن هذين الأمرين قد ثبتا للمجتهد العادل الجامع للشرائط، فالتفريق بينهما من ناحية الكفاءة الاجتماعية والسياسية في غير محله.
وعليه فلا مجال لهذا البحث، أعني وحدة المرجعية مع الولاية، وتعددها من هذه الجهة.
نعم يمكن التفريق بينهما من حيث الكبرى:
فقد لا يرى بعضهم من الناحية الفقهية أن للفقيه صلاحية الولاية بالشكل المطلوب، بينما يرى الآخر ثبوت الولاية، وفي مثله لا محل للبحث عن الوحدة والتعدد.
وقد يرى كل منهما صلاحية الفقيه للولاية، ولكنهما يختلفان في الرأي من حيث توفر الشروط المعاصرة وعدم توفرها، فأيضًا لا محل لهذا البحث.
وإنما اللازم -كما تقدم- بحكم معرفتهما بعدم جواز الاختلاف المؤدي إلى إهانة الشأن الإسلامي وإلى اختلال النظام، هو أن تسير الأمور بشكل طبيعي بالنسبة إلى رأي كل منهما بلا نزاع ولا هرج ومرج، ويجب عليهما تفادي كل السلبيات التي تؤدي إلى أي خلل داخل المجتمع.
ونحن لا نفترض وجود فقيهين فقط، بل نفترض وجود صنفين من الفقهاء: أحدهما يقول بالولاية، والآخر ينفيها.
هل تشترط الخبرة الاجتماعية والسياسية في الفقيه الولي ؟
والذي دعا إلى البحث في هذه المسألة -من حيث الصغرى- هو تصور اشتراط الخبرة الاجتماعية والسياسية في الولي الفقيه، أو عدم وجودها غالبًا في مرجع التقليد -كما قيل-.
وهذا من غرائب الكلام -وإن لم يصدر أو لا نعلم بصدوره من الفقهاء-.
وإذا حصل كلام من هذا القبيل، فهو مورد خاص وبحث صغروي، من حيث أنه هل وُجد مرجع من هذا القبيل أو لم يوجد ؟
وقد أشرنا في أول تقديم هذا الكتاب إلى هذه الناحية، وأن المراجع على مرّ العصور المتمادية، كانوا بأعلى مراتب الخبرة في ظروف زمانهم الاجتماعية والسياسية.
وبغض النظر عن هذا الواقع الخارجي، فإننا لا نسلم من الناحية النظرية افتراض الكفاءة المذكورة في فقيه مجتهد دون آخر، خصوصًا بعد أن يكون قد مارس ثمرات اجتهاده وفتاواه، فإن المجتهد كما أن له رأيًا في الأحكام الفردية للأشخاص في تكاليفهم الخاصة، كذلك له فتاوى في علاقتهم بالمجتمع، وفتاوى في شؤون المجتمع بشكل عام.
كفاءة التطبيق:
وأما كفاءة التطبيق: فهي من الكفاءات قطعًا، وهي موجودة في كل مجتهد فقيه.
ولكن الاطّلاع على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، أمر يمتلكه العوام الأميُّون، فضلاً عن العلماء المجتهدين الذين يبتلون يوميًا بالسؤال والجواب من المقلِّدين المؤمنين، الذين يعرفون بأن كل واقعة في الشريعة الإسلامية لها حكم.
ولو لم يُقدّر للفقيه أن يطّلع بالاطّلاع المباشر في غير دائرة الاستفتاءات والفتاوى، فهو يطلع كفرد في هذا المجتمع على الأوضاع أكثر من غيره من الأناس الآخرين، لأنه يلتقي به مختلف النوعيات والاختصاصات، وتعرض عليه مختلف المسائل.
هذا كله بالإضافة إلى أنه لا بد وأن يكون عنده خبراء متنوعون في مختلف الشؤون، لأنه لا يمكن لفرد واحد أن يدير بالمباشرة كل شؤون المجتمع وإن كان يمكنه الاطلاع عليها.
نعم قد يختلف الفقيهان في تطبيق الأحكام الكليّة المفروغ عن شرعيتها على مواردها الاجتماعية والسياسية، وهذا لا يسوِّغ لنا أن نعطي صفة >الكفاءة< لمن يوافق رأينا ورغبتنا، ونسلب هذه الصفة عن الآخر، فإن هذا يعني سلب الكفاءة عن الكل، لأن اختلافهم في هذا النحو من التطبيق، لا يختلف عن اختلافهم في استنباط الحكم من النص بظهوره وإطلاقه وعمومه، أو من حيث نظر بعضهم إلى ألفاظ النص وعنوانه، ونظر الآخر إلى روح النص ومضمونه، فيختلف التطبيق لا محالة وتختلف الفتوى.
