الخمس
يقسّم الخُمس ستة أسهم:
سَهْم لله-سبحانه-، وسَهْم للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وسَهْم للإمام المعصوم (عليه السلام) ، وهذه الثلاثة في زمن الغَيْبة، هي لصاحب الأمر عجل الله فرجه وجعل أرواحنا فداه.
وثلاثة للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم.
هذا هو المعروف عند الشيعة، وعليه إجماعهم، ودلّتْ على التقسيم المذكور -بالإضافة إلى الإجماع-: الرواياتُ الكثيرة التي ادّعوا تواترها في مقام تفسير الآية وشَرْح مضمونها، أعني قوله تعالى{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }([1]).
ولو لم يتمّ الإجماع ولا التواتر في الروايات، بل حتى لو لم تكن هناك رواية صحيحة السند، فالآية الكريمة كافية للدلالة على التقسيم المذكور، إذ بعد ثبوت الخمس في غير الغنيمة من المعدن والكنز، وما يخرج بالغَوْص والبحار والأنهار الكبيرة، وفي أرباح المكاسب، وفي المال المختلط بالحرام، مع عدم التعرض لمصرفه في هذه الموارد، فإن ذلك قرينة واضحة ودلالة صريحة على أن مصرفه هو ما ذُكر في الآية الكريمة.
نعم نُسب لابن الجنيد (رحمه الله): أنه جعل الأسهم خمسة، بِحَذْف سهم الله-تعالى-.
وتوقّف صاحب المدارك (رحمه الله)في جَعْلها ستة، حيث إنه لا يعمل إلا بالرواية الصحيحة.
والذي استند إليه ابن الجنيد، فيه رواية صحيحة، ولكن هذا لا يؤثِّر في القِسْمة المذكورة، والرواية هي: صحيحة رِبْعي بن عبد الله بن الجارود عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)إذا أتاه المَغْنَم أخذ صفوَهُ وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه، ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، ثم قسم الخُمْس الذي أخذه خمسة أخماس ؛ يأخذ خُمْسَ الله -عزَّ وجلَّ- لنفسه، ثم يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، يعطي كل واحد منهم حقًا، وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله))([2]).
وهذه الرواية لا تدل على إسقاط سَهْم الله -عزَّ وجلَّ-، بل ظاهرها إسقاط سَهْم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولذا حملها الشيخ (رحمه الله)على أنها فعل منه (صلى الله عليه وآله)في حصته، لأنه يحق له ذلك.
وقوله في ذيل الرواية: (وكذلك الإمام أخَذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله))، هو تشبيه بالأَخْذ لا بالقسمة.
فلا إشكال في تقسيم الخمس ستة أقسام: ثلاثة منها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وللإمام (عليه السلام) ، والثلاثة الأخرى لآل الرسول (عليهم السلام)من بني هاشم: أيتامهم، ومساكينهم، وابن السبيل منهم.
والتوزيع بهذا النحو هو أيضًا مما أجمع عليه أصحابنا الإمامية، ولم يُعرف فيه خلاف.
قال المحقق الحلي في الشرائع: (يقسم -أي الخُمس- ستة أقسام: ثلاثة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهي سهم الله وسهم رسوله، وسهم ذي القربى)([3]).
ولعل جَعْل الثلاثة له (صلى الله عليه وآله)، لأن المرادَ بذي القربى: الإمامُ (عليه السلام) ، والنبي (صلى الله عليه وآله)هو الإمام في حياته، فيأخذ الأسهم الثلاثة: سهم له بالأصالة، وسهم لله-تعالى-، لأن ما كان لله فهو لوليه وهو الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويأخذ سهم ذي القربى باعتبار أنه هو الإمام حال حياته، وهذا معنى جَعْل الثلاثة للرسول (صلى الله عليه وآله)في الشرائع.
