مقدمة
يوم الأحد في
الرابع من صفر لسنة 656هـ-1258م سقطت عاصمة الخلافة
العبّاسية "بغداد"، بعد حصار مغولي قاده حفيد "جنكيز خان"
-مؤسس الإمبراطورية المغولية- "هولاكو"().
ويذهب العديد
من المؤرخين، إلى اعتبار أن سقوط الخلافة العباسية، وتمكّن
المغول من المسلمين، كان سببه -بالإضافة إلى القوة
العسكرية المغولية وتشتت المسلمين- "الخيانة"، من قِبل عدد
من رجالات الدولة العباسية، وبالأخص "ابن العلقمي"()
وزير الخليفة العباسي الأخير المستعصم وهو من الشيعة
الاثني عشرية (640-656هـ).
وهي اتهامات
أصبحت عند "البعض" من المسلّمات، من دون تمحيص أو دراسة
علميّة صحيحة للأوضاع المحيطة بالبلاط العباسي، وبالدولة
الإسلامية في الشرق، وبالتحديد في بلاد العراق والشام...
في الواقع،
لو عدنا إلى بلاط المغول، حيث العاصمة "قراقورم" في الصين
-ولن ندخل في تفاصيل تحرك المغول نحو المشرق الإسلامي-
للاحظنا أن الخان الأكبر للمغول في تلك الفترة "منكوقاآن"
-أحد أحفاد "جنكيز خان"- ومع وصوله إلى عرش الإمبراطورية
المغولية، بدأ العمل للسيطرة على البلاد التي لم تخضع من
قبل للدولة المغولية، فأوعز إلى أخيه "هولاكو" بالتحرك
للقضاء على "الإسماعيليين" ودخول بغداد، ويبدو أن هنالك من
عمل على تحريض "منكوقاآن" على الإسماعيليين، حيث كان يتردد
على "منكوقاآن" قاضي القضاة شمس الدين القزويني، الذي كان
يوغر صدر "القاآن" على الإسماعيليين.
يؤكد ذلك عدد
من المؤرخين الذين يظهرون دور القزويني في تحرك جيوش
المغول على الشكل التالي:
-"في ذلك
الوقت كان قاضي القضاة المرحوم شمس الدين القزويني موجودًا
في بلاط الخان، وذات يوم ظهر للخان مرتديًا الزرد وأخبره
أنه يلبسه تحت ثيابه خشية الملاحدة، كما سرد له طرفًا من
اعتداءاتهم وعاداتهم"().
-"شمس الدين،
كان على اتصال بالمغول وكان إمامًا عالمًا كبيرًا، ذهب مرة
إلى منكوخان وطلب منه أن يضع حدًا لشر الملاحدة ويخلّص
الناس من فسادهم... كلمات هذا القاضي كان لها اثر عميق في
نفس منكوخان إذ نسب إليه الضعف والعجز لأنه لم يستطع أن
يستأصل شأفة هذه الطائفة التي تدين بدين يخالف ديانات
المسيحيين والمسلمين والمغول..."().
ومع الأساليب
التي مارسها قاضي القضاة، عمد منكوقآن إلى تحريك الجيوش
نحو المشرق العربي الإسلامي، فطلب من أخيه هولاكو أن
يتحرك نحو قلاع الإسماعيلية ويستأصل شأفتهم.
إلا أن هذه
الروايات التي ذكرناها، ليست كافية للقطع بأن المغول
تحركوا إلى قلاع الإسماعيليين بسبب فتنة ما، فـ"منكوقاآن"
لم يكن راضيًا أصلاً عن هذه الجماعة، الذين اعتمدوا على
عمليات الاغتيال، وتحصيل الأموال عبر تهديد الحكّام
المسلمين والمسيحيين، مما أثار الكراهية اتجاههم من قِبَل
الحكّام ومواليهم، وحتى سكّان "قزوين" أنفسهم عبّروا -لـ
"منكوقاآن" نفسه- عن امتعاضهم من الإسماعيليين وأساليبهم
التي يتّبِعونها، وهو ما أثار حفيظة "القاآن" الذي اتّخذ
تدابير حاسمة للقضاء على الإسماعيلية().
إلا أن هذا لا يعني أيضًا أن شمس الدين القزويني قاضي
القضاة لم يكن هو من شجّع على الإسراع في اتخاذ قرار
القضاء على هذه الفرقة -وهو ما ذكرناه سابقًا-.
