السنة الخامسة / العدد السادس عشر/ كانون أول 2009 - ذو الحجة 1431هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإسهامات الفكرية لعلماء جبل عامل

في تطوير الحوزة العلمية في النجف الأشرف

الشيخ جعفر كوثراني

 

المدخل:

بحثنا محوره العلم وليس التأريخ، وإن كنّا لا نستغني عن التأريخ الذي هو مجمع الوقائع والأحداث، وظرف الإيقاع لمن سبقنا من الأجيال.

وقبل ولوج البحث لا بد من إحراز القصد وحسن النية لأنهما أساس العمل، بل هي خير منه كما جاء في الحديث الشريف، وبعد التأمل وجدت أن باب القربات لا ينحصر بل لا ينقطع، فمن باب العلم والعلماء وذكر آثارهم والاطلاع على أحوالهم وتعظيمًا للعلم رأيت البدء، وقد قال الله تعالى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}([1])، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) "العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه عليه، فمن عمل بعلمه أدّى أمانته ومن لم يعمل كتب في ديوان الله تعالى أنه من الخائنين"([2]).

ونحن أمام سلف من علمائنا كانوا أبرز مصداق لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : "العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة".

بين جبل عامل والنجف الأشرف

جبل عامل المحدود في ترابه اللامحدود في طموح إنسانه، الذي طاول في قيمته قمم الجبال وناطح في طموح رجاله سحاب السماء، وليس من جزاف القول إذا ما أسميناه بـ"جبل العلياء". وفي إطلاله عابرة على تاريخ وماضي هذا الجبل الشموس النوراني المشعّ، نجده أنه بحق جبل العلم والعلماء، مرّ فيه رجال أحبّوا العلم وشمّروا عن ساعد الجد لكي تنكشف لهم الحقيقة، ويرتقوا إلى علياء المعرفة اليقينية، فحازوا الملكة الراسخة وفازوا بقصب السبق، لقد دخلوا إلى فضاء المعرفة من بوابة هذا الجبل الزاخر بالأدب والقيم، وهاجر قسم كبير منهم إلى حواضر العلم فدخل ميدان النجف العلمي رجال عامليون لا تلهيهم تجارة ولا يشغلهم شاغل عن مذاكرة العلم وشغف المعرفة.. حطّوا رحالهم فيها بعد أن كانت النجف عاصمة العلم الشيعية الأبرز ومجمعًا علميًا لا يستهان به، وقد شارك المهاجرون العامليون في تأسيس نهضة النجف العلمية عبر مختلف الحقب والأدوار التي مرّت بها جامعة النجف الأشرف وحوزتها الدينية، فأغنت الحركة العلمية فيها وأثرت معارفها وأدبياتها ومكتباتها بما صنّفوه من كتب حازت قصب السبق والجدارة في الحوزات وفرضت نفسها كتبًا دراسية لا لحوزة النجف فحسب بل لجميع الحوزات والمعاهد العلمية، كاللمعة للشهيد الأول وشرحها الروضة البهية للشهيد الثاني، وجامع المقاصد للكركي، وغيرها... فكان التأثير بالغًا حتى من الذين لم يقطنوا النجف الأشرف كالشهيدين والشيخ حسين بن عبد الصمد والد البهائي، والشيخ الحر العاملي وغيرهم.

ولست هنا في مقام المبالغة أو الخطاب، بل لتقديم معلومة أو تصحيح فكرة أو إنارة منهجية أو إثارة رأي أو الدفاع عن حق معنوي فكري أو نقاش ودحض ما ليس واقعيًا.

وعليه لا بد من الوقوف على بدايات ظهور العلم والعلماء، والكشف على الجيل الأول العلمي الذي أنتجته أرض عاملة، ولا بد من معرفة الأوائل الذين هاجروا إلى النجف الأشرف وخصوصًا أن حوزة النجف تشكّلت في زمن الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه المتوفى بعد أواسط القرن الخامس الهجري سنة 460هـ، الذي هاجر إليها من بغداد ليضع اللبنة الأولى في جامعتها الدينية، وقد اجتمع حوله العلماء وطلاب المعرفة.