وذكر صاحب الجواهر([4]): أنه لم يَعْرِف في ذلك خلافًا، وكذا لم يَعْرِف خلافًا أيضًا في أن سهم الله-عزَّ وجلَّ- مُلْك للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)حقيقةً، يتصرف به كيف يشاء كغيره من أملاكه، وقد ورد في الروايات ما يدل على ذلك، مثل رواية البزنطي عن الرضا (عليه السلام) أنه قيل له: (فما كان لله (من الخمس) فلمن هو ؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله)فهو للإمام (عليه السلام) )([5])، بل لا معنى لملكية الله -تعالى- إلا ذلك، فإنه لا يحق لأحد التصرف فيه إلا بإذن الله-عزَّ وجلَّ-، لأنه-تعالى- هو المالك الحقيقي لكل شيء كان أو يكون، وقد جعل هذا السهم له، بمعنى أنه هو الذي يأذن به لوليه، والولي الحقيقي هو الرسول (صلى الله عليه وآله) في حياته والمعصوم.
دعوى عدم وجود سهم لخصوص السادة والرد عليه
وذكر في الجواهر في هذا السياق: أنه قد تظافرت الأخبار بأن الدنيا بأَسْرِها لهم (عليه السلام) ، كما يشير إلى ذلك تسمية ما جعَله الله-تعالى- لهم من الأنفال فَيْئًا، إذ الفيء بمعنى الرجوع، ويقال لرجوع الظلّ الفيء، كما يقال للتائب حتى يفيء، أي يرجع إلى أمر الله-تعالى- وطاعته، ومعنى الفيء في الأنفال التي جعلها الله لهم (عليه السلام) ، أنه كان في أيدي الكفار ورجع إليهم بغير حرب، كما في الآية الكريمة.
وفي خبر ابن الريَّان: كتبْتُ إلى العسكري (عليه السلام) : (جُعِلتُ فداك، رُوي لنا أنْ ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله)من الدنيا إلا الخُمْس، فجاء الجواب: إنَّ الدنيا وما عليها لرسول الله (صلى الله عليه وآله))([6]).
وفي رواية محمد بن عبد الله: (الدنيا وما فيها لله -تبارك وتعالى-، ولرسوله (صلى الله عليه وآله) ولنا، فمن غلب على شيء منها فَلْيتَّقِ الله، وَلْيُؤَدِّ حقَّ الله -تبارك وتعالى-، وَلْيَبَرَّ إخوانَه، فإن لم يفعل ذلك، فالله ورسوله ونحن بُرَآء منه)([7]).
وفي خبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قلْتُ له: (أَمَا على الإمام زكاة؟ فقال (عليه السلام) : أَحَلْتَ يا أبا محمد، أَمَا علمْتَ أن الدنيا والآخرة للإمام، يضعها حيث يشاء، ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله، إنَّ الإمامَ، يا أبا محمد، لا يَبيتُ ليلةً أبدًا ولله في عنقه حقٌّ يسألُه عنه )([8]).
وفي رواية ابن بكير مرسلاً عن أحدهما (عليهما السلام) في تفسير آية الغنيمة: (خمس الله-عزَّ وجلَّ- للإمام، وخمس الرسول (صلى الله عليه وآله)للإمام (عليه السلام) ، وخمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام، واليتامى يتامى الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم)([9]).
وقد علَّلَتْ بعض الروايات أن ما كان للأصناف الثلاثة من آل محمد، قد عوضهم الله-تعالى- به مكان الزكاة، لأنها لا تحل لهم، حيث أكرمهم الله-عزَّ وجلَّ- بمَنْعها عنهم كرامةً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتنزيهًا عن أوساخ الناس.
بينما الخمس -حسب مدلول الروايات- قد جعله الله -تعالى- للرسول (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم، وشاركهم كرامةً لهم.
فنصفه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)خاصة على النحو المتقدم، والنصف الآخر من الخمس يعطيهم منه قدر كفايتهم، وصلاحية التصرف له.
فالخمس يقسم ستة أقسام: ثلاثة منها لبني هاشم، والثلاثة الأخرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو بعد رحيله للإمام (عليه السلام) ، ولا خلاف في ذلك عندنا وعليه إجماع أصحابنا.
وعن الشيخ الطوسي في كتاب الفيء من الخلاف: (عندنا أن الخمس يقسم ستة أقسام: سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أسهم كانت للنبي (صلى الله عليه وآله)، وبعده لمن يقوم مقامه من الأئمة، وسهم لليتامى وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل من آل محمد لا يشركهم فيه غيرهم).