ومع اقتراب
هولاكو من قلاع الإسماعيلية، أرسل إلى ملوك وأمراء
المسلمين يدعوهم إلى الالتحاق بجيشه: "... بناءً على أمر
القاآن، قد عزمنا على تحطيم قلاع الملاحدة وإزعاج تلك
الطائفة. فإذا أسرعتم وساهمتم في تلك الحملة بالجيوش
والآلات فسوف تبقى لكم ولايتكم وجيوشكم ومساكنكم وستُحمد
لكم مواقعكم، أما إذا تهاونتم في امتثال الأوامر وأهملتم،
فإنّا حين نفرغ بقوة الله من أمر الملاحدة فإننا لا نقبل
عذركم ونتوجه إليكم، فيجري على ولايتكم ومساكنكم ما يكون
قد جرى"().
فتقاطر
الأمراء المسلمون لدعم هولاكو، ومنهم بدر الدين لؤلؤ صاحب
الموصل وأيوبيو الجزيرة الفراتية والشام.
بغداد قبل وصول المغول
كانت عاصمة
الخلافة العبّاسية، في تلك اللحظات الخطيرة والحاسمة من
تاريخ الدولة العبّاسية، تشهد انقسامًا خطيرًا، ليس فقط
بين رجال قصر الخليفة وخاصّته، بل وأيضًا بين السّكان
الشيعة والسنّة داخل المدينة.
وفي ذلك يذكر
ابن كثير في تاريخه، وفي السنة السابقة لغزو المغول
لبغداد: " كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نُهبت
فيها "الكرخ" ومحلة الرافضة، حيث نُهبت دور قرابات الوزير
"ابن العلقمي"، فاشتّد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه
على أن دبّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع"().
ملقيًا تهمة
قيام المغول بالهجوم على بغداد، وارتكاب ما ارتكبوه من
مجازر على الوزير "ابن العلقمي"، وهو أمر يُظهر مدى تأثير
الصراع بين المسلمين السّنة والشيعة على واقع الإمارات
الإسلامية، والخلافة العباسية، في الوقت الذي كانت فيه
القوّات المغولية تتقدم نحو بلادنا.
وقد تسرّع
"ابن كثير" في رميه التهمة على الوزير، الذي كان -وبشهادة
ابن كثير نفسه- "أستاذ دار الخلافة مدة طويلة... ومن
الفضلاء في الإنشاء والأدب... حصل له من التعظيم والوجاهة
في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء"()،
في الواقع
فإن الوزير "ابن العلقمي" كان ضعيفًا عند الخليفة، حيث كان
يناصبه العداء كل من قائد الجيش "مجاهد الدين الدويدار
الشركسي"، وبعض الشخصيات داخل قصر الخليفة، وهم من دبّر
استباحة الكرخ()
سنة 654هـ -1256م().
ولابن
العلقمي دور بارز في دفع المغول عن بغداد سنة 643هـ،
ومنعهم من دخول العاصمة حينها، حتى أن المؤرخ ابن أبي
الحديد كتب إلى ابن العلقمي قصيدة يمدحه بها على هذا النصر
مطلعها:
أبقى لنا الله الوزير وحاطه
وامتد وارف ظله لنزيله
يا كالئ الإسلام إذ نزلت به
|
|
لكتائب من نصره ومقانب
وصفت متون غديره للشارب
فرغاء تشهق من نجيع السالب
|
هذا الشخص،
من الصعب أن نقبل بفكرة خيانته للخلافة العباسية، وتعاونه
مع هولاكو على إسقاطها.
ولدينا عدة
أسباب تدفعنا إلى الشك فيما أورده ابن كثير، وغيره من
المؤرخين حول اتهام ابن العلقمي بالخيانة ، وهي:
أسباب سقوط بغداد
أولا: الصراع الداخلي والوشايات
- من
المتعارف عليه أن الخلافة العباسية، كانت في مرحلة السقوط
والانهيار، وقد تسلّط على الخلافة عدد من كبار رجال البلاط
العباسي، الذين كانوا ينصّبون الخليفة الذي يرضيهم ،
ويبعدون من يخشون من قوّته وبطشه . وكان هؤلاء قد لعبوا
دورًا أساسيًا في وصول المستعصم بعد موت المستنصر، ومن
أبرزهم الدويدار قائد الجيش ، وسليمان شاه ، والشرابي().
- وكان أن
وقع الخلاف بين الدويدار وابن العلقمي، سنة 654هـ، وذلك
بعد حادثة طبيعية ضربت بغداد ، حيث حدث سيل عظيم أغرق
بغداد ، وهو ما دفع إلى قيام جماعات من اللصوص والمشاغبين
بأعمال السلب والنهب والاعتداء على الناس . وعمد الدويدار
إلى احتضان هذه الفئات حتى قوي أمره، بينما كانت الخلافة
ضعيفة ، فقرر عندها خلع المستعصم ، إلا أن ابن العلقمي
وصله خبر الدويدار وخيانته ، فأبلغ الخليفة الذي عمد إلى
استدعاء الدويدار وأبلغه بما قاله له ابن العلقمي ، فما
كان من هذا الأول ، إلا أن نفى بشدة ، ودافع عن نفسه
متهمًا ابن العلقمي بالعمالة لهولاكو ، فطلب عندها
المستعصم -الذي صدّقه- منه أن يبقى متيقظًا().
وبذلك زادت
الشقة بين الوزير وقائد الجيش ، الذي عمد إلى تحريك أتباعه
، ونشرهم في كل مكان ، يذيعون بين الناس أن الوزير اتفق مع
هولاكو ، وأن لديه مشروعًا هدفه القضاء على المستعصم().
- وزادت قوة
الدويدار بمن جمع حوله ، حتى خشي منه المستعصم ، فذكر اسم
الدويدار في الخطبة بعد اسم الخليفة مباشرة .
- وحدثت
مجزرة الكرخ في نفس العام ، 654هـ ، حيث أرسل المستعصم
ولده الأكبر أبو بكر ليقضي على فتنة وقعت بين السنة
والشيعة في محلة الكرخ ، فأحرقها وأحرق مشهد الإمام موسى
بن جعفر الكاظم (عليه السلام) .
ويقول في ذلك
ابن خلدون : "كانت الفتنة ببغداد لا تزال متصلة بين الشيعة
وأهل السنة ، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب ، وبين
العيارين والدعّار والمفسدين ... وضاقت الأحوال على
المستعصم فاسقط أهل الجند وفرض أرزاق الباقين على البياعات
والأسواق وفي المعاش ، فاضطرب الناس وضاقت الأحوال وعظم
الهرج والمرج ببغداد"().
ثانيًا: وضع الخليفة العباسي
- في هذه
الأوضاع ، كان جيش المغول يقترب من بلاد المسلمين ، ووصلت
رسل هولاكو إلى المستعصم تتهدده ، فيعمد ابن العلقمي -الذي
كان على دراية بالواقع الداخلي للخلافة وضعفها وقوة
المغول- إلى الاقتراح على الخليفة بإرسال الهدايا إلى
هولاكو ، بهدف كسب ودّه ولو مؤقتًا وإبعاده عن أبواب
بغداد، إلا أن الدويدار أرسل مع بعض الأمراء رسالة إلى
الخليفة يتّهمون فيها الوزير بالتقرّب من هولاكو ، ويرفضون
فكرة الهدايا ، ليعدل الخليفة عن إرسالها مكتفيًا برسالة
تحمل التهديد والوعيد لهولاكو إن هو اقترب من بغداد ،
معتبرًا أن بغداد ما أرادها أحد بسوء إلا وقصم الله ظهره()
.
هذا من ناحية
، ومن ناحية أخرى وجد ابن العلقمي ، في الخليفة المستعصم،
الشخصية الضعيفة ، المترددة ، وأيضًا الشخص الذي عُرف عنه
بخله وهو ما ظهر عند المؤرخين :
- "كان
متدينًا متمسكًا بالسّنة كأبيه وجده ، ولكنه لم يكن مثلهما
في التيقّظ والحزم وعلو الهمة ... ومع موت المستنصر فضّل
الدويدار والشرابي والكبار ، المستعصم ... ليكون لهم
الأمر"().
- "كان شديد
الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني ، لا يكاد مجلسه يخلو
من ذلك ساعة واحدة ، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين
معه على التنعّم واللّذات ، لا يراعون له صلاحًا.
ومما يلفت
النظر أنه أرسل إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ، يطلب منه
جماعة من ذوي الطرب، وفي نفس الوقت وصل إليه رسول هولاكو
يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار . فقال بدر الدين :
"انظروا إلى المطلوبَين وابكوا على الإسلام وأهله".
حتى أن
الوزير ابن العلقمي كان في هذه الظروف المحيطة به ينشد
دائمًا :
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم
فمطاع المقال غير سديد
|
|
ضيّعوا الحزم فيه أيّ ضياع
وسديد المقال غير مطاع
|
- كما أن
المستعصم كان قد أسقط الجند ليتخلّص من أرزاقهم ويكدّس
الأموال حتى قال عنه ابن كثير "كان فيه لين وعدم تيقّظ
ومحبة للمال وجمعه"().
