السنة العاشرة/ العدد الخامس والعشرون /  حزيران 2014م / رمضان  1435هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تابع مقال =  تنزيه الأخبار

 

المحورُ الثالث: كعبُ الأحبار عند علمائنا (أعزَّهم الله)

لا يخفى على المتتبِّع لكُتُبِ فقهاءِ الطَّائفة (أعزَّهم الله تعالى) أنَّهم لم يعتدُّوا بكعب الأحبار ولا برواياته، وتعاملوا معه كما يتعاملونَ مع أبي هريرة ووهب بن منبه وأضرابهما ممَّن اشتهروا بكذبهم على الله ورسوله (صلى لله عليه وآله).

وأهملوا ذكره في مصنَّفاتهم الرِّجاليَّة، وذلك لوضوح حاله وظهورِ فسادِ عقيدته، وانحرافِهِ عن أمير المؤمنين (سلامُ اللهِ عليه) واشتهار كذبه وموضوعاته، وكثرةِ إسرائيليَّاته التي دسَّها في كتب المخالفين.

وتراهم إنْ تعرَّضوا لذكره فيتعرَّضون له بالطَّعن، وننقلُ بعض النماذج من تعرُّضهم له وتعريضاتهم به.

صدوقُ الطَّائفة الشيخ الصدوقُ (رضوانُ اللهِ عليه)

قال الصَّدوق (رحمه الله) عندَ الحديث عن الإمام الخاتم (أرواحنا فداه): [..فلم لا يقع التَّصديق بأمر القائم (عليه السلام) أيضًا من طريق السمع؟ وكيف يصدِّقون ما يَرِدُ من الأخبار عن وهب بن المنبه، وعن كعب الأحبار، في المحالات التي لا يصحُ شيءٌ منها في قول الرسول (صلى لله عليه وآله)، ولا في موجب العقول؟ ولا يصدِّقون بما يَرِدُ عن النبي (صلى لله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في القائم وغيبته وظهوره؟!..]([1]).

ومفاد كلام الصدوق (رضوانُ اللهِ عليه) كونُ كعبٍ من الكذَّابين الذينَ أكثروا وأفرطوا في أكاذيبهم بحيثُ زعموا المحالات، كما يفيد بأنَّ غيرَنا كانوا يأخذون دينهم منه ومن أضرابه.

محمَّد بن جرير الطبري (رحمه الله)

قال (رحمه الله) طاعنًا في رواةِ المخالفين: [ومن رواتكم: كعب الأحبار! الذي قام إليه أبو ذر، بين يدي عثمان، فضرب رأسه بمحجَنِهِ، وقال له: يا بن اليهودية!! متى كان مثلُك يتكلم بالدين؟! فوالله ما خرجَتِ اليهوديَّةُ من قلبك]([2]).

أبو الفتح الكراجكي (رضوانُ اللهِ عليه)

هو القاضي أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، من أجلَّة علمائنا الفقهاء والمتكلِّمين، تلميذ شيخَي الطَّائفة المفيد والطوسي (رضوانُ اللهِ عليهما)، توفِّي سنة 449 هجرية([3]).

قال متعجِّبًا من أغلاط المخالفين: (ومن عجيب أمرهم، وظاهر عنادهم: أنَّهم يرَوْنَ وجوبَ العملِ بأخبارِ الآحاد، فإذا أورد إليهم خبرٌ عن أحَدِ العترة الأبرار، والأئمَّة الأطهار، أهلِ بيتِ النُّبوَّة، ومعدن العلم والحكمة، صلوات الله عليهم أجمعين، لم يُصغوا إليه، ويَدَعوا المعقول عليه، وكان عندهم دونَ أخبار الآحاد رتبةً، وأقلَّ منها درجةً.

ويختارون عليه أخبارَ أبي هريرةَ الذي قال له النبيُّ (صلى لله عليه وآله): "إنَّ فيكَ لشعبةً من الكُفْر"([4]).

[وعدَّ جملةً منهم، إلى أن قال]:

وأخبارَ كعب الأحبار! الذي قام إليه أبو ذر (رحمه الله)، فضربَهُ بين يدي عثمان على رأسه بالمحجنَةِ، فشجَّهُ، وقال: يا ابن اليهوديَّةِ، متى كان مثلُكَ يتكلَّمُ في الدِّين؟! فوالله ما خرجَتِ اليهوديَّةُ من قلبك!!)([5]).