ثم قال: (وسهم ذي القربى ثابت، لم يسقط بموت النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو لمن قام مقامه وعندنا أن سهم ذي القربى للإمام ).
فالخمس ستة أقسام بنص القرآن الكريم، على النحو المعروف عندنا، في قِبال ما قاله أئمة المذاهب الأخرى من سقوط سهام ذوي القربى بموت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأجمع على ما ذكرنا فقهاؤنا، حتى جُعِل من دين الإمامية.
وإن احتمل البعض أن يراد بالترتيب في تقسيم الخمس، الترتيب في الاختصاص، بأن يقال: (إن الخمس بأجمعه حق واحد، جعله الله-تعالى- لمنصب الإمامة والحكم، وحيث إن الحكم أولًا وبالذات له-تعالى- لأنه المالك الحقيقي، وقد جعل هذا الحكم للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وجعله النبي (صلى الله عليه وآله) لذي القربى بقوله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه)، فيكون الخمس بأجمعه بهذا الترتيب للإمام (عليه السلام) ، ولا اختصاص للسادة به، حيث لم تدخل لام الملك على الثلاثة التي لبني هاشم، فليس الخمس مُلكًا لهم، ولا اختصاص لهم به، بل هم مصرف من مصارفه، وإنما ذُكروا في الآية للاهتمام بهم، وأنهم من شؤون الحكومة الإسلامية ولواحقها ).
وهذا الاحتمال لا يخرج عن كونه اقتراحًا في المراد من الآية، وهو اقتراح مرفوض بالنص القرآني الصريح، لصراحته في الاختصاص بالأصناف الثلاثة، وبالروايات الكثيرة، وبإجماع علماء الشيعة.
نعم، هو موافق لقول فقهاء السنة، حيث عمَّموا هذه الأسهم الثلاثة بجميع يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم.
ولا دليل لهم عليه، سوى ما ذكروه من أن مورد نزول الآية غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، ولم يكن لبني هاشم في هذه الأصناف الثلاثة أحد، بينما كانت الأصناف كثيرة من غيرهم من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم.
ولكن هذا الدليل لا يقلّ في ضعفه عن الاقتراح المذكور آنفًا، بل هو أسوء، لأنه يجعل الأسهم لغير بني هاشم، لأن التشريع لم يكن على أساس خصوص الموجودِين، بل كان تشريعًا عامًا، فحتى لو لم يكن يوجد أحد في ذلك الوقت، فالرسول (صلى الله عليه وآله) يتصرف به كما تصرف في الأنفال الخاصة به، حيث صرفها في الفقراء من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم.
وعلى هذا، فنصف الخمس للأصناف الثلاثة من السادة بلا إشكال.
وأما النصف الأول الذي لله -تعالى- ولرسوله (صلى الله عليه وآله) ولذي القربى:
فهو بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وفي عصر الغيبة، كلُّه لصاحب الأمر (عجل الله فرجه)، أصالةً ووراثةً من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لأنه وليُّ الأمر بعده.
وعن الشافعي انتقاله بعد موت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)إلى المصالح، كبناء القناطر وعمارة المساجد، وأهل العلم والقضاة وغيرهما، وعن أبي حنيفة سقوطه رأسًا.
وهذا كله غلط بلا إشكال، إذ هو اجتهاد في مقابل النص القرآني والسنة والضرورة التشريعية، كتحويل سهم السادة إلى الأصناف الثلاثة من غير السادة، أو إلى بيت المال ليُصرف في كل مصالح المسلمين.
فإن غرض أئمة المذاهب الأخرى حرمان آل الرسول (صلى الله عليه وآله)من الخمس، بعد أن جعله الله -تعالى- لهم عوض تحريم الزكاة، ومقصود بعض أصحابنا المعاصرين تحويله إلى خزينة الدولة، وهذه كلها تشريعات مبنية على الاقتراح والاستحسان.