- عندما كان
الخليفة يُحذَّر من خطر المغول ، واقترابهم من بغداد ، كان
يقول: أنا بغداد تكفيني ، ولا يستكثرونها لي ، إذا نزلتُ
لهم عن باقي البلاد ، ولا أيضا يهجمون عليّ وأنا بها وهي
بيتي ودار مقامي"().
ثالثًا: الجيش العباسي ووضعه
أمام كل ما
ورد، خشي الوزير ابن العلقمي من زوال الخلافة، ومن أثر
الخلافات الداخلية على بغداد وما تبقّى من جندها، فدعى إلى
لقاء في منزله، جمع فيه كل أعيان البلاد للتشاور في الأمر،
ولإيجاد الحلول المناسبة للخطر المغولي الذي يقترب بسرعة
نحو أبواب بغداد، واتُفق خلال هذا اللقاء على جمع الجيوش().
فوافق
الخليفة، وأمر بحشد الجند، وبعد تعبئة الجند، طُلب من
الخليفة منح المال، إلا أنه رفض، عندها أُحبط ابن العلقمي
وأدرك مدى سوء الوضع الذي وصلت إليه الخلافة وبغداد().
ينقل ابن
كثير أن الجيش العباسي المدافع عن المدينة كان لا يبلغ
العشرة ألاف فارس، أما ما تبقّى منهم فقد أصبح في أسوأ
حال، وقد أنشد الشعراء فيهم قصائد رثاء وحزن على الإسلام
وأهله().
وفشل الجيش
العباسي بقيادة الدويدار، في منع المغول من الوصول إلى
أبواب بغداد عام656هـ، وفرَّ من تبقّى من الجند، ولجأ
الدويدار ومن معه إلى بغداد، ومع اشتداد الحصار، حاول
الدويدار الفرار من بغداد في سفينة، إلا أن المغول
أغرقوها، فعاد بأسوأ حال إلى بغداد()
ليُقتل بعدها ومن معه على يد المغول بعد استسلامهم، عندها
أرسل المستعصم يطلب وزيره ابن العلقمي ليسأله ما العمل؟
وذلك بعد أن انتهى أمر الدولة، ليخرج بعدها المستعصم
مستسلمًا مع أولاده في يوم الأحد 4 صفر سنة 656هـ/1258م
وليقتل بعدها.
ومن الأمور
اللافتة للنظر، والتي تُظهر كيف أن الخليفة العباسي كان لا
مباليًا تجاه الخطر المغولي على أبواب بغداد، انه وأثناء
الحصار، كان المستعصم يتلهى بالجواري والراقصات من حوله،
حيث يورد ابن كثير أنه "وأثناء حصار بغداد، وأثناء تبادل
رشق النبال، أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة
وتضحكه تدعى"عرفة" مما أثار فزع الخليفة، ولما أُحضر
السهم الذي قتل الجارية، وُجد مكتوبًا عليه "إذا أراد الله
إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم"().
ومما يذكر في
هذا الشأن أن "هولاكو" نفسه سأل الخليفة قبل مقتله: "إذا
كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلمَ احتفظت به، ولم توزعه على
جنودك، حنى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش
المغير؟ ولمَ لم تُحوِّل تلك الأبواب الحديدية إلى سهام
وتسرع إلى شاطئ نهر "جيحون" لتحول دون عبوري؟
فقال
الخليفة: "هكذا كان تقدير الله".
فرد هولاكو:
"وما سوف يجري عليك إنما هو تقدير الله"().
وقد أتى هذا
الحوار، بعدما انبهر "هولاكو" بقصر الخليفة العباسي، وبعدد
الجواري اللواتي بلغن تسعماية جارية. فأمر عندها بوضع
الخليفة في السجن وأن يمنع الطعام عنه، ولما طلب
"المستعصم" بشيء من الطعام أرسل له "هولاكو" طبقًا فيه
جواهر ذهب وفضة وطلب منه أن يأكلهم().
كل هذا
وغيره، يبرئ ابن العلقمي الذي كان لا حول له ولا قوة،
ويُظهر ومنذ البداية، من أسقط بغداد، ومن كان له الدور في
فتح باب العالم الإسلامي أمام الجيوش المغولية الجرارة، من
الخوارزمية، إلى قاضي القضاة، إلى الدويدار قائد الجيش،
إلى الخليفة، إلى صراع الملوك والأمراء المسلمين... إن
التاريخ لا بُدَّ وأن يظهر الحقيقة ولو بعد حين...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|