السنة السادسة / العدد السابع عشر/ حزيران 2010 - رجب 1431هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تأملاّت في كلمات الإمام الحسين (ع)

قبل وأثناء عاشوراء(1)

الشيخ محمد جواد الفقيه

 

مثلما يتضوّع بَوْح الربيع فتحضنه الأرض السمراء بأفياء مواسمها، كذلك كانت كلمات الحسين... تنطلق في أرجاء الغاضرية فتحضنها السماء لتعود ثانيةً رشيشًا يجلو القلوب.

وكما تتناغم ألوان الطيف مع الأمل الوردي لإنسان غُرّب في التيه.. كذلك.. كانت عاشوراء الحسين.. تتألّق رغم الأهوال ورغم الوجع المصلوب..

إنها تنْسلّ من بين كل مفردات التأريخ لترسم لنفسها تأريخًا يختصر كل المسافات بين إنسان الماضي وإنسان الحاضر وإنسان المستقبل.

عاشوراء.. كانت دماءً.. وكانت كلماتٍ.. كانت نهضةً.. ثورةً.. حبًّا.. عطاءً.. كبرياءً.. إباءً.. لذلك ظلّت تتفاعل بمعطياتها مع المستقبل كما الحاضر.. فأمس عاشوراء وحاضرها واحد... يطلع علينا مثل الشمس إلا أنه لا يغيب!!

عاشوراء.. جلوةُ الإسلام وجذوتهُ حين ظن النفاق أن بإمكانه إخفاء تلك الجلوة وإطفاء تلك الجذوة..

حسينٌ... ومن مثل حسين بعد جده المصطفى وأمه الزهراء وأبيه علي المرتضى وأخيه الحسن المجتبى؟!

إن المتتبع لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة يُفاجأ بخصائص نادرة لا توجد إلا في سِيَرِ الأنبياء (عليهم السلام)، يقرأ ذلك في سمو ذاته المباركة كما يقرأه في تعامله مع الآخر، وأكثر ما يلاحظ ذلك في كلماته التي أطلقها قبل وأثناء عاشوراء.

إن كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) كانت تصدر من مشكاة النور النبوي والأَلَقِ العلَوي، فظلت خالدة في وجدان هذه الأمة لا يحجبها ظلمٌ ولا تغشاها ظُلْمة...

كلماتٌ نُقشت ضمن إطار الشهادة معمّدةً بالدم الطاهر الزكي فخلُدت، لأنها كانت الشاهد والشهيد، الشاهد -على مرارة الظلم والجور- والشهيد بين يدي الله سبحانه..

الوصية الخالدة

مع أولى الخطوات لانطلاق الركب الحسيني تستوقفنا تلك الوصية الخالدة التي رقمها (عليه السلام) بيده، والتي نقرأ من خلالها عبوديته المطلقة لله سبحانه وتعالى من دون أيّ تلميح لأمر مّا يتعلق بهذه الدنيا الفانية:

(هذا ما أوصى به الحسينُ بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية:

أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق وأن الجنة َوالنار حقٌ وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرًا ولا بطَرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي.. )

وكأنه بوصيته هذه يذكّرنا بوصية إبراهيم (عليه السلام) خليل الرحمن ويعقوب (عليه السلام) نبي الله لبنيه : {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}([2]).

والذي يبدو لنا أن الحسين صلوات الله عليه اعتمد أساليب مختلفة تفرضها المرحلة في محاوراته ومخاطباته مع الناس -سواء الذين ناصروه أو الذين ناوؤوه-.

