الانتخاب والشورى

لا إشكال في حُرْمة الفوضى والفتنة , ووجوب حِفْظ النظام العام لأجل رَفْع الظلم والفساد , وإقامة العدل.

وهذا من الأحكام العقلية، التي استقرت واستمرت سيرة العقلاء عليها في جميع العصور لأجل قضاء حوائجهم الخاصة والعامة، وتنظيم أمورهم الراجعة إلى الصالح العام، بالمباشرة تارة، وبالتفويض والتوكيل تارة أخرى في ما يعسر تنفيذه بالمباشرة ويتعارف فيه التوكيل، وقد جَرَتْ طريقة العقلاء على ذلك في تعيين الولاة والحكام، بانتخاب مَنْ يرَوْنه الأصلح في نظرهم، فيسلِّمون له بالانتخاب أو بالبيعة وغيرها مما يدل على التسليم والانقياد.

ولذا صار الانتخاب معاقدة ومعاهدة بين الأمة والحاكم، يجب في عرف الحاكم والمحكوم الانقياد والمتابعة لهذا الحاكم الذي انتخبه، كما كانت البيعة بالتصفيق باليد وبغيرها هي العقد المُلْزِم في الجاهلية.

واستمر المسلمون على هذه الطريقة بدعوى التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، محتجِّين ببيعة المؤمنين له تحت الشجرة، التي سُمِّيَتْ بـ(بيعة الرِّضْوان) كما وصفها القرآن الكريم {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}([1]).

وقد ذكرَتْ الآية الأخرى من سورة الفتح، بأن البيعة عقد مُلْزِم وعهد مسدّد يجب الالتزام به، قال-تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}([2])، فقد نزلت هذه الآية في صلح الحديبية.

وحيث إن البيعة عهد ملزم وميزان للوفاء والنكث كما ذكرت الآية الكريمة:

 

فما هو دور البيعة في تحديد الحاكم والوالي؟

نقول: قد نفّذها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن لا على أساس أنها اعتراف من المؤمنين بالنبوة والولاية، فإنهم بعدما آمنوا بنبوته واعترفوا بولايته بايعوه، ولذا عبّر القرآن الكريم بأنهم {إنما يبايعون الله}، فكانت بيعتهم -كما روي عنهم- بيعةً على الموت، وعدم الفرار قبل الفتح، وبيعة على الطاعة والانقياد لأوامره ونواهيه بعد الفتح، كما كانت بيعة النساء كذلك، كما ذكر في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([3])، فقد ورد في تفسيرها عن أبان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)  قال: (لما فتح رسول الله مكة بايع الرجال، ثم جاء النساء يبايعنه، فأنزل الله-عزَّ وجلَّ- الآية..) إلى أن قال (عليه السلام) : (فقالت -أي أم حكيم-: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء، فدعا بقدح من ماء، فأدخل يده، ثم أخرجها، فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة)([4]).

وقد ذكر: أن بيعة النساء تسمى بـ(بيعة العقبة الأولى)، وكان الرجال فيها اثني عشر رجلاً، ولم يكن فيها حرب وجهاد، و(بيعة العقبة الثانية) تحت الشجرة، المسماة بـ(بيعة الرضوان) كانت على الحرب والجهاد.

فالولاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله)والأئمة الأطهار (عليهم السلام)من بعده، التي نصَّتْ عليها الآية الكريمة، لم تكن بالبيعة والانتخاب والتفويض من الأُمّة، بل هي تنصيب من الله -تقدست أسماؤه-.

وحيث إن البيعة كانت أوثق الوسائل للتمسك بما يعاهدون عليه، لاعتقادهم بأهميتها، وقد أقرّ الله-سبحانه- ذلك، وجعل لها الأهمية الكبرى، لأنها أعلى مراتب الاعتراف والانقياد، حيث إنها عقد خاص بين كل فرد مبايع وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل وبين الله -عزَّ وجلَّ-، فهي عقد يجب الوفاء به كما يجب الوفاء بكل عقد وعهد يُسأل عنه، لقوله -تعالى-: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}([5]).

لذلك كانت شرعية البيعة ومشروعيتها لتأكيد الالتزام بالطاعة والانقياد، وليست مشروعيتها على أساس أنها تولية وإنشاء للولاية كما جرى عليه المسلمون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن هذا خلاف النص القرآني المتقدم في البيعة، فإن الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما بايعوه بعد اعتقادهم بنبوّته وبولايته، ولم تكن الولاية ثابتة للخلفاء الأوائل، بل كانت بيعتهم وتوليتهم ومخالفة صريحة نصَّتْ عليها الآية الكريمة بقوله-تعالى-: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}([6]).

فليست ولاية الولي ثابتة بتفويض الأمة، لأنهم يبايعونه بعد الاعتراف بولايته، فهي تأكيد لهذا الاعتراف، وإظهار من قِبل المبايع لهذا الاعتراف، وميثاق على تنفيذ ما التزموا به.

فالنبي نبي، والوليّ وليّ، وإنْ لم تبايعه الأمة.

والبيعة أوثق الوسائل لبيان الاعتراف والانقياد، وليست كما اتخذها الآخرون وسيلة لإيجاد الولاية وإعطائها للولّي، لأنه بعد الفراغ عن ضرورة الحكومة كما تقدم، فهذه الحكومة إما أن تتحقق بالاستبداد من قِبل قادر متمكن يأخذها بالقوة، وإما أن تكون بالانتخاب.

ولا إشكال في أن القوة ظلم ونقض للغرض، خصوصًا إذا كان الهدف هو السيطرة والتسلط على رقاب الناس والاستفادة من الحكم لاشباع الغرائز البشرية، كما هو الشائع في الاستعمار المعاصر.

كما لا إشكال في أن الانتخاب الذي عليه سيرة العقلاء هو أحسن وسيلة لاستقامة الأمور وحفظ النظام العام.

فإذا وجد الولي الفقيه الجامع للشرائط الذي له صفة الحاكم من الناحية الشرعية، وتمكن من إقامة الدولة، وانقادت له الأمة لأنهم أحرزوا كفاءته، فهذه الحكومة شرعية وإن لم يكن هناك انتخاب ومبايعة، لأنه يجب عليهم مسبقًا وقبل إقامة الدولة، أن يرجعوا فيها إلى الغير كأفراد وكمجموعات، لأن المجتمع بما هو وإن لم يكن له وجود واقعي غير وجود الأفراد، ولكنه جهة واقعية معنوية كسائر الجهات العامة التي يستفيد منها أي فرد، بل لا معنى للجهات العامة إلا ما يستفيد منه المجتمع بأفراده وبهيئتة الاجتماعية.

وقد ركَّز القرآن الكريم على عنوان (الأمة) و(الأمم) من حيث وجودها وفنائها، وقوتها وضعفها وتراجعها بما يعني مبادئها لا أفرادها، فقد تتكاثر الأفراد وتضيع مبادئها، وقد ينعكس الأمر.

فالمقصود بالمجتمع: هو المجموع الذي له من حيث المجموع سمة خاصة وعقيدة خاصة، عليها تُبنى قوانين ذلك المجتمع، وسلوكه وسائر تصرفاته، قال الله-تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} ([7])، وقال -تعالى-: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ([8]).

فالمجتمع الإسلامي بعقيدته ومبادئه، إذا اختار من له الولاية مسبقًا بالانتخاب أو بالبيعة، فليس الانتخاب إنشاءً للولاية وإحداثًا لها، بل هو الالتزام بالانقياد والطاعة واعتراف بذلك، سواء اتحد الفقيه وتصدى أم تعدد.

فلو تعدد وانتخبوا واحدًا، فلا تسقط ولاية غير المنتخَب، ولا أنهم جعلوا ولايةً لمن انتخبوه، بل هو انقياد لهذا المنتخَب عبّروا عنه بالانتخاب، وإطاعة له في ما يحتاجونه من شوؤن الحكم والحكومة وإن كانوا يتّبعون غيره في أمورهم الخاصة التي لا ترتبط بالنظام العام ضمن قانون الدولة، فيمكن لمن ينتخب شخصًا للحكم والولاية أن يقلد الآخر.

ولذلك لا يعتبر في مشروعية الولاية الأكثرية، بل يكفي التصدِّي وعدم المعارضة العملية، وإنما يعتبر (عدم المعارضة)، لا لأنها شرط في الولاية، بل لأنه يحرم مخالفة الحكم في ما يخلّ بالنظام، وإن كان المعارض حاكمًا ووليا، فضلاً عن الأفراد الذين ليست لهم ولاية.

ولا يعتبر هذا من الاستبداد، بل من باب حمل الناس على الحق وإن كانوا كارهين.

وأما كيف تُحرز كفاءة الوليّ وواجديته للشرائط، فهي عن طريق الشياع بين أهل الاختصاص والخبرة، في كل الحيثيات التي يجب أن تتوفر في الوليّ الفقيه.

وحيث إن أهل الخبرة معروفون غالبًا عند المسلمين، لأنهم يرجعون إليهم بالنحو الذي تقدم ذكره في التقليد، فلا بأس -من الناحية الشرعية- بأن يكون هناك مجموعة من أهل الخبرة يختارون الوليّ الفقيه حاكمًا، على أن لا يكونوا منصوبين من قبل سلطة حاكمة، بل هم يطرحون شخصًا ينصبونه فترضى به الأمة، أو يطرحون أشخاصًا وتختار الأمة أحدهم، ولكن لا على أساس أن ذلك واجب، بل لكونه أسلم الطرق، لأن الاختيار من قبل الأمّة حينئذ يكون أكثر فاعلية من حيث الانقياد والالتزام.