ثم إن المقصود بالسادة: انتسابهم إلى عبد المطلب بالأَُبوَّة، لأن هؤلاء هم أقارب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما عليه أصحابنا، عدا ما يحكى عن السيد المرتضى وابن حمزة، بدعوى: صِدْق الولد على من انتسب بالأم.
ولكن المفهوم من أخبار الزكاة وأخبار المقام: أن موضوع الخمس وحرمة الصدقة هو الهاشمي أو المطّلبي ونحو ذلك ممن ينتسب بالأب، لأن ولد البنت ينتسب إلى عصبته، وهي غير الهاشمي([10]).
وناقش السيد الخميني (قدس سره) في أصل ثبوت الملكية في سائر سهام الخمس، فقال: (والذي يظهر لي من مجموع الأدلة في مطلق الخمس، سواء فيه سهم الإمام (عليه السلام) أو سهم السادة -كثّر الله نسلهم الشريف-، غير ما أفادوا.
أما في سهم السادة:
فلأنه لا شبهة في أنهم مصرف له، لا أنهم مالكون لجميع السهام الثلاثة، ضرورةَ أنَّ الفقر شرط في أَخْذه).
إلى أن قال: (أنه على الوالي أن يعطي السادة مؤونة سنتهم من السهام الثلاثة، فلو زادت عن مؤونتهم كانت للوالي، ولو نقصت عنها كان عليه جبران النقص من سائر ما في بيت المال، كما دل عليه الدليل، ولا شبهة في أن نصف الخمس يزيد عن حاجة السادة بما لا يحصى).
واستطرد قائلًا: (إن جعْل الخمس في جميع الغنائم والأرباح، دليل على أن الإسلام دولة وحكومة، وقد جعل الخمس لأجل نوائب الحكومة الإسلامية، لا لأجل سد حاجات السادة حسب، إذ نصفُ خمسِ سوقٍ كبير من أسواق المسلمين كافٍ لذلك، بل الخمس هو لجميع نوائب الوالي ومنها سد حاجة السادة)([11]).
وقد تقدم منا الرد على قول فقهاء العامة بسقوط أسهم آل الرسول (صلى الله عليه وآله) وعدم اختصاصه بهم رأسًا، ونقول هنا:
بأن الذي يظهر من مجموع الأدلة ابتداءً من الآية القرآنية الكريمة: أن الأسهم الثلاثة هي مختصة بآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وإلا كان ذِكْرهم بالخصوص في الآية الكريمة لَغْوًا محضًا.
ودعوى عمومه لكل الأصناف الثلاثة حتى من غير بني هاشم، ينافيه ما دلَّ من الروايات على أنه لهم، ولا يخرج من آل الرسول (صلى الله عليه وآله)لغيرهم.
فعدم اختصاصه بهم خلاف الظاهر، والظاهر هو الاختصاص بهم، بقطع النظر عن كيفية الاختصاص وكيفية تملّكهم له، خصوصًا بملاحظة ما دلّ على أنه لهم ولا يخرج منهم لغيرهم، التي حملها السيد الخميني (قدس سره) على الجعل التشريعي الابتدائي، أو على مورد قلة الخمس، وهو حَمْل بعيد جدًا وخلاف الظاهر، لأن ظواهر القرآن العظيم هي الحجّة ما لم يرد ما يردع عن ظهورها دليلٌ، فلا يمكن حمْلها على خلاف ظاهرها وإعطاء الحق لغير من هو له، لمجرد افتراض عدم وجود صاحب الحق.
مع أن هذا الافتراض غير ممكن، لأن فرائض الله لا تعوّل ولا تزيد، والتشريع ثابت لا يتبع الظروف والأشخاص، فكفاية الحق وزيادته أو نقصه، وكذلك الإطاعة والعصيان من قبل المكلَّفين، لا تكون ميزانًا في سلامة التشريع وإبقائه على ما هو عليه.
نعم لا يجب البسط على الأصناف، ولا الاستيعاب، ولا المساواة، وهذا أمر آخر.
ويقول السيد الخميني نفسه في مقام آخر: (إن الأحكام الإلهية، سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسات أو الحقوق، لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة، ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي وتتكفل لإجرائه..)([12]).
