العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = الشهور القمرية وعلاقتها بالتقاويم حضاريًا

اختراع أجهزة دقيقة لقياس الزمن، والجهد الذي بذل لاكتشاف وسيلة لقياس الوقت في البحار:

إن الاكتشافات في حياتنا اليومية تأتي تلبية للحاجات المستجدة عمليا، ومن هذه الاكتشافات أو الاختراعات آلة قياس الوقت التي تطورت كثيرًا على أيدي المسلمين، إذ يعزى تقدّم علم الفلك لدى المسلمين وفرعه الرئيسي (المواقيت والأهلة) إلى الحرص الديني النابع من الاهتمام بالأوقات الشرعية والتماس رؤية الهلال، وذلك نظرًا للحاجة إليها في تحديد أداء العبادات في أوقاتها المقررة.

إن تقسيم النهار الى12 ساعة والليل إلى 12 ساعة، أمر معروف منذ زمن مبكر وصارت شيئا مألوفًا في الحياة العامة، وكانت تسمى بالساعة المعوجة، لأن فترة ساعة الليل لا تساوي فترة ساعة النهار نظرًا لعدم تساوي الليل والنهار إلا في يومين في السنة، وكان تقديرها نهارًا باستعمال المزولة، وفي الليل باستعمال الساعة الرملية أو المائية  أو النارية، وكان التقدير غير دقيق لعدم توفر إمكانية لقياس الوقت بغير هذه الوسائل البدائية، لقد بلغت الساعة المائية من الدقة والإتقان إلى نهاية التطور، وكانت خلافًا للساعة الشمسية فإنها تقيس الوقت ليلاً أيضا إلا أنها كانت تحسب الوقت بخطأ 10-20 دقيقة في اليوم.

ثم تطورت أجهزة قياس الوقت على أيدي المسلمين باستعمال الإسطرلاب والربع المجيّب والمزولة المصمّمة على خط عرض الراصد (مؤشر المزولة أو الساعة الشمسية بموازاة محور الأرض).

ولما جاءت حركة الاكتشافات الكبرى، ومعها اضطرار السفن إلى  عبور المحيطات، ولأهمية معرفة المكان في البحر وذلك بالاستفادة من بعض الظواهر الطبيعية وكان هذا  أمرًا عسيرًا جدًّا، ولتحقيقه يلزم أن يكون مع كل رحلة بحرية  فلكي لغرض إجراء الحسابات اللازمة، ولما لم يكن هذا عمليًا خصوصًا وأن الساعات الميكانيكية المعروفة منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي  لم تكن تصلح لهكذا مهمّة،  فقد رصدت الحكومات الأوربية المهتمّة جوائز سخية لمن يكتشف طريقة تساعد ملاحي البواخر على معرفة خط طول المكان في البحر بمعلومية نقطة أخرى في البحر وبخطأ لا يتجاوز 30 ميلاً بحريًا، وقد أدّت هذه الإغراءات إلى نجاح فنّي الساعات الإنجليزي (هاريسون) بصنع أربعة نماذج ناجحة بدءً من عام 1736، وحصل على الميدالية الذهبية عام 1741 من الجمعية الملكية اللندنية لاختراعه الكرونومتر الذي ساعد البحارة كثيرًا في عبور البحار، ومنذ ذلك الوقت عرفت الحضارة الجهاز الذي يعطي وقتًا متساويًا لساعات الليل والنهار وقابلاً للحمل في كل الظروف والأوقات، وصارت لدينا الساعة الزمنية التي نعرفها الآن و بفتراتها المتساوية، وتسمى الساعة المقيسة بهذا الجهاز: الساعة المستوية، تمييزًا لها عن الساعة المعوجة. 

 بداية فكرة تنظيم الوقت:

حرص أغلب من كتب عن التقاويم أن يمهد مستعينًا بالحدس والتخمين لبداية فكرة الإنسان البدائي عن الزمن وتعاقب الأحداث مستعينًا بفطرة الإنسان في التساؤل عن كل ما حوله من أمور، ولعل أول ما لفت نظر الإنسان البدائي هو تعاقب الليل والنهار، وطلوع الشمس ثم ارتفاعها وغروبها مؤذنة بانتهاء النهار، ثم حركة القمر في الليل، ونمو الهلال وتبدّله من طور إلى آخر حتى يصير بدرًا، ثم تصاغره ليكون هلالاً مرة أخرى.

وقد شعر الإنسان قديمًا وخصوصًا بعد أن استقر في مجموعات تزرع الأراضي الخصبة في وديان الأنهار إلى الحاجة إلى تحديد المواسم، وكان يلفت نظره نشاط الحيوانات ونمو الزرع وتغيّر الجوّ والمناخ بين فترة وأخرى، مما أدى إلى اكتشاف ظاهرة  الفصول، ولكنه عرف وخصوصًا بمراقبة النجوم ومواقعها في السماء في أوقات معينة من الليل، أن هناك علاقة بين الفصول ومواقع النجوم، وأن هذه العلاقة يمكن الاعتماد عليها في تنظيم أمور الحياة، وتبين للإنسان أن قياس الزمن بالأبراج السماوية  أدق من الاعتماد على المواسم الزراعية أو اشتداد البرد أو الحر أو هجرة الطيور، وهذه  كانت البداية في نشأة التقويم.

وفيما يلي جولة في  عالم التقاويم القمرية والحضارات التي نشأت  بها.

 التقويم المصري القديم كان قمريا في البداية وشهوره 12 شهرًا:

كان التقويم في مصر القديمة ومنذ البداية قمريًا، ولكنهم  ولأسباب اقتصادية تخلّوا عن التقويم القمري ولجأوا إلى التقويم الشمسي منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد،  وذلك لأن  المصري القديم  لاحظ أن طلوع الشعرى اليمانية لأول مرّة صباحًا (وقبل شروق الشمس) في  منطقة رأس الدلتا يأتي قريبًا جدًّا من وصول مياه فيضان النيل، وقد حسب الكهنة الفترة بين شروقين متعاقبين للشعرى فجرًا ولأول مرة (19 تموز/يوليو من كل عام)، فوجدوها تعادل 365 يومًا وهكذا نشأت فكرة السَنَة لدى المصريين، وقد تبين بعد عدة سنوات أن طلوع الشعرى اليمانية (بهذه الشروط) لا يحدث في نفس الوقت المذكور في التقويم  أي بعد مضي 365 يومًا، بل  إن  هذا الحدث صار  يبتعد عن موقعه في التقويم، ثم أخذ الفاصل الزمني يزداد، وأخذت هذه الفترة تطول حتى  اتضح أنه لا يمكن الاعتماد عليها للتنبؤ بوقت الفيضان  أو طلوع الشعرى المتلازمان.

يتبع ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) تم تقسيم هذا المقال إلى قسمين، ينشر القسم الأول في هذا العدد، على أن ينشر القسم الثاني في العدد التالي بعون الله تعالى.

ـ*  باحث في الهيئة والمواقيت والأهلة.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية