المقارنة بين الولاية وبين سائر الأحكام الشرعية
نقل عن السيد الخميني(قدس سره) في بعض كلماته أنه قال:
(إن الملكية الشخصية إنما تكون محترمة إذا كانت مشروعة، ولكن من صلاحيات الولي الفقيه التدخل وتحديد الملكية الشخصية حتى وإن كانت مشروعة، فالإسلام لا يعترف بالملكية الواسعة جدًا وإن كانت قد تجمّعت من طريق مشروع، ويحق للفقيه الحاكم الشرعي مصادرة ما يزيد عنها، والتشخيص في هذا الموضوع متروك إليه).
ونقول:
لا نعلم في الشريعة الإسلامية حدودًا للثروة بواسطة الكسب المشروع.
وما يقال: من أن الثروات الفاحشة لا تجتمع إلا من الكسب الحرام.
فهذا بالإضافة إلى أنه ليس مقولة شرعية، فهو تحديد لمصادر الثروة وأسباب الكسب، وهو يعني أنه بحسب العادة لا تجتمع الثروة الفاحشة من الطرق المحلَّلة، وهذا مُسلَّم، إذ كما أن الثروة تجتمع بالأسباب المحرمة، تجتمع كذلك بالأسباب التي أحلَّها الله-تعالى-، وهي محترمة ومشروعة، ولم يرد نَهْيٌ عنها لا في القرآن الكريم ولا من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)والمعصومين (عليهم السلام).
كما لا يوجد فيما نعلم، دليل أو إشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله)قد حدّد الثروة، لا بالعدد المعيَّن من المال، و لا بالنسبة المعيَّنة، ولا إلى أي شيء تكون هذه النسبة، وإن كانت له الولاية على الأموال و الأنفس، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا كان له الحق فهو من باب هذه الولاية، لا من باب تحديد الثروة، وهذا أمر آخر غير المُدَّعى.
وهذه الأولوية له وللمعصومين لم تثبت لأحد غيرهم (عليهم السلام)، بل الثابت من الشريعة أنها ليست لغيرهم (عليهم السلام)، فإذا ثبت أمر من أحد المعصومين (عليهم السلام) لبعض الأفراد، فهو أمر شخصي في مورد مخصوص، ويجب على المأمور الإطاعة، وليس في عصرنا معصوم ظاهر.
وقد ورد في القرآن الكريم أن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، سوف تكوى بها جباههم وجلودهم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}([1]).
فإذا كان ينفقها في سبيل الله بتحريرها من الحقوق التي فرضها الله -تعالى-، والإنفاق في المصارف المحلَّلة من معونة الفقراء، والإنفاق على العيال، وإقامة المشاريع الخيرية، والصدقات الجارية.. فلماذا تحرم ؟! ولماذا تُكوى بها جباههم وجلودهم ؟! وهل إن إطاعة الحاكم في مثل ذلك مقدَّمة على إطاعة الله-تعالى- ؟ أو أنه أعرف بالتشريع من الله-تعالى- الذي أحلَّ زينته لعباده والطيبات من الرزق !
وكيف يمكن انتظام المجتمع وسلامته وكونه مجتمعًا سليمًا معافًى مع هذا التحديد !
وما هو الذي يدفع التجار والكسبة إلى التعامل والجدّ في سبيل الرزق، ما دام سيصل إلى حدّ معلوم ثم يُحجر عليه، أو يسلب ماله !
فما هو الضرر إذا كانت الثروة تجمع من الحلال وتنفق في الحلال !
وما هي المصلحة في تحديدها ما دام فيها مصلحة لمجموع الشعب بإعمار المجتمع، وتحريك طاقاته للكسب المشروع، بعدما أمر الله بالعمل والسعي لتحصيل الرزق من مظانه المشروعة المتكثّرة بتكثّر أنواع البشر وأصناف التجارات ؟!
فلا نرى وجهًا له أدنى صفة من الشرعية، ولا من الاستحسان، ما دام في الكسب المشروع نفع للمجتمع بأفراده وجماعته، ومادام لا يضر بالصالح العام.
كما أنه لا مبرِّر للمصادرة مهما جعلنا لها من العناوين، فإنها لا تنفصل عن صفة الغصب وإن لم يكن بعنوان الغصب بل بعنوان الولاية، مع أن عنوان الولاية له واقع، وهو الولاية على تطبيق الأحكام الشرعية.
نعم.. بما أن الفقيه له الولاية على إقامة الدولة، فإذا كان العمل والاستيراد وتهيئة ظروف العمل وموارد التجارة من قبل الدولة، فللولي أن يشترط على العاملين والكسبة أرباحًا معينة فيما يبيعهم أو يوكلهم ببيعه، أو لا يسلطهم إلا على كميات معينة من المواد التجارية.
ثم إن هذا النوع من النظام في الدولة، هو نظام فاشل ومنهار، عاجلاً أو آجلاً، كما أثبتت التجارب المعاصرة.
والحاصل: أن الكسب المشروع لم يحدّد في نصّ شرعي، ولا يستفاد ولا يستنتج من أي مورد من الموارد.
وأما الولاية: فلا يمكن لأحد أن يدعي أنها أحد مصادر التشريع، وأنها ثابتة للفقيه.
فولاية الفقيه، بما أنها محدودة بالنسبة لولاية المعصوم، فهي مقدِّمة للأحكام الشرعية، لا متقدمة عليها، ولولا وجود شريعة وأحكام شرعية يراد تطبيقها، فالولاية لأي أحد تكون لَغْوًا.
فلا تشريع في الضرائب غير الضرائب الشرعية، وإن أمر الولي بذلك، إلا بمقدار ما تقدمه الدولة من الخدمات العامة لجهة الاستيراد والتصدير، وأما إذا لم يكن هناك أي جهد وعمل وبذل من الدولة، فالضرائب من أهم المحرمات التي نهى الله عنها وحذَّر الإسلام منها، لأنها غصب علنيّ يضطر صاحب المال إلى دفعه لحماية رزقه والدفاع عن نفسه.
فإذا كانت الدولة تحتاج إلى صرفيات ونفقات لحماية الأموال والأنفس والأملاك، فللولي حقُّ أَخْذِ أجورِ هذه الخدمات التي يجب إقامتها لحماية المجتمع من جميع الجهات.
فهذا النوع من الضرائب -بغضّ النظر عن تسميته ضريبة-، يجب على الأفراد أداؤه إلى رئيس الدولة تحت كثير من العناوين المشروعة.
وبهذه المناسبة نذكر كلامًا للسيد الخميني(قدس سره) في رسالة موجهة إلى السيد علي الخامنئي -رئيس الجمهورية الإسلامية في وقته-، مؤرخة في جمادى الأولى سنة1409 هجرية الموافق 31 كانون الأول سنة 1988 ميلادية، حول ولاية الفقيه المطلقة، قال فيها:
(كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة، ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المخوّلة من قبل الله تعالى إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مقدّمة على جميع الأحكام الفرعية الإلهية.
وإن استشهادكم بقولي: إن صلاحية الحكومة في إطار الأحكام الإلهية، يخالف بصورة كلية ما قلته، ولو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية، لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله)، وأن تصبح دون معنى.
وأشير إلى نتائج ذلك التي لا يستطيع أي أحد أن يلتزم بها:
مثلاً: شقّ الشوارع الذي يستلزم مصادرة منزل أو حريمه، ليس موجودًا في إطار الأحكام الفرعية، وإن نظام الخدمة العسكرية الإلزامية وإرسال الجيوش إلى الجبهات، والحيلولة دون دخول أو خروج العملة الصعبة، ومنع استيراد أو تصدير أي نوع من البضائع، ومنه الاحتكار ما عدا شيئين أو ثلاثة، والجمارك والضرائب، ومنع الغلاء الفاحش، وتحديد الأسعار، وتحريم إدمان المخدرات بأي شكل ما عدا شرب المسكرات، وحمل الأسلحة بأي صورة، ومئات الأمثلة، تخرج من صلاحيات الدولة بناء على تفسيركم، وكذلك مئات الأمثلة الأخرى).
