السنة الرابعة / العدد الثاني عشر/ شتاء 2008 - محرم 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإرهاب في القانون الدولي

الأستاذ علي عبادي

 مقدمة

صحيح أن الإرهاب وجدت له مقدمات في إمبراطوريات العصور القديمة والوسطى، ومن ذلك على سبيل المثال: حركة الحشاشين التي عاشت فترة في الإمبراطورية الإسلامية وعانت منها رموز الدولة العباسية في بغداد، والدولة الفاطمية في القاهرة([1])، وكذلك الحركة التي قادها حسن الصباح في أواخر القرن الحادي عشر من موقعه الحصين في قلعة ألموت (عش النسر) في جبال بحر قزوين، ولكن كلمة الإرهاب (Terrorism) نفسها كمصطلح يحمل اللاحقة (ism) لم ترَ النور إلا في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789 وتحديدًا في عهد حكومة الإرهاب التي قادها اليعاقبة بزعامة روبسبيير في الأشهر العشرة الفاصلة بين أيلول 1793 وتموز 1794، ولَئن دلت الكلمة في البداية على استراتيجية العنف الذي تمارسه الدولة نفسها تجاه بعض طبقات المجتمع وبعض فئات المواطنين باسم الشرعية الثورية الجديدة، فإنه سرعان ما تغيرت الحمولة الدلالية للكلمة لتدل إبتداءًا من القرن التاسع عشر على استراتيجية العنف السياسي الموجه ضد الدولة نفسها من قبل الفئات والجماعات الخارجة عنها([2]).

والواقع أن الإرهاب كمفهوم وظاهرة لا يقبل انفصالاً عن تطور الأيديولوجيات الحديثة، فأول موجة كبيرة من الإرهاب عرفها التاريخ الحديث كانت تلك التي انداحت في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر في أعقاب انتشار الأيديولوجية الإشتراكية والفوضوية منها، وقد كان الهدف الرئيس للإرهابيين الروس - ولا سيما الناروزيين من أنصار "حرية الشعب"- تفكيك نظام الدولة وحثّ الطبقة الفلاحية على الانضمام إلى الكفاح المسلح([3])، ولا تشذّ الحركات "النازية" والتنظيمات "الفاشية" عن هذه القاعدة، حيث اعتمدت كلها على فكر متطرف وممارسات إرهابية، وبالرغم من هذه الجذور التاريخية في تقاليد الشرق والغرب، إلا أن الإرهاب ظلّ دائمًا متجددَََ التنظيم مختلف الأسلوب يعتمد على المفاجأة، ويتحرك في أوقات غير متوقعة، لذلك فإننا نبحث عبر السطور الآتية في التعريفات التي تناولت الإرهاب وغموضه كمفهوم محاولين إلقاء الضوء على المعالم التي تحدد هذا المفهوم، ومن ثمّ إلقاء الضوء على العلاقة الدولية بالإرهاب من خلال الوثائق والقرارات، وواقع التعامل الدولي مع الإرهاب.

محاولة تعريف الإرهاب ومفهومه

لا بد من الإشارة في البداية إلى أن الإرهاب لم يحز التعريف القانوني المحدد له - التي تفصله عن الأمور الأخرى المشابهة له في استعمال العنف، كاستخدام القوة لردّ العدوان الخارجي – ليكون معيارًا في تصنيف الأعمال العنفية على وفقه.

وقد جرت محاولات لتعريف الإرهاب على رأي بعض القانونيين على النحو التالي:

"إنه ضرب من الدعاية الإيديولوجية بواسطة الفعل"([4]).

"إنه عمل قادر على خلق أخطار اجتماعية حادة ونشرها في المجمع"([5]).

"الإرهاب هو استخدام طرق عنفية كوسيلة، الهدف منها نشر الرعب للإجبار على اتخاذ موقف معين أو الامتناع عن موقف معين"([6]).

"المقصود بالإرهاب الدولي أعمال العنف التي تقوم بها الدول ضد أفراد أو جماعات أو دول بهدف الانتقام ودون مبرر قانوني"([7]).