الشيخ البهائي (رحمه الله) يهجو كعبًا

فقد قال -في رائيَّتِهِ المشهورة- مخاطبًا صاحب العصر (أرواحنا فداه):

ويا مَن مقاليدُ الزمان بكفِّه
أغِثْ حوزةَ الإيمان واعمُرْ ربوعَهُ
وأنقذ كتابَ الله من يدِ عصبةٍ
يحيدون عن آياته لروايةٍ

 

 

وناهيكَ من مجدٍ بهِ خصَّهُ الباري
فلم يبقَ منها غيرُ دارسِ آثارِ
عصَوا وتمادَوا في عُتوٍّ وإصرارِ
رواها أبو شعيونَ عن كعبِ الأحبارِ

 

والقصيدةُ طويلةٌ، أخذنا منها موضع الحاجة([6]).

كعب الأحبار في كتب الرِّجال

لم يتعرَّض معظمُ علماء الإماميَّة في مصنَّفاتهم الرجاليَّة لترجمة كعب الأحبار، وذلك لوضوحِ فساد حاله ودينه وروايته، مضافًا لعدم وقوعه في سندِ شيءٍ من رواياتنا كما ستقِفُ عليه قريبًا.

نعم، لمَّا ذكر بعضُ علمائنا في مصنَّفاتهم رواياتٍ عامِّيَّة عن كعب الأحبار -في مقام الإلزام، أو التسامح كما أشرنا- ترجمَ له بعضُ علماء الرجال من أصحابنا ترجمةً مختصرةً، مقصورةً على ذمِّه وقدحِه([7]).

المحور الرابع: مرويّاتُ كعب الأحبار في تراثنا الرِّوائي

إنَّ مرويَّات كعب في تراثنا الرِّوائيِّ تتصفُ بأوصافٍ أربعة:

الأول: خلوُّ عمدةِ كتبنا الرِّوائيَّة -وهي الأصولُ ونحوها التي اعتمدت عليها الكتب الأربعة- من روايات كعب، فلن تعثرَ فيها ولو على رواية واحدة له.

الثاني: رواياتُهُ في بقيِّةِ كتُبِنا تكادُ تُعدُّ على الأصابع لنُدرتِها، بحيثُ لو أردنا مقابلتها بتراثنا الرِّوائيِّ لكانت كالعدم، حيث إنَّ نسبتها لا تبلغ الواحد من عشرة آلاف!!

وخذ مثالاً لذلك كتاب جامع أحاديث الشيعة، لمؤلِّفه السيد البروجردي (رضوانُ اللهِ عليه)، فقد جمع فيها ما يقارب سبعين ألفًا من تراثنا الرِّوائي، والمروي فيها عن كعب الأحبار أربعُ روايات لا غير!!

الثالث: كون جميع مروياته منتهيةً به، فلا تجد له روايةً واحدةً عن المعصوم (سلامُ اللهِ عليه)، ممَّا يسلبُ مرويَّاتِهِ أيَّةَ قيمةٍ اعتباريَّةٍ، لعدم حجيَّةِ قولِ أو فعلِ أو تقريرِ غير المعصومِ عندنا، إلا إذا كان مرجعُهُ إلى المعصوم (عليه السلام)، مضافًا لكونه كذَّابًا كما عرفت.

الرابع: كونها ملزمةً للخصم أو سليمة المضمون.

ولنستعرض بعض تلك الروايات تأكيدًا على ذكرناه، وتحقيقًا لما وصفناها به، فنقول:

روى الشيخ الصدوق (رضوانُ اللهِ عليه) بإسناده، عن عمر ابن حفص، عن زياد بن المنذر، عن سالم بن أبي جعدة، قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إنَّ في كتابنا([8]): أن رجلاً من وُلد محمدٍ رسول الله (صلى لله عليه وآله) يُقتَل، ولا يجفُّ عَرَقُ دوابِّ أصحابِهِ حتَّى يدخلوا الجنَّة، فيعانقوا الحور العِين.

فمَرَّ بنا الحسن (عليه السلام)، فقلنا: هو هذا؟ قال: لا.

فمَرَّ بنا الحسين (عليه السلام)، فقلنا: هو هذا؟ قال: نعم([9]).