ونقول:
لا تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام..ولا تصبح دون معنى:
أما بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله)والمعصومين (عليهم السلام): فلأن أفعالهم كأقوالهم، هي أحكام شرعية على النحو الذي تقدم بيانه.
وأما بالنسبة للفقيه: فلماذا تكون ولايته على الحكومة الإسلامية لغوًا ! أعني لماذا تكون ولايته على الحكومة التي قانونها كل أحكام الإسلام لغوًا ! مع أن ولايته إنما هي لتطبيق هذه الأحكام، وإلزام الناس بها، وإجبارهم من خلال سلطته الشرعية على تنفيذها، ضمن الحكومة الإسلامية، كما له الولاية على إقامة الحدود، والقصاص، والضمان، والقضاء في حق الأفراد.
فكما له الولاية على الأفراد في كل الموارد التي ثبتت له الولاية فيها، كذلك له الولاية على كل المجتمع بهذا النحو من خلال هذه الحكومة.
وأما شق الشوارع التي لابد منها لأجل حفظ النظام: فقد تقدم فيما مضى، بأن هذا من الأمور الحسبية التي يحق للفقيه التصرف فيها بما يراه حفظًا للنظام ومنعًا من الإخلال به، فهذا في ضمن الأحكام الشرعية.
نعم إذا لم يكن تركه مُخِلاً بالنظام، ولم يكن فيه سوى التحسين للوضع العام، فمرجعه إلى الرأي الفقهي للفقيه، وهو من الأحكام الشرعية.
وأما الخدمة العسكرية، وإرسال الجيوش إلى الجبهات، من باب {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}([2])، فهذا من صميم الأحكام الإلهية، ولا تضر في مشروعيته أن يكون على ضوء الأنظمة الحديثة في الخدمة الإلزامية، وكذلك إرسال الجيوش إلى الجبهات للمرابطة: فإنه من الأحكام الشرعية، وكذلك خروجهم للدفاع أو الجهاد، والآيات الكريمة: تدل على هذه الأحكام.
وأما دخول أو خروج العملة الصعبة، إذا كان مُخِلاً باقتصاد ومعيشة الشعب المسلم: فهو أيضًا من القضايا المحمودة التي تبانى عليها العقلاء في نظام حياتهم ومعاشهم، فتكون من الواجبات إذا كان تركها مضرًا ومخلاً بنظام حياتهم ومعاشهم.
ومثله منع استيراد أو تصدير أي نوع من البضائع، إذا كان حاله حال دخول العملة وخروجها.
وكذلك تحديد الأسعار إذا كان الاستيراد عن طريق الدولة كما ذكرنا.
وكل ذلك يكون حكمًا شرعيًا إذا كانت هناك ضرورة في الفعل أو الترك، يضرّ تركها أو فعلها بشؤون المجتمع.
ولا نناقش في الأمثلة، ولكننا نقول بأن ذلك كله يعني أن الولاية محكومة بسقف الأحكام الشرعية الإلهية لا مقدّمة عليها.
ثم قال السيد الخميني(قدس سره) بعد كلامه المتقدم:
(لا بد أن أوضّح أن الحكومة شُعبة من ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية الإلهية، ومقدَّمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج، وأن باستطاعة الحاكم أن يخرّب أي مسجد أو بيت يقع في طريق الشارع، ويعطي قيمة ذلك البيت لصاحبه، ويستطيع الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة، وأن يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار.
وتستطيع الحكومة أن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب، إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام، وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عبادي، أو غير عبادي، إذا كان مُضِرًّا بمصالح الإسلام ما دام كذلك.
إن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك: أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية.
وما قيل حتى الآن، وما قد يقال، ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية.
وما قيل: من أنه قد أشيع عن إلغاء المزارعة والمضاربة مع صلاحيات الدولة الجديدة.
أقول بصراحة: وليكن ذلك صحيحًا -فرضًا- إنه من صلاحيات الحكومة.
وهناك أمور أخرى أكثر منها لا أريد أن أزعجكم بها).
وبعدما ذكرنا: فلا نفهم معنى لتقدم ولاية الفقيه على سائر الأحكام الإلهية، مع أنها مثلها من الأحكام الأولية الشرعية لصيانة تلك الأحكام ! فلماذا تتقدم عليها مع أنها شرعت لأجلها ؟
فلا يجوز تخريب المسجد لأجل الشارع كحكم أولي، فلماذا لا يتقدم هذا الحكم على الحكم الآخر وهو ولاية الفقيه !
ولماذا لا تكون ولاية الفقيه حافظة لهذا المسجد الذي لا تزول وقفيته إلى يوم القيامة لأنه ملك لله تعالى وإن كان الكون كله ملكًا له-تعالى اسمه-، ولكنه سمح للإنسان بالتقلب فيه بالملك والتملك، وكلها ملكية مؤقتة تزول بزوال الإنسان، ثم يملكها غيره، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بينما المساجد لا يحق لأحد أن يزيل ملكيتها لله، لا بعنوان خاص، ولا بعنوان عام، ولا بولاية، ولا بغيرها.
وهذا يختلف عن المسجد الضرار، لأن هذا لا تثبت له المسجدية من الأصل، وكذلك لا نناقش في الأمثلة.
وكذلك: لا نعرف معنى لتقدم الولاية على الصلاة، والصوم، ومَنْع الأمور العبادية، وغيرها، إلا ما هو ثابت في أحكام الأفراد من المراتب الأخرى للعبادة، كالتقية أو الضرر في الصوم والحج.
وأما ثبوت جواز التعطيل بشكل عام ولو مؤقتًا للولي حتى مع عدم الضرورة على الأفراد.. فلا مستند له من خلال أدلة تلك العبادات، إلا في الحج الذي صار التباني في أدائه على التعامل مع الدول الأخرى، فإذا رأى الفقيه ضررًا أو خطرًا على الحجاج ولو بنحو الشبهة المحصورة، فإنه قد يرى جواز المنع مؤقتًا، وهذا أيضًا حكم شرعي، تُشرف الولاية على تطبيقه.
وأما التقدم على العبادة كالصلاة والصوم، ومنع الأمور العبادية وغيرها إذا كانت مضرة بمصالح الإسلام، فنقول فيه: إن مصالح الإسلام هي في تطبيق أحكامه بدقة، فليس ثمّة معنى مفهومٌ لهذا التقدم، ولا تفسير له شرعي، إلا بموارد الحرج التي يسمح فيها بالإفطار عند الحرج أو الضرر.
وكذلك عند الحرب بالنسبة للصلاة وكيفيتها على ما هو مذكور في القرآن الكريم، فإن هذه أحكام ثابتة مثل الولاية، وليس مما يفرضها ويشرّعها الولي، وإنما يطبق الأحكام على مواردها بالفتوى والتنفيذ، وكلما تدانت مراتب أداء العبادة بصورتها الأساسية، فلها في الشريعة الإسلامية حكم، وأما تركها المطلق ولو مؤقتًا، فليس فيه أي عنوان مبرّر في الإسلام، ولا فيه مصلحة للإسلام، فإن المعلوم من الشريعة أن الصلاة هي عمود الدين.
فإذا كان ما ذكرناه هو المقصود، فالحمد لله رب العالمين.
وإن كان غيره فلا أحد يعرفه، والصلاة لا تُترك بحال، حتى لو كانت تلك الحال هي ولاية الفقيه، لا مطلقًا -وإن كان لا يقول بذلك أحد-، و لا مؤقتا.
([1]) التوبة من الآية 34-35 .
([2]) الأنفال من الآية 60 .