وأهل الخبرة على أية حال هم الوسيلة بين الأمة وبين من يجب الرجوع إليه، لأن أهل الخبرة مُنَصَّبون ذاتا وابتداءً لهذا الدور، وبعد اختيارهم تعلن الأمة موافقتها بأي نحو من أنحاء الموافقة، فقد كان سابقًا بالبيعة، وفي العصور المتأخرة بالانتخاب، وكلٌّ مِن البيعة بالنحو المبتدع والانتخاب، لا يعطي صفة الشرعية بالنسبة للحكومة الإسلامية، بل هو -كما ذكرنا- التزام وانقياد بما هو واجب مسبقًا، ولذلك يكون هذا الانتخاب وسيلة تامة لحفظ النظام، وإقامة الحق وقضاء الحاجات الخاصة والعامة، لا أن التنصيب يُحدث الولاية كما في الدول المعاصرة.

وإن كان لو انحصر الحكم والحاكم بهذا النحو، يجب الالتزام بما فيه محافظةً على النظام العام والصالح العام، مع أنه قابل للزوال والانعزال من خلال الصراع على السلطة والنفوذ، بخلاف الوليّ الشرعي فإنه لا ينعزل إلا بفقد الشرط.

ولذلك لا أثر لنسبة الانتخاب من حيث الأكثرية، لأن الأكثرية لا حق لها في أن تفرض رأيها على الأقلية، فإن هذا ظلم للأقلية -لو كان الانتخاب هو الذي يعطي صفة الحاكمية والولاية-.

بينما الانتخاب في الوليّ الشرعي، إنما هو لإظهار القبول والالتزام والانقياد للقانون الشرعي الذي يتولى تطبيقه والإشراف عليه هذا الحاكم الشرعي، وإن لم توافق عليه الأكثرية، لأنه لا ظلم ولا استبداد بعد أن كان يجب على الجميع من حيث المبدأ أن ينقادوا له من الناحية الشرعية، سواء أَظْهروا هذا الانقياد بالانتخاب أو بغيره، أم لم يظهروه.

فإذا كان المرشَّح واحدًا: يكون الأمر كما ذكرنا، بلا فرق بين أن تكون نسبة المنتخب أقل أو أكثر.

وأما إذا كان متعددًا: فالذي له الأكثرية سوف يكون له الحكم الفعلي على الأمة من منطلق ولايته، لا على أساس ولاية الأكثرية.

وحيث إن أسلم الطرق في الحكومة التي لا تقوم على أساس فرض الحق والعدل الشرعي هو الانتخاب، فحينئذ يكون الانتخاب مشروعًا في انتخاب الحاكم الشرعي، كما هو مشروع في الجملة في انتخاب الحاكم الذي ليست له الولاية الشرعية مع الانحصار وتوقّف حِفْظ النظام على ذلك، ما لم يكن هناك تشريع يخالف القوانين والأحكام الشرعية المنصوصة والثابتة في الشريعة الإسلامية.

وعلى أية حال، لو لم يوجد الحاكم الشرعي: فلا بد من انتخاب حاكم، حتى لا تتعطل المصالح العامة، وحتى لا يختلّ النظام وتحصل الفوضى والهرج والمرج، سواء أكان الانتخاب من قِبل الأمّة، أم من قبل أهل الخبرة الذين شاع التعبير عنهم بـ(أهل الحل والعقد)، وب(أهل الشورى)، لا الشورى التي ينصّبها الحاكم، فإن هذه ليست شورى، بل هي ظلم واستبداد، كمهزلة الشورى التي كانت في عهد الحاكم الثاني عمر بن الخطاب، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرْتُ أُقْرن إلى هذه النظائر..)([9]).

وقد كثر الاحتجاج بالشورى من قبل المخالفين لأمير المؤمنين (عليه السلام)  على أساس ورودها في القرآن الكريم.

ولا بأس بالإشارة إلى تلك الآيات، وبيان زيف الاستدلال بها على مشروعية الشورى بالنحو المدعى عندهم، وبيان المراد من الشورى الراجحة، بل واللازمة في الحكومة الإسلامية:

فنقول: بعد الفراغ عن ثبوت الحكومة الاسلامية بولاية الفقيه الثابتة شرعًا والمؤيدة بالانتخاب من مجموع الأمة أو من أهل الخبرة، هناك تفاصيل في كيفية الممارسة في الحكم، وتطبيق قوانين الإسلام على موضوعاتها التي تختلف بحسب المكان والزمان والأشخاص، وهذه التفاصيل عبارة عن قانون الدولة الإسلامية، الذي يعني وضع الآلية المناسبة لرعاية جميع الأحكام الإسلامية الإلهية.

وهذا ليس من محل الكلام في شيء، بل الذي يعنينا هنا ما يرتبط بإعمال القوانين المفروغ عنها، وممارسة تطبيقها.

ومن أهم الأمور في هذا المجال: هو التشاور، وإعمال مبدأ الشورى في مجال الحكم وتدبير الأمور، فقد وردت في القرآن الكريم سورة باسم (الشورى)، حيث ذُكرَتْ الشورى فيها في عداد الفرائض وسائر الواجبات المطلوبة، والمحرمات الممنوعة، والأمور الأخلاقية المرغوبة للشارع المقدَّس، فقال-تعالى-: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ*وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}([10]).

وقد أمر الله-تعالى- نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أن يشاور أصحابه، ويتعرف على آرائهم، مع أن القرار النهائي لله-تعالى- وله (صلى الله عليه وآله)لعصمته (صلى الله عليه وآله)، فلماذا يشاورهم؟ ليس ذلك إلا لأجل تركيز هذا المبدأ، وجَعْله وسيلة لهم للتوصل إلى الأصلح في مستقبل الأيام في عصور غيبة العصمة.

ولم تكن المشورة في أصل الولاية وتنصيب الولي، فإن ذلك كان من الله لأهل العصمة^، ومن أهل العصمة للفقهاء، ومرجع كل هذا إلى حكم الله وإرادته، قال -تعالى-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}([11]).

ولفظ الأمر في قوله-تعالى-: {وأمرهم شورى بينهم}، ظاهر في أمورهم الفردية والاجتماعية، بحيث يشمل كل شأن ينسب الفعل فيه إليهم في مقام العمل والأداء، ولا علاقة له بأصل التشريع جزمًا، كما وردت الشورى في القرآن الكريم في مسألة الرضاع، قال-تعالى-: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}([12])، وهذه خاصة بهذه الموارد.

ولا يخفى رجحان الشورى بغضّ النظر عن أمر الشارع بها، فإنها تبادل في الأفكار، توجب جلاء الأمور ووضوحها، بنحو يحصل الاطمئنان بقلة الخطأ والتهوّر، خصوصًا إذا كانت الآراء المتبادلة ناشئة عن النظر إلى المصلحة العامة، وبعيدة عن التعصب والأنانية.

وقد وردت الأخبار العديدة في الاستشارة والاسترشاد بآراء العقلاء في سائر الأمور:

منها: ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا كانت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظَهْر الأرض خير لكم من بطنها..)([13]).

ومنها: ما عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قيل: يارسول الله، ما الحزم؟ قال (صلى الله عليه وآله): مشاورةُ ذوي الرأي واتّباعُهم).

وعنه أيضًا (عليه السلام) : (لن يهلك امرؤ عن مشورة).

ومنها: ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).

وعنه (عليه السلام) : (والاستشارة عين الهداية)([14]).

وعنه (عليه السلام)  أيضًا: (قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)([15]).

وواضح أن الخلافة والإمامة من شؤون الرسالة والرسول، وليست من أمور دنياهم التي يتشاورون بها، وكذلك الولاية.

نعم، بعد الالتزام بالرسالة، والرسول، والولاية، والالتزام بأوامر الله -تعالى-، يلتزمون بولاية الوليّ بالنحو المتقدم.

والمتحصِّل: أن الانتخاب والمبايعة والشورى تأكيد للالتزام بولاية الوليّ، وليست إنشاءً وإحداثاً لها.


 

([1]) الفتح: 18.

([2]) الفتح: 10.

([3]) الممتحنة: 12.

([4]) الكافي ج5 باب  صفة مبايعة النبي  (صلى الله عليه وآله)النساء ح5 ص527.

([5]) الإسراء: من الآية34.

([6]) آل عمران: 144.

([7]) آل عمران: 110.

([8]) الحجر: 5.

([9]) نهج البلاغة: خطبة الشقشقية ص48.

([10]) الشورى: 37-38.

([11]) آل عمران: من الآية159.

([12]) البقرة: من الآية233.

([13]) بحار الأنوار: ج74 كتاب الروضة  باب7 من أبواب المواعظ والحِكَم ح14 ؛ تحف العقول ما رُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله)ص36.

([14]) وسائل الشيعة ج12 باب21من أبواب العشرة ح1-4-6-7.

([15]) المصدر السابق نفس الباب ح8 ؛ و باب22 ح28 ؛ وباب25 ح2.