الفقهاء كلهم ذوو خبر وكفاءة
والحصيلة النهائية التي نريد إثباتها:
أننا لا نوافق على دعوى كفاءة اجتماعية وسياسية عند أحدهم دون الآخر، بل كلهم من أهل الكفاءة والخبرة، حتى من كان بصره مكفوفًا، أو كان به صمم، فإن لهم سيرة وتاريخًا، لأن الله قد أعطاهم البصيرة الكاملة، والوعاء النظيف، للاحتفاظ بشريعة سيد المرسلين، كما أعطاهم القلوب السليمة، ولذلك أودع الله في هذه القلوب الصافية نور العلم الديني والشريعة الغراء، كما حصل في زمن العلمين الجليلين السيد اليزدي والشيخ الآخوند الملا كاظم الخرساني قدس الله أسرارهم ونفوسهم الزكية، ورفع درجتهم وجزاهم خير الجزاء عن هذه الأمة بما قدموا لها -تبعًا لمن سبقهم من الفقهاء العظام- من فقه، وأصول، ومبادئ دينية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن قداسة، وتقوى، وقرب من الله تعالى.
فلا فرق إذن بين فقيه وآخر من حيث كل الكفاءات، وإنما الاختلاف -بعد الأعلمية-: في التصدي الفعلي، مع النجاح أو مع عدم النجاح، وفي عدم التصدي، لعدم موافقة ذلك لرأيه، إما كبرويًا أو صغرويًا.
وهذه الفروق لا تستدعي ولا تتطلب بحثًا عن الوحدة والتعدد.
وإن كان لا بأس بطرح هذا البحث للوصول إلى النتيجة، فإن البحث والنقاش، والأخذ والرد، والرأي والرأي الآخر، يوصل إلى النتيجة الجيدة لا محالة.
وفي جميع الأحوال: لا يحق لنا أن نعطي الأحكام والفتاوى للمجتهد الذي يتصدى أو لا يتصدى، والذي يوافق أو لا يوافق فإن هذا من اللهو والتسلية.
نعم قد يوجد من لا يردعه علمه وورعه عن التصدي ضد الولاية لسبب ولآخر، أو عن الطعن بالولي الفقيه أو العكس.
وهذا لا يعطينا الحق أكثر من التنبيه والوعظ من قبل المجتهد الآخر، لا من سائر الناس، ولا يحق لنا أن نطعن بكل مجتهد لا يوافق رأينا في المسائل التي نقتنع بها، لأن هذا الطعن سوف يقابله طعن آخر، كالدولاب الذي يدور ويستعرض الكل، وستكون النتيجة أن الكل بشهادة الكل هم على غير الحق، ونعوذ بالله من شر هذه النتائج، وسلبياتها التي تستوجب بُعد المؤمنين عن العالم والمجتهد.
وقد حصل ذلك قديمًا وحديثًا، ولكن لا في تضعيف العلماء والمجتهدين، بل في صفوف المتعلمين المحسوبين على العلم ورجال الدين، وأنتج ذلك ما يعرفه كل من عاصر هذه الظروف، لأن الناس يدّعون أن العلماء هكذا حتى لو لم يقتنعوا بأنهم من العلماء، فإن المحسوبية على العائلة العلمية الكبيرة تكفي -بنظرهم- مبررًا لهؤلاء الناس بالابتعاد عن الجميع والطعن غير المبرر.
والحاصل: أن انقياد المجتهد المرجع لأحكام الولاية وإن لم يَقُل بها، تابع لرأيه، وحيث إنه يقول بوجوب حفظ النظام وبالأمور الحسبية التي قال بها كل الفقهاء، فسوف يؤدي نظره إلى أن المخالفة التي تؤدي إلى ضعف الولاية على الأمة وإلى الإختلال في النظام، هي من الأمور الحسبية التي لا يجوز تركها، فسوف يترك هذه المخالفة.
هذا كله حال الفقيه المجتهد بالنسبة إلى المجتهد الآخر الولي.
الكلام في وظيفة العامي
وأما بالنسبة للعامي المقلد: فإنه يعمل برأي مقلده وإن لم يكن ممن يقول بولاية الفقيه، فهو يفتي له بما لا يتعارض مع الولاية التي هي نافذة حتى في حق المجتهد الآخر في الجملة.
وأما شؤون المكلف الخاصة، التي لا تخل بالنظام العام، ولا يكون متابعة الولي الفقيه فيها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركها، فإنه يفتي له برأيه وإن خالف رأي الولي وحكمه الذي لا يكون نافذًا في حق هذا الشخص.
وبعد هذا كله فلا فرق بين وحدة الولاية والتقليد وتعددها، فلا معنى للبحث عن وجوب الوحدة والتعدد وعدمهما.
عصمنا الله من الزلل ووفقنا للعلم والعمل إنه ولي التوفيق والقبول.