والذي يبدو لي أن حوزة النجف انكفأت قرنًا من الزمن إلى الحلة فظهرت المدرسة الحلية على يد مؤسسها ابن إدريس الحلي المتوفى في أواخر القرن السادس الهجري سنة 598هـ، ثم ظهر المحقق الحلي والسيد ابن طاووس والعلامة وفخر المحققين والسيد العميدي والفاضل المقداد السيوري وابن فهد وغيرهم كثر، فاستقطبت الحلة العلماء ورجال العلم وطلبته مدة زمنية مهمة، وكان لها عطاءات علمية مشعة، وكان الشهيد الأول قد شارك في جامعة الحلة فقصد العلامة فلم يدركه بل أدرك ولده الفخر الذي أجازه وقال عنه في إجازته له:"استفدت منه أكثر مما استفاد مني".

والذي ظهر لي من خلال عدة معطيات أن الحياة العلمية دبّت في النجف بعد انكفاء مدرسة الحلة، وعادت الحركة العلمية إلى النجف ولمع نجمها في أواخر القرن التاسع الهجري.

الهجرة إلى جبل عامل

وأما جبل عامل فلم تنكفئ فيه الحركة العلمية فقد امتاز بكثرة من نبغ فيه من الشعراء والعلماء وغيرهم، فمن القرن السادس الهجري (ولعله قبل ذلك)([3]) إلى عصرنا تجد أجيال العلماء تترا فيه ويظهر فيهم الفقهاء والشعراء والمؤلفون العدد الكثير الذي يفاخر به جبل عامل سائر الأقطار والأعصار ولم ينقطع منه العلم من ذلك الحين وعدد النابغين منهم بالنسبة إلى سكان هذا القطر أكثر بكثير من النابغين من غيرهم بالنسبة إلى سكان أقطارهم، وكثرت مؤلفاتهم في كل فنّ، وبلغ عدد طلاب مدرسة المحقق الميسي أربعمائة طالب، وكانت عيناثا وميس وجزين ومشغرة وجبع وكرك نوح وغيرها غاصّة بالمدارس وطلاب العلم، وتخرّج منها الألوف من أعاظم علماء الشيعة.

حتى صار جبل عامل مقصدًا للعلماء ورواد المعرفة، فقد هاجر إليه ناصر بن إبراهيم البويهي وقرأ في عيناثا على الشيخ ظهير الدين العاملي، وقصده المولى عبد الله التستري من علماء إيران الكبار، وحضر أحمد بن فهد الحلي الفقيه صاحب عدة الداعي إلى جزين، وغيرهم.

مؤلفات علماء جبل عامل

إن ما صنّفه علماء هذا الجبل يعد من أهم الكتب في فنونها وأوثق المصادر والمراجع للفقهاء والباحثين ورواد العلم والحقيقة، وشغلت بال المفكرين قرونًا ولا زالت مدار البحث والدرس والتدريس ككتاب الدروس الشرعية والذكرى والقواعد والفوائد للشهيد الأول، وجامع المقاصد للمحقق الكركي، والمسالك والروض للشهيد الثاني، واللمعة وشرحها الروضة للشهيدين، والمدارك للسيد محمد ابن السيد نور الدين، والمعالم للشيخ حسن بن الشهيد الثاني، وكتاب الوسائل للحر العاملي، وأكثر مؤلفات الشيخ البهائي، ومفتاح الكرامة للسيد محمد جواد العاملي.

كما أن أقوالهم ونظرياتهم وتنبهاتهم في المسائل العلمية الدقيقة لخفايا الأمور لا تزال موضع عناية لدى المحققين والفقهاء، وقد دارت على هذه الكتب لهؤلاء العظماء حوزة النجف الأشرف، بل كل المعاهد العلمية والحوزات الدينية للدراسات الجعفرية، وقد تنوّعت في الفقه والأصول واللغة والأدب والتفسير وعلوم القرآن والحديث والعقائد والفلسفة والمنطق، حتى في علم الهيئة والرياضيات كما أُثر عن الشهيد الثاني والشيخ البهائي ذلك، وليس من الجزاف إذا قلنا بأن إسهامات علماء جبل عامل في حوزة النجف كانت حتى من الذين لم يقطنوا النجف منهم.

وعلى سبيل المثال ألّف الشهيد الأول كتاب القواعد والفوائد "تأنيسًا للطلبة بكيفية استخراج المعقول من المنقول وتدريبًا لهم في اقتناص الفروع من الأصول" كما ذكر ذلك الفاضل المقداد السيوري أحد تلامذة الشهيد الأول&.

ولنأخذ أمثلة أخرى ممن جاء بعد الشهيد الأول ممن أثّر وأسهم في الدراسات الشرعية وشقّ طريقها في النجف الأشرف وغيرها من عواصم الشيعة العلمية، الشيخ علي الكركي العاملي المعروف بالمحقق الكركي والملقب بالمحقق الثاني المتوفى 940هـ في النجف الأشرف، فقد قضى بقية عمره بجوار أمير المؤمنين إلى أن دفن فيها &، وهو أول من نبّه على نظرية "الترتب" الأصولية، إذ هي من أدق نظريات علم الأصول ولا تزال موضع بحث وجدل عند العلماء والمحققين، فبعضهم يعتبرها من المحالات وآخرون يعدونها من البديهيات، وهي مسألة لا بد للمجتهدين من الوقوف عليها ومما يمكن أن يعتمد الفقهاء عليها في استنباط الأحكام الإسلامية، وفي فهم المواد الكبرى والقوانين الشريفة التي جاء بها النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله).

وللمحقق المذكور موسوعة "جامع المقاصد" الفقهية، طبعت مؤخرًا في أربعة عشر مجلدًا، وفيها تحقيقات وتدقيقات فتح فيها منهجًا جديدًا في البحوث الفقهية، فكان يشير إلى المسألة ثم يبيّنها ويحقّقها ويحقّق موضوعها ثم يعقد المقارنات والاستدلالات على الموقف الشرعي السليم، وصار هذا الكتاب موضع عناية الفقهاء أمثال الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (أهم موسوعة فقهية استدلالية إلى يومنا المعاصر، وهو تلميذ السيد محمد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة)، والشيخ مرتضى الأنصاري كان لا يتخطى المحقق الكركي في أيّ مسألة تقريبًا من المسائل المبحوثة في كتابه الدراسي للسطوح العالية (المكاسب)، ومن المعروف في الحوزات العلمية أن طالب العلم بل المجتهد لا يتخرج حتى يدرس بعض كتب الشيخ الأنصاري والتي منها هذا الكتاب.

وعن صاحب الجواهر أنه قال: من كان عنده جامع المقاصد والوسائل والجواهر لا يحتاج بعدها إلى كتاب آخر للخروج عن عهدة الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الفرعية.

وناهيك عن الشهيد الثاني (المتوفى سنة 966هـ) الذي بلغت مؤلفاته مائتي كتاب وهو أكثر علماء الشيعة ابتكارًا -على ما ذكر أستاذنا الشيخ الفقيه العاملي (قده)- وله تفوّق عظيم في العلوم الرياضية، وهو من أدخل الشرح المزجي في كتب الشيعة، وأول من ألف في علوم الحديث منهم. وأول من ناقش في الإجماع المنقول، وكتبه لها امتياز على ما يشاركها، فكتاب المسالك لا تستغني عنه مكتبة فقهية إذ هو موسوعة في بابها لا يستغني عنه مجتهد أو مراهق للاجتهاد.

والروضة شرحه على اللمعة الدمشقية للشهيد الأول (ره) يدرّس إلى اليوم في جامعات الشيعة الكبرى كالنجف الأشرف وقم وخراسان، فضلاً عن الحوزات العلمية في جبل عامل.

يقول الشيخ الفقيه (قده): كان الشهيد الثاني (ره) أول من هذّب الدرس ورتّب العلوم... ووضع فيها كتابًا وبرنامجًا للمعلم والمتعلم، وهو أول إمامي صنّف في الدراية فألّف البداية وشرح الدراية، وأٌثر عنه كرامات عديدة منها أنه كان يكتب في كل يوم كراسًا، وكان يغمس القلم في الدواة فيكتب في الغمسة الواحدة عشرين سطرًا أو ثلاثين، ولما استشهد رأى بعضهم أنواراً تتلألأ على جثمانه الشريف، وكانت أسفاره كلها إما في  طلب العلم أو الحج أو الزيارة([4]).