من هذه التعريفات وغيرها كثير، نستنج أن الإرهاب يعني تسبيب الخوف الشديد من خطر فادح أو الفزع والرعب من حاضر، وقد راجت الكلمة اليوم مصطلحًا يعني فعلاً عمدًا مذمومًا قبيحًا بوقعه وبما يلقيه من عموم منكر، ولكن المصطلح ما انفك مبهم المفهوم، وهو لا يشمل ما يقع من رهب بذكر الجزاء الديني المرهوب غيبًا، ولا بالتصرف الاجتماعي المحظور أدبًا ولا بالعقاب المشروع للجنايات ردعًا، وإنما هو الفعل الوحيد الذي ينذر أو يحدث ضرًا شديد الوقع غير مشروع في السياق العام، لا سيما السياسي للحياة.

والمعنى الغامض للإرهاب إذا غشيه الظل السياسي، يتيح لأي ذي نفوذ طاغ أن يبسط إعلامه محرفًا الكلمة ومصرفًا لها كيفما يشاء، ليقذف بها في وجه من يفعل فعلة تزلزله، أو نحو عدو يريد هو أن يصوب إليه حملة عقاب بذريعة نسبته لوجه مستبهم لنذر الإرهاب المبهمة، وينبغي حقًا في العام الموصول اليوم أن يتواضع بنو الإنسان كافة سواء على مفهوم للإرهاب قاطع محدود ، وهذه فيما يأتي معالم قد تكون بيّّّنة مناسبة، عليها يصطلح([8]):

1- الإرهاب فعل عام الوقع يشذ عن الأصل في علاقات بني الإنسان - وذلك لأن الأصل في معروف المبادئ الدينية والإنسانية هو السلم بين الناس- كالسلب والهدم أو الضرب والقتل، والفاعلون لذلك جناية على الحرمات أموالاً أو أعراضًا أو أنفسًا يشار إليهم بكلمات شتى في الثقافات : جماعات الإفساد أو العتو في الأرض، أو عصابات الإجرام أو التخريب.

2- الفعل الإرهابي ليس هو الشاذ بوقعه العنيف وحسب، بل هو أيضًا غير المشروع وفق القوانين والأعراف المعهودة، والذي يجعله غير مشروع ولا جائزًا في الدين والعرف والتشريع الإنساني، هو أن يقوم مبادأة ضد الآخرين، ويفسد مبادرة السلام والحرية والحرمة العامة بغير حق، عدوانًا بعنف أو معاملة بقوة باغية تنفر طمأنينة العلاقة عن محض غضب على الآخرين لاختلافهم دينًا أو مذهبًا سياسيًا ، أو عن بُغض لهم وتعبير سخرية عامة للونهم أو عرقهم.

3- الإرهاب سلاح العاجز الذي لا يستطيع أن يواجه خصمًا يتوهمه أو عدوًا ينتظره فيلجأ إلى أسلوب الضربات العشوائية في الظلمات لأن تكافؤ القوى معدوم كما أن القدرة على المواجهة غير قائمة.

4- الفعل الذي يأخذ الآخرين بالقوة خروجًا على أصل السلام تسمح به تعاليم الدين وأعراف العدالة الإنسانية، إذا كان تسوية للحقوق المشروعة دفاعًا ذاتيًا لصد عدوان مهاجم بالضرّ البالغ مبادر به على الفاعل المدافع من آخر بغير حق، ومثل ما في العلاقات الخاصة بين الأفراد من حق الدفاع عن النفس والمال، هو أيضًا في القانون والسياسة حق الدفاع المشروع لرد القوة الباغية بقوة حافظة.

ما تقدم يمكن أن يشكل إطارًا محدِّدًا لمفهوم الإرهاب.

الإرهاب في الوثائق الدولية

ترتكز فكرة الإرهاب على استعمال القوة غير المشروعة (العنف) ، ومن ثم لزم التفرقة بين حالات الاستعمال المشروع للقوة وحالاتها غير المشروعة، وبهذا المدلول لا يكون الأمر جديدًا على الفكر القانوني، سواء القانون الدولي أو القانون الداخلي، فحالات الدفاع عن الحقوق المقررة للأفراد والجماعات (حقوق الإنسان - حقوق الشعوب - حق تقرير المصير - الحق في تحرير الأرض المحتلة ومقاومة الاحتلال) لا تعد إرهابًا، لأن هذه الأفعال تقابل حقوقًا يقررها القانون الدولي للأفراد والشعوب حيث يكون الأمر هنا متعلقًا باستعمال مشروع للقوة طبقًا لأحكام القانون الدولي الاتفاقية والعرفية.