وروى النُّعماني (رحمه الله) بإسناده، عن عبد الله بن ضمرة، عن كعب الأحبار أنه قال: إذا كان يوم القيامة حُشِرَ الخَلْق على أربعة أصناف: صنف رُكبان، وصنفٌ على أقدامهم يمشون، وصنفٌ مكبون، وصنفٌ على وجوههم، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، ولا يكلمون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، أولئك الذين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.

فقيل له: يا كعب، من هؤلاء الذين يحشرون على وجوههم وهذه الحال حالهم؟

فقال كعب: أولئك كانوا على الضلال والارتداد والنكث، فبئس ما قدَّمتْ لهم أنفسهم إذا لقوا الله بحرب خليفتهم، ووصي نبيهم، وعالمهم، وسيدهم، وفاضلهم، وحامل اللواء، وولي الحوض، والمرتجى والرجا دون هذا العالَم، وهو العلم الذي لا يجهل، والمحجة التي من زال عنها عطب، وفي النار هوى، ذاك عليٌّ وربِّ كعب.

أعلمهم علمًا، وأقدمهم سلمًا، وأوفرهم حلمًا، عَجِبَ كعبٌ ممَّن قَدَّم على عليٍّ غيرَهُ.

ومن نسل عليٍّ القائمُ المهديُّ، الذي يبدِّل الأرض غير الأرض، وبه يحتج عيسى بن مريم (عليه السلام) على نصارى الروم والصين -كما في الخبر-.

إنَّ القائمَ المهدي من نسل علي، أشبه الناس بعيسى بن مريم خلقًا وخُلقًا وسمتًا وهيبة، يعطيه الله عز وجل ما أعطى الأنبياء ويزيده ويفضله.

إنَّ القائم من ولد علي (عليه السلام) له غيبة كغيبة يوسف، ورجعة كرجعة عيسى بن مريم، ثم يظهر بعد غيبته مع طلوع النجم الأحمر، وخراب الزوراء، وهي الري، وخسف المزورة وهي بغداد، وخروج السفياني، وحرب ولد العباس مع فتيان أرمينية وأذربيجان، تلك حرب يقتل فيها ألوف وألوف، كل يقبض على سيف محلى، تخفق عليه رايات سود، تلك حرب يشوبها الموت الأحمر والطاعون الأغبر([10]).

وروى ابن عياش الجوهري (رحمه الله) من حديث طويل، إلى أن قال: قال جابر: فلمَّا انصرف سالم من الكعبة تَبِعتُه، فقلت: يا أبا عمرو! أنشدك الله هل أخبرك أحد غير أبيك بهذه الأسماء؟

قال: اللهمَّ أمَّا الحديث عن رسول الله (صلى لله عليه وآله) فلا، ولكني كنت مع أبي عند كعب الأحبار، فسمعته يقول: إن الأئمة من هذه الأمة بعد نبيِّها على عدد نقباء بني إسرائيل، وأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال كعب: هذا المقفِّي أولهم وأحد عشر من ولده.. الحديث([11]).

وروى المفيد (رضوانُ اللهِ عليه) بإسناده، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة: من صنع معروفًا إلى أحمق فهي خطيئة تكتب عليه([12]).

وروى ابن شهر آشوب (رضوانُ اللهِ عليه) مرفوعًا، عن كعب الأحبار، انه سألَ عبدُ الله بن سلام قبل أن يُسلم: يا محمد! ما اسم عليٍّ فيكم؟

قال: عندنا الصديق الأكبر.

 فقال عبد الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، إنَّا لنجد في التوراة: محمدٌ نبيُّ الرحمة، وعليٌّ مقيمُ الحُجَّة([13]).

وروى في كتاب الروضة، مرفوعًا إلى كعب الأحبار، قال: قضى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قضية في زمن عمر بن الخطاب.

قال: إنه اجتاز عبدٌ مقيَّدٌ على جماعة، فقال أحدُهُم: إذا لم يكن في قيدِهِ كذا وكذا، فامرأتي طالقٌ ثلاثًا -يعنون أنفسهم- فقال الآخر: إن كان فيه كما قلتَ فامرأتي طالق ثلاثًا.

قال: فقاما مع العبد إلى مولاه، فقالا له: إننا حلفنا بطلاق نسائنا ثلاثًا على قيد هذا العبد، فَحلَّهُ حتى نوزنَهُ، فقال سيِّدُهُ: امرأتي طالقٌ ثلاثًا، إن حُلَّ قيدُهُ. فطلَّقَ الثَّلاثةُ نساءهم.