الأسلوب الأول : الإلماح بالذهاب نحو الشهادة

 لقد كان (عليه السلام) يرى أن استشهاده أمر مقدر من عند الله تعالى، وذلك بمقتضى علمه الموروث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)([3])، ولعلّه اختار أن يُفاجئ بها من كان معه من عموم الناس، وكأنه يضع نصب أعينهم أسوأ الاحتمالات في مسيرته تلك، من الناحية العسكرية طبعًا، سيما وأن أكثر الذين تبعوه من الناس إنما تبعوه طمعًا في سلطان أو غنائم، لذلك سمعناه (عليه السلام) يُشعرهم بأن رحلته هذه يحدوها الشوق إلى لقاء الله في حظيرة قدسه ومستقرّ رحمته مع الأنبياء والمرسلين، ثم لا يتوانى (عليه السلام) في تصريحه بالشهادة، وأن الله سبحانه قد اختار له ذلك، فوقف في مكة المشرفة خطيبًا وقال :

(خُطّ الموتُ على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياقَ يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأْنَ مني أكراشًا جوفا وأجربةً سُغبا، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل َ البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لُحمته، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه، وتنجز لهم وعده([4])، ألا من كان فينا باذلاَ مهجته موطّنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحلٌ مصبحًا إن شاء الله..).

وما أن أنهى خطبته المباركة حتى صار أكثر الناس يتفرقون عنه يمينًا وشمالاً، غير أن ذلك لم يمنع أبدًا من استمرار المسيرة وعدم النكوص ولا يتنافى معها البتة، لأن الظواهر كلها من كُتُبٍ ورسلٍٍ واستنجادٍ به (عليه السلام) توجب النهوض والقيام بهذا الأمر.

وظلّ (عليه السلام) يوحي لأصحابه الذين بقوا معه بذلك في أكثر من موقف، وكأنه يختبر مدى صبرهم وثباتهم على تحمّل مواجهة الموت، كما تشير إلى ذلك نصوص كثيرٍ من المصادر التاريخية، نذكر بعضها على سبيل المثال:

في الطريق إلى العراق، يسمع الفرزدق الشاعر بنزول الحسين (عليه السلام) على ماء من مياه العرب، فيأتي ومن معه مسرعًا للّقاء به والتماس بركته (عليه السلام)، فيسأله الحسين (عليه السلام) ويقول له:

أخبرني عن الناس خلفك؟

ويجيبه الفرزدق: الخبيرَ سألتَ، قلوبُ الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاءُ ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.

قال: (صدقت لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وكل يوم ربنا هو في شأن، إنْ نزل القضاءُ بما نحب فنحمدُ الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يُبعد من كان الحقُ نيته والتقوى سريرته.. ).

تسليمٌ مع إصرار على متابعة المسيرة مهما كانت النتائج

ويروي لنا سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال:

 (خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلاً، ولا ارتحل منه، إلا وذكر يحيى بن زكريا (عليه السلام)!! وقال يومًا: من هوان الدنيا على الله عزّ وجل أن رأس يحيى بن زكريا أُهديَ إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل. (يشير إلى وجه الشبه بينه وبين يحيى (عليه السلام)).

وفي محطة أخرى يأتيه نعي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، فيقول لمن معه من الناس:

(أما بعد فقد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج، ليس عليكم ذمام... ).

فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يمينًا وشمالاً، حتى بقي أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفرٌ يسير ممن انضموا إليه، والذين كانوا بحق صفوة المؤمنين الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً}([5]).

جمعهم الحسين (عليه السلام)، وقام فيهم خطيبًا -كما يروي لنا ذلك الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)- فيقول:

فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم -وأنا إذ ذاك مريض- فسمعت أبي يقول لأصحابه:

(أُثني على الله أحسنَ الثناء وأحمَدُهُ على السرّاء والضرّاء، اللهم إني أحمَدُك على أن أكرمتَنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين. أما بعدُ فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصلَ من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرًا، ألا وإني لأظن أن يومنا من هؤلاء قد اقترب، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعًا في حلٍِّ ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، هذا الليلُ قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجلِ من أهل بيتي، وتفرقوا عني، فإن القوم يطلبونني ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.. )

فقام زهيٌر بن القين رضي الله عنه فقال: (قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية ًوكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها).

ووثب هلالُ بن نافع البجلي فقال: (والله ما كرهْنا لقاء ربنا وإنا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وقام بريرُ بن خضير فقال: والله يا ابن رسول الله لقد منَّ الُله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة).

وحين وصل (عليه السلام) إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرم جمع ولده وإخوته وأهل بيته، ثم نظر إليهم فبكى ساعة .

ثم قال (عليه السلام) (اللهم إنا عترة نبيك محمد وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أمية علينا، اللهم فخُذْ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين).

 ثم أقبل على أصحابه فقال: (الناسُ عبيدُ الدنيا والدينُ لعْْقٌ على ألسنتهم يحوطونهُ ما درّت معايشهم فإذا مُحّصُوا بالبلاء قلّ الديّانون. ثم قال: أهذه كربلاء؟ فقالوا نعم يا ابن رسول الله.. فقال: هذا موضع كربِ وبلاءِ، هاهنا مناخُ ركابنا ومحطُ رحالنا، ومقتلُ رجالنا، ومسفكُ دمائنا).

وليس هنا مجالُ التفصيل في ذلك، لكن من أراد التفصيل فليراجع كتب المقاتل وغيرها مما هو إلى التواتر أقرب منه إلى الرواية كما في الخطبة المتقدمة وأمثالها.

الأسلوب الثاني : الوعظ والتذكير بالآخرة

ففي يوم العاشر من المحرم نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب الناس الذين اجتمعوا على قتله أو أخذه أسيرًا إلى ابن زياد مذكّرًا إياهم بأيام الله والرجوع إليه سبحانه، ومن ذلك قوله (عليه السلام):

(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال، متصرفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيُّ من فتِنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمِعَ فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرِ قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرضَ بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعمَ الربُّ ربُّنا وبئْس العبيدُ أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبًّا لكم ولما تريدون إنّا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قومٌ كفروا بعدَ إيمانهم فبُعدًا للقومِ الظالمين.

أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظَكم بما يحق لكم عليّ وحتى أعذر عليكم، فإن أعطيتموني النَصَف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النَصَف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تُنظِرُون، إن وليّي اللهُ الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين).

الأسلوب الثالث : بيان أحقيّته بالخلافة ومحاجّة الخصوم

وقد أعلن ذلك ببيان واضح جلي يقنع كل من كان له قلب، اللّهم إلا من وصفهم الحقُّ سبحانه بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..}([6]).

وقد اعتمد في ذلك طريقتين.

الطريقة الأولى: الاحتجاج عليهم بمراسلتهم له واستعجالهم إياه بالقدوم إليهم ووعدهم له بالمؤازرة والنُصرة، ولكن لا على نحو العتاب، بل على نحو التقريع والتوبيخ.. ثم بالتالي يواجههم بإعلان موقفه الرافض لكل أشكال الذلّ والهوان.

 قال المؤرخون: ركب الحسين (عليه السلام) ناقته وقيل فرسه فاسْتَنْصَتَهُمْ فأنصتوا فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله وصلّى على محمدٍ وعلى الملائكة والأنبياء والرسل وأبلغ في المقال، ثم قال:

 (تبًّا لكم أيتها الجماعةُ وترَحًا، حين استصرختُمونا والهين فأصْرخناكم موجِفين، سلَلْتم علينا سيفًا لنا في أيمانكم([7])، وحشَشْتم علينا نارًا اقتدحْناها على عدّونا وعدوكم، فأصبحتم إلبًا لأعدائكم على أوليائكم([8])، بغير عدلٍ أفشَوْهُ فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، فهلاّ -لكم الويلاتُ- تركتمونا، والسيفُ مَشيم، والجأشُ طامن، والرأي لمّا يُستحْصَفْ، ولكن أسرعتم إليها كطِيرة الدُبى، وتداعيتم إليها كتهافت الفَرَاش، فسُحقًا لكم يا عَبيد الأمّة، وشُذّاذ الأحزاب، ونبَذة الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعُصبة الآثام، ونفثَة الشيطان، ومطفئي السُنن، أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟ أجلْ والله غدرٌ فيكم قديمٌ، وشَجَتْ إليه أصولكم، وتأزّرَت عليه فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمرٍ، شجىً للناظر، وأكلةً للغاصب([9])... ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهاتَ منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ وطهرتْ، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام... ألا وإني زاحفٌ بهذا الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر).

ثم أوصل كلامه بأبيات فروة بن مُسيك المرادي :

فإن نَهزمْ فهزّامون قِدماً
وما إن طِبُّنا جُبنٌ ولكن
فقل للشامتين بنا أفيقوا
 

 

وإن نُغلب فغيرُ ملومينا
 منايانا ودولةُ آخرينا
سيلقى الشامتون كما لقينا
 

الطريقة الثانية: احتجاجه عليهم ببيان موقعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواء من حيث النسب، أو من حيث موقعه الديني المميّز انطلاقًا من سلوكه مع الله سبحانه وشهادات النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أخيه الحسن (عليه السلام) ، وبعد أن يرسل ذلك إرسال المسلّمات يُشعرهم بأن موقفهم منه موقف من يطلب ثأرًا هو منه براء، ثم يعود بعد ذلك فينادي من راسلوه من القادة بأسمائهم واحدًا واحدًا، مذكّرًا إياهم بالنص الذي بعثوا به إليه..

ويعلن مرة ثانية رفضه للذل والاستسلام، فتقدم (عليه السلام) حتى وقف بأزاء القوم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على النبي وعلى ملائكته وعلى أنبيائه، فلم يُسمع متكلم قط قبله ولا بعده أبلغ منه في منطق.

ثم قال:

(أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم راجعوا أنفسَكم وعاتبوها، فانظروا: هل يصلحُ لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألست ابنَ بنت نبيّكم وابنَ وصيّه وابنِ عمّه، وأولِ مؤمنٍ مصدّقٍ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟

فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، فواللهِ ما تعمدت كذبًا مذْ علمت أن الله يمقتُ عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، اسألوا جابرَ بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهلَ بنَ سعد الساعدي، وزيدَ بنَ أرقم، وأنسَ بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟

ثم قال لهم الحسين (عليه السلام):

 فإن كنتم في شكٍّ من هذا أفتشكُّون أني ابن بنت نبيّكم، فواللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالِ لكم استهلكتُه، أو بقصاصِ من جراحة؟

فأخذوا لا يكلمونه.. فنادى (عليه السلام):

يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمارُ، واخضرّ الجنابُ، وإنّما تَقدم على جُندٍ لك مجنّدة؟

فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمك فإنهم لن يُروك إلاّ ما تُحب..

فقال لهم الحسين (عليه السلام) :

لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد.

ثم نادى : يا عباد الله، إني عُذتُ بربي وربكم أن ترجُمون، وأعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.

الأسلوب الرابع : استنهاض الحميّة العربية في

نفوس أعدائه بعد اليأس منهم ومن نُصرتهم

فإنه (عليه السلام) حين يأس من هدايتهم، وعدولهم عن طريق الضلال إلى جادة الحق، أخذ يدعوهم للرجوع إلى أبسط القواعد المتعارف عليها لدى العرب قبل الإسلام وبعده.

ومن ذلك قوله (عليه السلام) -حين حال القوم بينه وبين رحله-:

ويْحَكُمْ إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم لا تخافون المعادَ فكونوا أحرارًا في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعرابًا.

فناداه شمرٌ، فقال : ما تقول يا ابن فاطمة.

قال (عليه السلام):

أقول أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جُناح، فامنعوا عُتاتكم عن التعرّض لِحُرمي ما دمت حيّا.

فقال شمر: لك هذا يا ابن فاطمة. ثم صاح شمر: إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه في نفسه، فلعمري لهو كفؤ كريم..

الأسلوب الخامس :تهديده (عليه السلام) لهم بعقاب الله

المعجل وما سيلقاه أعداؤه من ذلةٍ وهَوان وقتلٍ

قال (عليه السلام): ثم لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يُركبُ الفرس([10]) حتى تدور بكم دورَ الرَحى، وتقْلقَ بكم قلَق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ جميعًا فَلا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ... اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسِني يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسًا مصبّرةً، ولا يدع فيهم أحدًا إلا قتله قتلةً بقتلة، وضربةً بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنهم غرُّونا وكذَبونا وخذلونا وأنت ربُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإِلَيْكَ أَنَبْنا وإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

ثم قال: أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمرا..

فدُعي له، وكان كارهًا لا يُحبُّ أن يأتيَه.

فقال (عليه السلام): يا عمر، أنت تقتلني؟! أتزعم أن يوليَك الدعيُّ بن الدعيّ بلاد الريّ وجرجان؟! واللهِ لا تتهنأ بذلك أبدًا، عهدًا معهودًا، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضًا بينهم([11]).

فاغتاظ عمر من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة..

ثم إن الحسين (عليه السلام) دعا بفرس رسول الله (صلى الله عليه وآله) المرتجز، فركبه وعبّأ أصحابه...

الموقف الأخير :الحسين (عليه السلام) وحيداَ مع الله

عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ :

لما أصبحت الخيل تُقْبِلُ على الحُسينِ (عليه السلام) رفعَ يَدَيْهِ وقال :

اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ وتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ ويَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ويَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ أَنْزَلْتُهُ بِكَ وشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وكَشَفْتَهُ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ ومُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ.

وكان آخرُ دعاءٍ دعا به الحسينُ (عليه السلام) يوم الطف:

 اللّهُم أنتَ متعالِ المكان، عظيمُ الجبروت، شديدُ المحال، غنيٌّ عن الخلائق، عريضُ الكبرياء، قادرٌ على ما يشاء، قريبُ الرحمة، صادقُ الوعد، سابغُ النعمة، حسنُ البلاء، قريبٌ إذا دُعيت، محيطٌ بما خلقتَ، قابلُ التوبة لمن تاب إليك، قادرٌ على ما أردتَ، مدركٌ ما طلبتَ، وشكورٌ إذا شُكرت، وذكورٌ إذا ذكرت، أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكل عليك كافيًا، احْكُم بيننا وبين قومنا، فإنهم غرّونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا، ونحن عترةُ نبيّك، ووِلد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وانتهت المعركة بشهادته صلوات الله عليه وشهادة من معه من أهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم، ولكن كلماته الخالدة ظلّت تتألق في عالمنا المستباح هذا، تستمدّ وهْجها من كتاب الله الخالد وهديِ نبيّه الكريم، فهي منذُ أشرقتْ لن تغيب...


 

الهوامش

([1]) المصادر والمراجع مثبتة لدينا، وإنماحذفناها اختصارًا.

([2]) البقرة : 133-134 .

([3]) إضافة إلى العلم اللدني الذي اختص الله به بعض أنبيائه ورسله وأصفيائه ومن بينهم سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام).

([4]) في اللهوف ، لابن طاووس : وينجز بهم وعده .

([5]) الكهف : 13 .

([6]) النمل : 14 .

([7]) يعني أن هذه القوة الضاربة التي أنتم فيها، هي في الحقيقة للخليفة الشرعي وريث النبي ’ فلا أحد أولى بها منه (عليه السلام)، فهو الإمام بنص النبي ’: الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا.

([8]) أيضا هنا يشير (عليه السلام) إلى أحقيته بالخلافة، فهو يقول لهم إنكم استجمعتم كل قواكم وسخرتموها لصالح من هو في الحقيقة عدو لكم ليقاتل بكم من هم في الحقيقة أولياؤكم، ويعني بذلك نفسه (عليه السلام) وأهل البيت النبوي الكرام.

([9]) في هذه الفقرات أيضا يشير (عليه السلام) إلى أن ما هم فيه مرتبط بماضيهم وماضي آبائهم حيث انحرفوا عن خط الخلافة الشرعي منذ اليوم الأول، وتحزبوا لمحاربة أهل البيت ^.

([10]) أي لا تلبثون بعدي أكثر من سنتين وهي المدة التي يؤهّل فيها الفرس للركوب.

([11]) وقد صدق (عليه السلام) في ذلك،فقد ذُبح عمر بن سعد على فراشه بأمر من المختار بن عبيدة الثقفي، ووضع رأسه على قصبة في طرقات الكوفة وصار الصبيان يرمونه بالحجارة.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع عشر