وعلى هذا الأساس اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة "أنه ليس للإرهاب صلة باستعمال القوة لأغراض مشروعة في الحياة الدولية، وأن الميثاق وسائر القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة بخصوص الاستعمال الشرعي للقوة لا يمكن المساس بها تحت غطاء الإرهاب الدولي"([9]).

بالإضافة لذلك يمكن القول أن هناك ترسانة قانونية كافية لأهم ما يتعلق بالجرائم المرتكبة في زمنَي الحرب والسلم والواقعة ضمن الأعمال الإرهابية (وذلك لأن الإرهاب -كما تقدم- لم يحز بعد التعريف القانوني المحدد وهو ما انفك شعارًا سياسيًا وذلك بسبب الخلافات الدولية التي لم تجمع على الاتفاق على تعريف واضح وقانوني) والتي أهمها([10]):

أولاً: على صعيد الأمم المتحدة:

- الفقرات رقم 2/3/4/6 من قرار الجمعية العامة رقم 3034 الصادر في 18/12/1972، والمتعلق بإجراءات قمع الإرهاب الدولي.

- قرار الجمعية العامة رقم 1514 الصادر في 14/12/1960 والمعروف بقرار تصفية الاستعمار.

- قرار مجلس الأمن الدولي وعبر الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة رقم 1373 بتاريخ 22/9/2001، والذي ما زال يتبع بقرارات متفرقة عند حصول أعمال عنف وقتل متفرقة عبر العالم حيث سيأتي تعليق على القرار 1373 واعتبار القرارات الأخرى مرادفة لهذا القرار ولكن بحالات خاصة.

ثانيًا :الاتفاقيات الدولية:

- اتفاق منع إبادة الجنس 1948.

- اتفاق طوكيو لإدانة الأعمال غير القانونية على متن الطائرات 1963.

- اتفاق لاهاي لخطف الطائرات 1970.

- اتفاق مونتريال لإدانة خطف الطائرات 1973.

- الاتفاق القاضي بإدانة خطف الدبلوماسيين 1973.

- اتفاق إدانة احتجاز الرهائن 1979.

- اتفاق للحماية الجسدية للمنشآت النووية 1979.

- اتفاق مناهضة التعذيب 1987.

- اتفاق إدانة القرصنة البحرية 1988.

- بروتوكول حول إلغاء أعمال العنف غير القانونية الموجهة ضد المطارات وخدماتها 1988.

- اتفاق حول صناعة المتفجرات البلاستيكية المستعملة لغايات الاستقصاء 1991.

- الاتفاق المتعلق بإلغاء الأعمال غير القانونية الموجهة ضد سلامة الملاحة البحرية 1998.

إن هذه القرارات والاتفاقيات تبقى لتحدد بعض الأعمال في الواقع الدولي على أنها أعمال إرهابية تستوجب جزاءات على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولكن دون الوصول إلى حل الخلاف حول ماهية الإرهاب وتعريفه تعريفًا دقيقًا وتحديد الأطراف التي يمكن اعتبارها مسؤولة عن ارتكاب أعمال إرهابية ، وهنا لا بد لنا من الاطلاع على حيثيات وتداعيات القرار الدولي الأهم الرقم 1373.

قراءة في القرار الدولي 1373:

بعد أحداث 11/9/2001 اتخذ مجلس الأمن الدولي قراره 1373 بتاريخ 22/9/2001 والذي يفوق بأهميته وشموله جميع ما اتخذ من قرارات دولية وما وقّع من معاهدات بشأن الإرهاب حتى تاريخه.

أقول ذلك بالدرجة الأولى لأن القرار اتخذ بموجب الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة، وذلك يعني أن له قوة إلزامية بالنسبة لجميع الدول.

بعد شجب الهجوم على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول، يؤكد المجلس في حيثيات قراره بأن هذا الهجوم يشكّل إرهابًا دوليًا وتهديدًا للسلم والأمن الدوليين من دون أن يعرّف ما هو الإرهاب الدولي، وكذلك يؤكّد المجلس في حيثيات قراره أن على جميع الدول الامتناع عن التنظيم والتحريض والمساعدة والاشتراك بأعمال إرهابية في دولة أخرى، ويؤكد على حقوق الدول في اللجوء إلى حق الدفاع عن النفس المعترف به في القانون الدولي والمنصوص عليه في المادة 51 من شرعة الأمم المتحدة.

القسم الأول من صلب القرار يتناول واجب الدول في منع تمويل الأعمال الإرهابية ويسهب في شرح الإجراءات الواجب اتخاذها لتجميد مصادر التمويل وإنزال العقوبات بالأشخاص الذين يقومون أو يحاولون القيام بأعمال إرهابية أو يشاركون أو يسهلون القيام بها.

ويسهب القسم الثاني من صلب القرار في تحديد واجب الدول في عدم المساعدة على أعمال إرهابية بشكل مباشر أو غير مباشر وفي اتخاذ الإجراءات التي من شأنها أن تمنع الأشخاص أو الهيئات التي تقوم بأعمال إرهابية وحرمانهم من اللجوء إلى أراضيها، لا بل يوجب القرار على جميع الدول الإحالة إلى القضاء كل من يموِّل آو يساعد أو يخطط أو يساهم بأعمال إرهابية، والتعاون (إلى أقصى حد) فيما بينها بالنسبة إلى التحقيقات الجنائية المتعلقة بتمويل أو مساعدة الأعمال الإرهابية.

ويدعو القرار في القسم الثالث منه الدول إلى مضاعفة جهودها في تبادل المعلومات خصوصًا ما يتعلق بأعمال وتحركات الإرهابيين والشبكات الإرهابية .

اللافت في قرار مجلس الأمن أنه وإن كان لا يعرّف الإرهاب الدولي إلا أنه يلزم الدول بموجبات تتعلق فقط بسلوك الأفراد والهيئات والشبكات وليس الدول التي تقوم بأعمال إرهابية، ولو لم يحصر القرار واجب الدول بسلوك الأفراد والهيئات والشبكات الإرهابية لكانت الدول التي تساعد "إسرائيل" بالمال والسلاح فيما يشكل أعمالاً إرهابية تقع تحت أحكام قرار مجلس الأمن الدولي.

يجدر بنا الاستطراد قليلاً حول تداعيات القرار الدولي، فنقول:

 إن عدم شمول الدول وعدم استثناء حركات التحرر الوطني وبغياب تعريف للإرهاب متفق عليه، كان من الطبيعي أن يخلق القرار صعوبات لدى تطبيق أحكامه (وهذا بالفعل ما يجري اليوم)، خصوصًا إذا بقي النفوذ الصهيوني يلعب دورًا مهمًا في توجيه سياسة وسلوك الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط.

فإذا رضخت الولايات المتحدة للمشيئة الإسرائيلية في مطالبة دول عربية باتخاذ إجراءات تجاه أشخاص وهيئات تريد إسرائيل اعتبارها إرهابية وتراها الدول العربية وسواها حركات تحرير، فلن يكون من السهل النزول عند مشيئة الولايات المتحدة.

وسوف يبدو أن تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي رهن بما تفرضه الولايات المتحدة من ضغوط خدمة للإرادة الإسرائيلية وإن لم يثبت أن لهؤلاء الأشخاص والحركات علاقة بتنظيم القاعدة وما حصل في نيويورك وواشنطن، أو أنهم ينوون القيام بأعمال إرهابية ضد الأمريكيين.

وللعالم بأسره مصلحة في القضاء على الإرهاب بجميع أشكاله ومهما كانت أهدافه وأيا كان فاعلوه ، فحماية المدنيين واجب على كل حكومة في جميع الدول، وانتشار الإرهاب كممارسة لبلوغ أهداف سياسية يقوّض أسس الحياة الاجتماعية المنظمة لدى جميع الشعوب، إذًا لجميع الدول وكل المجتمعات مصلحة وواجب في العمل الحثيث للقضاء على الإرهاب واستئصال أسبابه ومبرراته ولكن العمل الدؤوب والتنسيق بين الدول يقضي بأن يكون لدى الجميع تصور مشترك لماهية الأعمال التي يجب منعها وتقدير مشترك لعدم شرعية مبرراتها.

روعة القانون وواجب طاعته والإقرار بسيادته يكمن في شموله وكونه لا يفرق بين قوي وضعيف، غني و فقير، حاكم ومحكوم، إن لجهة مضمونه أو حالات تطبيقه، ويفقد القانون هيبته وإلزامية طاعته عندما يكون في مضمونه أو كيفية تطبيقه منحازًا لا يراعي مبدأ المساواة بين الجميع في كل الأحوال.