وأما سهم الإمام (عجل الله فرجه):
فبَعْد بطلان احتمال سقوطه، وبطلان انتقاله لغير الإمام (عليه السلام) كما يقول العامة.
وبعد بطلان احتمال تأخيره لحين ظهوره (عليه السلام) لِما فيه من التلف والضياع وتفويت المصالح والتشريع.
وبعد بطلان احتمال دفنه مع وجود الموارد الدينية لصرفه من المستحقين والمصالح العامة.
بعدما ذكرنا: نقطع بجواز صرفه في المصالح الدينية وترويج الأحكام الشرعية وتطبيقها، حيث إنه (عليه السلام) هو القيِّم والوليّ الحقيقي على نشر هذه الشريعة وصيانتها، لأن شريعة الإسلام هي دولته المباركة.
فيدور الأمر: بين أن تكون صلاحية التصرف في هذا السهم المبارك لكل أحد، فتحصل الفوضى والهرج والمرج، وبين جواز التصرف فيه بلا إذن من أحد، وهذا خلاف الضرورة الفقهية، لأنه لا يجوز التصرف في ما لا يملكه الإنسان بدون إذن، والمالك وإن كان معلومًا، إلا أنه لا يمكن الوصول إليه، فيتعين أن يكون هناك من يجوِّز له التصرف فيه، ويأذن بصرفه.
والقدر المتيقن الذي يحصل معه القطع والاطمئنان: هو إذن الفقيه الذي له الولاية، أو الصلاحية من باب الحسبة في كل شيء لا بد من التصرف فيه ولا ولي له، لأن هذا أحد مصاديق ولاية الفقيه، والحاكم الشرعي، ورئيس الدولة الإسلامية، لأن التصرف بدون إذنه، يُشك معه في فراغ ذمة المكلَّفين، ومقتضى قاعدة الاشتغال هو الفراغ اليقيني الذي لا يتحقق إلا بمراجعة الفقيه، فإذا صرفه مباشرة برئت الذمّة، وإذا دفعه إلى مستحقه فلا بد لهذا المستحق أن يصرفه في المصارف التي يحرز رضى الإمام (عليه السلام) بالتصرف فيها.
فالقطع برضى الإمام (عليهم السلام)معتبَر في جواز التصرف بإذن الفقيه، كما هو معتبَر في جواز التصرف المباشر بعد إذن الفقيه.
فلا يكون اعتبار (القطع) في التصرف والإنفاق إشكالاً على اعتبار إذن الفقيه، حتى يقال: بأنه لو سُلِّم بأن للفقيه الولاية مع قطعه، فهذا لا ينفع غيره، لأنه لا بد له من القطع أيضًا.
فالمعتبَر في جواز صَرْفه هو إذن الفقيه من باب الحِسْبة، أو معاملته معاملة مجهول المالك الذي لا يمكن الوصول إليه.
فالفقيه له الولاية على كِلا التقديرين.
ولا يُفرَّق في ذلك: بين أن يكون السهم المذكور ملْكًا للإمام (عليه السلام) في كل عصر، وبين أن يكون له ولاية التصرف فيه، لأنه ملْك للإمام (عليه السلام) بعنوان كونه إمامًا.
فلا فرق بين أن تكون جهة الإمامة، جهة تقييدية ليكون مُلْكًا شخصيًا له، أو جهة تعليلية لجهة إمامته، فيكون وليا في التصرف في جهة الإمامة والمصالح الإسلامية.
فإنه على كِلا التقديرين هو الوليُّ والمالك لصلاحية التصرف، فهو مالك على كل تقدير.
ولا يلزم من كونه ملكًا شخصيًا له التوريث لورثته، لأنه ملكه بعنوان كونه إمامًا، تقييدًا أو تعليلًا، فلا يرثه إلا من كان كذلك، وهو الإمام الذي بعده، وكذلك ملكية الرسول (صلى الله عليه وآله) للسهم المذكور.
وقد تظافرت الأخبار على أن ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله)فهو للإمام بعده.