ومن الذين تركوا آثارًا قيمة لا زالت موضع حاجة واعتناء من قبل العلماء وطلبة العلم هو الشيخ حسين بن عبد الصمد المتوفى سنة 984 هـ، وهو يعتبر أول من استدل على حجية الاستصحاب بالروايات، ولا يخفى ما لمسألة الاستصحاب من أهمية في عملية الاستنباط الفقهي، وهي إحدى عناصر الاستدلال المهمة على تحديد الوظيفة العملية للمكلف أو الموقف الشرعي تجاه بعض القضايا التي هي محل ابتلاء المكلفين، والاستصحاب مسألة مترامية الأطراف ومتشعبة المباحث.

ومنهم الشيخ محمد حسن الحر العاملي المتوفى في سنة 1104 للهجرة الذي بات معروفًا في الأوساط العلمية بصاحب الوسائل، أي كتاب "وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة" وهو من المجاميع الحديثية والروائية، إذ جمع فيه مؤلفه الشيخ الحر الحديث المروي عن المعصومين (عليهم السلام) في كل المسائل والقضايا، ورتّبها أفضل ترتيب بعد أن بوّبها فأحسن فيها التبويب، بحيث يسهل على الباحث تناول الكتاب والرجوع إلى أي خبر أراد، أو الوقوف على روايات وأحاديث أي مسألة أراد أن يعرف حكمها، وما ورد فيها عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

وهذا الكتاب لا يستغني عنه فقيه مجتهد أو عالم فاضل أو باحث عن حقيقة أي حكم شرعي من طريق الأخبار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، وفي هذا الكتاب عمدة ما يعتمده الشيعة من الأحاديث الشريفة في فروع دينهم -وأغنى بذلك عن مراجعة الكتب الكثيرة- وقد استغرق في تأليفها عشرين سنة جامعًا فيها أكثر من مائة وأربعة وتسعين كتابًا.

ومن هؤلاء العامليين السيد جواد العاملي المتوفى سنة 1226 للهجرة، ويقال له محمد الجواد المعروف بصاحب مفتاح الكرامة، ويعدّ أول من خصّص كتابًا لجمع أقوال العلماء في كل مسألة أي موسوعة فقهية كاملة، كان الغرض من ذلك تسهيل الأمر على الطلاب والعلماء في مراجعة المسائل الفقهية والوقوف على الآراء، بعد أن استقرأ فيها جميع الآراء الفقهية في كل مسألة، قال عنه في الأعيان:"عالمًا فقيهًا أصوليًا محققًا مدققًا، وهو أستاذ صاحب الجواهر الذي استفاد من كتابه مفتاح الكرامة وكان أعظم معين له في تصنيف كتاب الجواهر" ... وغيرهم كثر.

هذه نماذج ذكرناها وكان الغرض من ذلك ذكر العلماء للاطلاع على أحوالهم وتعظيمًا للعلم وأداء بعض ما لهم من حق علينا، عسى أن يكون ذلك حافزًا لنا في الاقتداء بهذا السلف الصالح في إصلاح النفس وتزكيتها وحثّها على نيل الفضائل والسجايا الخلقية والترقي العلمي.

وختامًا، لا بد من القول بأن التأثير إذا ثبت في حوزة النجف الأشرف من قبل علماء جبل عامل، فهذا لا يعني اقتصار تأثيرهم فيها، بل يعمّ الحوزات الأخرى، لأن حوزة النجف هي الجامعة المحور للمعاهد الدينية والحوزات العلمية، فما يقرر فيها يصبح المنهج والمحتذى، وبالتالي يكون لعلماء جبل عامل ممن ذكرنا وغيرهم فضل المشاركة وبجدارة في رسم مناهج وفكر الحوزات العلمية والمعاهد الدينية، والتالي نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم المعروف بالمذهب الجعفري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

([1]) المجادلة من الآية 11.

([2]) الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة، الشهيد الأول، طبع مشهد 1365هـ.

([3]) لأنه لا يمكن وجود علماء بهذا المستوى وغيره من دون تواصل علمي سابق مع فرض عدم وجود هجرة إلى خارج جبل عامل في حينها. 

([4]) نقلا عن كتاب جبل عامل في التاريخ، الشيخ محمد تقي الفقيه (قده) ص94-97.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس عشر