وفي غياب أداة دولية لتنفيذ قرارات مجلس الأمن مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء تلعب الدول القوية دورًا هامًا إنْ لجهة مضمون قرارات مجلس الأمن أو طريقة تطبيقها، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبقاء الولايات المتحدة الأميركية القوة العظمى الوحيدة تلعب هذه الأخيرة دورًا أساسيًا في رسم وتطبيق القواعد التي ترعى علاقات الدول في ما بينها والتي يفترض بأنها تعبر عن إرادة الدول ومصالحها. إن هذا الدور مشوب بعلة تقديم المصلحة والرؤية الشخصية للولايات المتحدة على مصالح الدول الأخرى أو مصلحة المجتمع الدولي ككل.

لكن في صور التصدي للإرهاب الدولي والقضاء عليه كوسيلة لحل النزاعات السياسية فإن للدول جميعًا مصلحة في النجاح بهذه المهمة، لذلك من المهم جدًا في تفسير وتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1373 وسواه من الإجراءات الملزمة في الإطار الدولي أن تلجأ الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية على التزام المساواة بالنسبة لكل من يرتكب أعمالاً إرهابية أكان دولة أو تنظيمًا أو حركةَ تحريرٍ وبأن تعتمد سلوكًا ينم عن فهم عميق للدوافع وراء إرهاب وشروط النجاح في القضاء عليه([11]).

التعامل الدولي مع الإرهاب:

من خلال ما تقدم وبشكل مختصر عن الإرهاب وتطوره وتداعياته فإن المرء يمكن أن يستخلص غموض الفكرة حتى اليوم وخضوعها للاعتبارات السياسية والمصلحية للدول ، خاصة الكبيرة منها، ويمكن أن يستنتج بعض النقاط والتي يمكن اعتبارها ملخصات واقعية للتعامل الدولي مع الإرهاب([12]).

1- بدأ الإرهاب بالاغتيال الفردي في الصراعات السياسية بين نظام ومعارضة أو داخل القصور ، صراعًا على سلطة، أو في أثناء الحرب الباردة بين جيشين، وأصبح جزءًا من صراعات مخابرات الدول الكبرى خلال الحرب الباردة، يمارس بصورة مباشرة وغير مباشرة، وارتفع إلى مستويات أعلى فأعلى في ممارسات منظمة الإرهاب الصهيونية في فلسطين، ثم سياسات إرهاب الدولة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، ومارسته الموساد على نطاق واسع ضد علماء عرب وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية في العواصم العربية.

2- صُفّي عدد من زعماء المعارضة الشعبية من خلال الاغتيال الفردي أو الخطف منذ الخمسينات، وكان ذلك سمة عامة لعدد من الأنظمة العربية والإسلامية والعالم ثالثية، وكان يمتلك التغطية اللازمة من هذه الدولة أو تلك من الدول الكبرى.

3- إذا وضعت "جردة" للاغتيال الفردي وإرهاب المدنيين وترويعهم، سنجد الإرهاب فعل الأقوياء ضد بعضهم وضد الضعفاء، بينما نجد ممارسته من قبل الآخرين محدودة جدًا وكانت نتائجه سلبية دائمًا عليهم، وعلى الوضع العام كله، بينما نتائجه إيجابية أو أقل سلبية، حين يمارس من قبل الأقوياء بسبب امتلاكهم السلطة وأجهزة الإعلام وامتلاك زمام المبادرة وإن لم يفلتوا من سوء السمعة والتشهير بهم ودفع الثمن لاحقًا.

4- أُدين الإرهاب باعتباره لا أخلاقيًا، وغير شرعي ، أو قانوني، ولهذا ينكره الأقوياء حين يمارسونه، وإن اعترفت به بعض المجموعات الصغيرة التي مارسته وحاولت اعتباره نهجًا في التغيير، ولكن كان موقفها المرجعي والنظري ضعيفًا جدًا، وغير قابل للثبات أمام امتحان التجربة.

5- ليس للإرهاب من تأثير في تحديد مجريات الصراعات السياسية التي تتقرر من خلال القوى الاجتماعية والدولية والاقتصادية والعسكرية والشعبية الكبرى، فتأثيره مؤقت ومحدود وسريع التجاوز ولو كان عنيفًا ومؤذيًا ودمويًا في معظم الأحيان.