ففي صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: (سئل عن قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ([13])، فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال (عليه السلام) : لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للإمام (عليه السلام) ، فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر، وصنف أقل، ما يُصْنع به؟ قال (عليهم السلام): ذاك إلى الإمام (عليه السلام) ، أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)كيف يصنع؟ أليس إنما كان يعطي على ما يرى، كذلك الإمامُ)([14]).
وفي رواية سليم بن قيس قال: (سمعْتُ أمير المؤمنين يقول: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيّه (صلى الله عليه وآله)فقال: ﴿ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين﴾ منا خاصة ولم يجعل لنا سهمًا في الصدقة، أكرم الله نبيّه وأكرمنا أن يطعِمَنا أوساخ ما في أيدي الناس)([15]).
وفي رواية سليم بن قيس الهلالي أيضًا، قال: (خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر خطبة طويلة يقول فيها: نحن واللهِ عنى بذي القربى الذين قرننا بنفسه وبرسوله، فقال: {فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فينا خاصة، إلى أن قال: ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم الله رسوله وأكرمنا أهلَ البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس، فكذّبوا الله وكذّبوا رسوله، وجحدوا كتابَ اللهِ الناطقَ بحقنا، ومنعونا فرضًا فرضه الله لنا)([16]).
والحاصل أن ما كان لله -تعالى- ولرسوله (صلى الله عليه وآله)ولذي القربى فهو ملك للإمام (عليه السلام) في كل عصر، أي لشخص الإمام (عليه السلام) ، إما لذاته المقدسة وخصوصية الإمامة فيه، وإما لأنه وليُّ أمر المسلمين ورعاية مصالحهم.
وعلى كلا التقديرين: فهو يتصرف فيه بما يرضي الله -تعالى-، وبالحدود التي يريدها الله-سبحانه- من مصالح شخص الإمام (عليه السلام) التي ترتبط به كإمام، أو مصالح الإمامة التي تستدعيها ولايته العامة، فلا فرق من هذه الجهة بين الحيثيتين.
وقد تقدم في رواية أبي بصير أن الدنيا والآخرة للإمام (عليه السلام) ، يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله-عزَّ وجلَّ-، وأن الإمام (عليه السلام) لا يبيت ليلة أبدًا ولله في عنقه حق يسأله عنه، كما ورد في بعض الروايات أنه قال: (إن رأيت صاحب هذا الأمر يعطي كل ما في بيت المال رجلًا، فلا يدخلنَّ في قلبك شيء، فإنه إنما يعمل بأمر الله)([17]).
وهذا كله لا ينافي أنه لبيت المال، لأن الإمام (عليه السلام) هو رب هذا البيت، ووليُّ الأمر بعده يتصرف -كما ذكرنا- من باب الحِسْبة أو الولاية، بما يقطع فيه برضى الإمام (عليه السلام) ، وهو لا يرضى إلا بما يريده الله -تعالى-، فيكون الميزان في إحراز رضاه: هو الموازين الشرعية التي بأَيْدينا.
([1]) الأنفال41.
([2]) الوسائل ب1 من أبواب قسمة الخمس ح3.
([3]): شرائع الإسلام، كتاب الخمس،ص95، طبعة دار مكتبة الحياة.
([4]): الجواهر ج16 ص84 وما بعدها من كتاب الخمس، طبعة دار الكتب الإسلامية.
([5]): الوسائل ب1 من أبواب قسمة الخمس ح6.
([6]): أصول الكافي: ج1 كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام ح6.
([7]): المصدر السابق ح2.
([8]): المصدر السابق ح4.
([9]): الوسائل ب1 من أبواب قسمة الخمس ح2.
([10]): راجع الوسائل ب1 من أبواب قسمة الخمس ح8.
([11]): كتاب البيع - السيد الخميني: 2 /490، طبعة مؤسسة مطبوعات اسماعيليان.
([12]) البيع - السيد الخميني 2/461.
([13]) الأنفال: من الآية41.
([14]) الوسائل ب2من أبواب قسمة الخمس ح1.
([15]) الوسائل ب1 من أبواب قسمة الخمس ح4.
([16]) المصدر السابق ح7.
([17]) الوسائل ب2من أبواب قسمة الخمس ح3.