6- عندما يمارس من قبل طاغية ضد معارضيه، أو من قبل قوة استعمارية أو عنصرية، قد يطيل عمر قوة منهارة لبعض الوقت، لكن لن يمنع أبدًا وصولها إلى المصير المحتوم حين تنضج الظروف ويأتي أوانها، بل إن ممارسته والحالة هذه تشكل علامة من علامات الضعف والانهيار وليس القوة والمنعة.

7- عندما يمارس من قبل مجموعة صغيرة ضد رموز نظام تعارضه، يشكل في العادة خروجًا عن مجرى الحركة الشعبية، وهو بهذا يأتي تعبيرًا عن نَفَس قصير، واستعجال للنتائج، وفقدان للصبر، وضيق أفق، وهي صفات يتسم بها ممارسوه، وإن اتسموا في الوقت نفسه على المستوى الشخصي بـ(نقاء ثوري) إن كانوا يساريين أو قوميين، أو بـ(قوة إيمانية) إن كانوا متدينين، وهو ما يجعلهم يبتعدون عن السياسة ويلوذون بالمبادئ، فلا يهمهم نتائج المحاربة الإرهابية عليهم، كما على الناس والقضية والوضع الشعبي العام، إذ قد يتسببون بانحساره بعد مد، ولهذا حملوا سمة نخبوية منشأً ومنهجًا بصورة عامة أو غالبة.

8- لا تدخل ضمن الإرهاب الآنف الذكر ممارسة الاغتيال في الحرب بين جيشين أو المقاومة ضد الاحتلال، ففي الحالة الأولى يدرج في إطار العمل خلف خطوط الجبهة الأمامية لإرباكها أو حرمانها من قيادة سياسية أو عسكرية أو تحريضية ذات تأثير استثنائي، أما في الحالة الثانية فالمقاومة تعتبر مشروعة في القانون الدولي ومختلف الشرائع والأعراف، وأقرّت بذلك الثورات كافة.

9- عندما يتحول الإرهاب الفردي إلى النمط المعروف بخطف الطائرات واستخدام ركابها رهائن والتهديد بتدميرها مقابل مقايضة معينة، فإنه أدين بترويع المدنيين وتهديد حياتهم أو قتلهم بلا وجه حق، مما يجعله جريمة بحق أبرياء لا ذنب لهم، كما اعتبر منهجًا مخطئًا إن أريد منه إشهار قضية أو شكلاً من أشكال المقاومة، فهو فعل خارج ميدان الصراع أسقط دور الجماهير من حسابه واعتمد على عضلاته، هذا فضلاً عن موقف سلبي عام منه على مستوى الرأي العام العالمي في كل بلدان العالم، ويسمح بسبب سرّيته وغموضه بإثارة الشكوك والتكهنات حول مَن ورائه، مما يسهل وضع الحَبّّ في طاحونة العدو الذي أراد إيذاءه أو إخضاعه لمطالبه، ويمكن أن يقال الشيء نفسه بالنسبة إلى عمليات التفجير في الشوارع العامة أو بعض المؤسسات خارج ميدان الصراع تحت نظرية (نقل الصراع أو المعركة إلى العالم كله) ليزيد عزله ويضاعف من أعدائه .

10- الإرهاب الذي عرفته مرحلة الحرب الباردة، بمختلف أشكاله (الاغتيال الفردي أو خطف الطائرات أو السيطرة على رهائن في مؤتمرات دولية (مؤتمر أوبك في فيينا) وما شابه) كان مُسيطرًا عليه عمومًا من قبل منظومة حلف وارسو وحلف الأطلسي سواء كان من حيث الأشكال والأدوات أم السقوف، أما المشكلة في إرهاب المرحلة الحاليّة فيكمن في كونه خارج السيطرة الدولية ولم يعد محدد الأشكال والأدوات والأماكن والسقوف، وربما كان هذا سببًا رئيسًا نجَم عن الاتجاه الأمريكي بعد انتهاء الحرب الباردة، بالاستفراد في قيادة العالم وتهميش أدوار الدول الكبرى الأخرى ومجلس الأمن، ومن ثم الإصرار على تعريف واحد للإرهاب هو تعريفها، بل محاولتها اللعب بورقة الإرهاب حين يكون موجّهًا ضد هذه الدولة أو تلك قبل أن تمسّها ناره، ويبدو أنها حتى هذه اللحظة مصممة على النهج نفسه بدليل رفضها القاطع لفكرة "المؤتمر الدولي" أو المرور من خلال مجلس الأمن أو أن تأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر الدول الأخرى في الوصول إلى تعريف متوازن للإرهاب، فضلاً عن استخدام محاربته ذريعة أو غطاء لتحقيق أهداف أخرى، وهذا يدل على أن ممارسات الدول الكبرى لا تنبع من مبادئ قانونية شرعية، وإنما من مصالح سياسية واستعمارية تقارب ما يمارسه الإرهاب إذا كان نابعًا من منظمات أو أفراد بحيث يتساوى من يمارس الإرهاب ومن يدّعي محاربته.

11- أثبتت العمليات التي تعرض لها مبنى البنتاغون وبُرجا المركز التجاري العالمي في واشنطن ونيويورك (هي عملية واحدة)، أن الإرهاب ضد المدنيين واستخدام القتل الجماعي "وسيلة" في الصراع ارتفع إلى المستويات غير مسبوقة شكلاً وحجمًا وأدوات ومكانًا وخسائر وضحايا ونتائج عالمية، وإذا أضيفت إلى ذلك التحذيرات التي وردت في بعض التقارير والتوقعات من أخطار استخدام أسلحة جرثومية وكيمياوية وربما نووية، وما شابه في عمليات إرهابية محتملة، فهذا يعني أن العالم كله أصبح مواجهًا لمعالجة هذا النمط من الإرهاب قبل تفشّيه، وما قد يجلبه من كوارث تفوق كل تصور وتخرج عن كل قواعد الصراع، بما فيها تلك التي اعتبرت إرهابية أو غير مشروعة، وإذا حصرت المواجهة بالمطاردة الأمنية أصبح وقوع المحظور أكثر احتمالاً.

12- كان الاتجاه الأمني في محاربة الإرهاب الداخلي أشد فاعلية في الماضي وقد أصبح اليوم بحاجة إلى تعاون دولي في الآن ذاته، ولكن عندما يغدو إرهابًا بلا حدود موجهًا إلى أمريكا وغير مرتبط بدولة بعينها، أو لا يكون جزءًا من لعبة الدول، ولا يكون محصورًا بتنظيم أو تنظيمات محدودة، إذ يمكن أن يتولد عفويًا كالفطر وذلك بسبب اتساع قاعدة النقمة الشعبية على أمريكا في الإطار العربي الإسلامي والواسع، فإن الاتجاه الأمني العسكري في القضاء على البؤر التي مارسته قد ينجح جزئيًا هنا وهناك، ولكنه لن يأمن ضربات من حيث لا يحتسب، خصوصًا إذا كان من الممكن حقًا أن تمتد الأيدي إلى أسلحة غير تقليدية، بل إن استخدام الطائرات كما حدث في 11/9/2001 قد يعتبر استخدامًا لسلاح غير تقليدي ومن ثم ما لم تغير أميركا من أسلوبها في محاربة الإرهاب فلا تعامله بمعيار مزدوج ولا تتخذ من الحادي عشر من أيلول ذريعة لتحقيق مآرب أخرى، والأهم أن تعيد النظر في سياساتها المنحازة بصورة استفزازية لكل سياسات الدولة العبرية خصوصًا فيما يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى، وتدرك أن التواطئ التي أظهرته في التعامل مع الصراع العربي الإسلامي من جهة والصهيوني من جهة ثانية هو أحد الوجوه المهمة لبزوغ الإرهاب.

حقًا إن أمريكا لا تستطيع أن تغير من سياستها واستراتيجيتها وطبيعتها تغييرًا جذريًا ولكن تستطيع أن تعرف ويجب أن تعرف أين الخطوط الحمر التي لا يجوز تجاوزها مهما بلغت من القوة والعلو في الأرض، ومن ثم عليها أن تستمع جيدًا للآراء الكثيرة التي نصحتها بألا تتعدى الحدود في الحل الأمني-العسكري، وتبحث في الأسباب وتشرك العالم في تسيير أموره وتقرير مصائره.

13- إن طبيعة الرد الأمريكي، وطول أمده أو قصره، واتساع مداه ومحدوديته، وتوجهه ضد دول مسلحة، والتلويح بتوسعه إلى دول إضافية، وما صدر من حملة إعلامية ضد العرب والمسلمين جملةً، واستخدام الرئيس الأمريكي لعبارة "حرب صليبية" حتى لو لم يقصد معنى "صليبية"، أوجد مناخًا عامًا مشحونًا ترشح منه إشارات الخطأ والتسرع في معالجة القضايا الدولية.

خلاصة :

حمل الإرهاب سمعته السيئة من خلال أسلوبه الذي اعتمد الاغتيال الفردي للخصوم من أجل تحقيق هدف تغيير النظام، أو هدف القضاء على المعارضة، فبالإضافة إلى النقد المحق الذي وُجّه إليه باعتباره لا أخلاقيًا، أظهرت التجربة العالمية، وفي كل الحالات، أنه أسلوب فاشل يعود على أصحابه والوضع العام بالضرر الفادح، والعواقب الوخيمة، خاصة إذا كانوا الأضعف في الصراع، ولا ينجو من السمعة السيئة أيضًا إذا مارسه طاغية ضد صاحب حق، أما السرّ القوي في دحضه فهو الاعتماد عل النظرية التي ترى أنّ التغيير يتم من خلال عضلات الجماهير العريضة، وليس من خلال عضلات مجموعة صغيرة لا تقوى على البقاء أمام الأجهزة المنظمة، والأكثر فاعلية وإمكانات في البلد الواحد، فكيف حين تطبق عليها الأجهزة الدولية ويجتاحها الهجوم من كل جانب.

وهكذا تشعب العمل الموصوف بالإرهاب واختلفت أساليبه، حتى بات من الصعب الاتفاق على تحديد قانوني لمعناه، وقد عجزت منظمة الأمم المتحدة نفسها، رغم طول المداولات ورغم تعبئة جهود المئات من القانونيين من مختلف قارات العالم، عن الاتفاق على معنى الإرهاب وعلى مدى شمولية المفهوم لجميع أشكال العنف السياسي، ولكن في الوقت الذي لا يزال فيه المعنى القانوني للإرهاب مفتوحًا، فإن الإجماع يكاد ينعقد عالميًا على أن الإرهاب هو صفة كل فعل عنف سياسي موجّه حصرًا ضد السكان المدنيين، كائنة ما كانت التباسات الشرعية السياسية والتاريخية معًا.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - راجع: مصطفى الفضي، الإرهاب فقر وشعور بالظلم، جريدة الحياة 27/11/2001 العدد 14135.

[2] - راجع: بليشنكو وزادانوف، الإرهاب والقانون الدولي (ترجمة المبروك محمد الصويعي) الدار الجماهيرية، ليبيا 1994 ص22.

[3] - راجع: جورج طرابيشي، الإرهاب عن:

Isabelle Sommier, Le Terrorisme ,Flammarion. Paris,2000.

[4] - راجع: جورج طرابيشي، الإرهاب مرجع سابق.

[5] - راجع: بليشنكو وزادانوف، مرجع سابق.

[6] - راجع: أحمد محمد رفعت، الفوارق القانونية بين الكفاح المسلح المرتبط بحق تقرير المصير والإرهاب الدولي، أبحاث المؤتمر السادس عشر لاتحاد المحامين العرب، الجزء الثاني، مطابع القبس، الكويت، 1987، ص545-547.

[7] - راجع: عدنان السيد حسين، الانتفاضة وتقرير المصير، دار النفائس، بيروت 1992 ص4.

[8] - راجع: حسن الترابي، الدفاع عن الحرية بقوة متكافئة والتزام الشرع،... ورد العدوان لا يتجاوز العذر اللازم لصد المبادرة الباغية، جريدة الحياة 18/1/2002 العدد 14184 ؛ أديب نعمة، أفكار في تعريف الإرهاب، جريدة السفير 17/10/2001 العدد 9031 ؛ ياسين الحج صالح، الإرهابي هو من يؤمن بوجود الإرهابيين، جريدة السفير 17/10/2001، العدد 9031.

[9] - انظر الوثيقة رقم 866 من وثائق الأمم المتحدة، الفصل الأول منها.

[10] - راجع: هيثم مناع، الإرهاب وحقوق الإنسان، كي لا نخسر أجمل عطايا القرن العشرين، جريدة الحياة 19/11/2001، العدد 14127.

[11] - راجع: داوود خير الله، في تعريف الإرهاب وشرعية وسائل القضاء عليه، جريدة السفير، الخميس 15/11/2001 العدد 9056.

[12] - راجع: منير شفيق، نقاط في قراءة الإرهاب، جريدة الحياة، الأحد 30/9/2001 العدد 4077.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني عشر