قال: فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب، فقصُّوا عليه القصَّة، فقال: مولاه أحقُّ به، فاعتزِلوا نساءَكم.

قال: فخرجوا وقد وقعوا في الحيرة! فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) عسى أن يكون معه شيءٌ في هذا، فأتوه وقصُّوا عليه القصَّة.

فقال (عليه السلام): ما أهون هذا!

ثمَّ إنَّه (عليه السلام) أحضر جفنة، وأمر العبد أن يحطَّ رِجْلَه في الجفنة، وأن يُصَبَّ الماءُ عليها، حتى امتلأت الجفنة ماءً، فقال: ارفعوا القيد والرِّجلُ مكانَها، فرُفِعَ قيدُهُ عن الماء، فأرسل عِوَضَهُ زُبُرًا من الحديد في الماء، إلى أن صعد الماء إلى موضع ما كان فيه القيد.

ثم قال: أَخرِجوا هذا الحديد، وزنوه فإنه وزن قيد العبد.

قال فلما فعلوا ذلك وانفصلوا وحلَّت نساؤهم عليهم، خرجوا، وهم يقولون: نشهد أنك عَيْبَةُ علم النبوة، وباب مدينة علمه، فعلى من جحد حقك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين([14]).

المحور الخامس: دعوى الدسِّ.. في الميزان

إنَّ اتهامَ كعب الأحبار بدسِّه الروايات النصرانية واليهودية والمجوسية في كتبنا لا يمكنُ تصوُّرها إلا في حالةٍ من ثلاثِ حالات:

الحالة الأولى: أن يكون حالُهُ خافيًا عنَّا، فيتمكَّن من دسِّ ما يريدُ دسَّهُ من حيث لا نشعر!!

وانتفاء هذه الحالة أجلى من الشمس في رابعة النهار، حيث قد ثبت لك بما لا مزيد عليه من كون كعب الأحبار عندنا مذمومًا بأقذع الذم، مطعونًا في دينه وحديثه على لسان المعصومين (سلامُ اللهِ عليهم) وغيرهم.

الحالة الثانية: أن يكونَ مفضوحَ الحال عندنا، ولكنَّ رواياتِهِ وصلَتنا بأسانيد وهميَّة مزيَّفة لا وجود فيها لكعب الأحبار، فدخلت في تراثنا من حيث لا ندري!!

ولا أظنُّ صاحب ذرَّةٍ من عقلٍ يدَّعي مثل هذه الدعوى التي لا يُقرُّها العقلُ ولا يرتضيها العقلاء!!

إذ يكفي لنفيها كونها رجمًا بالغيب، لا تتجاوز صقع الادِّعاء بلا دليل.

ولو فتحنا الباب لمثل هذه السفاسف لما بقي لأيِّ حديثٍ -سواءٌ عندنا أو عند غيرِنا- وزنٌ ولا اعتبارٌ، إلا ما ثبتَ بالتواتر، وهو نسبةً لغيره كالنادر!!

فكيفَ والحالُ أنَّ التراث الرِّوائي عند الشِّيعةِ الإماميَّةِ قد مرَّ بأدقِّ مراحل التحقيق والتَّوثيق، على ضوء القواعد والضوابط التي وضعها أهل بيت العصمة والطهارة، بل تمت تحت إشرافهم (صلواتُ اللهِ عليهم) كما ستقف عليه؟!

الشِّيعةُ روَّادُ التحقيق في التُّراث الرِّوائي

ولكي لا نظلمَ المطلبَ حقَّهُ، مع مراعاتنا لبناء مقالتنا على الاختصار والابتعاد عن الاستطراد قدر الإمكان نمرُّ بشكلٍ سريعٍ على منهجيَّة التحقيق في التُّراث الرِّوائي عند الشِّيعة الإمامية أعلى الله كلمتَهم.

عرضُ الرِّوايات على المعصومِ (عليه السلام)

إذا استقرأنا عمليَّات تصفية الحديث وتنقيته وتهذيبه، وجدناها جهودًا جبَّارةً، رُوعِيَت فيها أعلى درجات الدقَّة في التَّثبُّت والتحقيق، بدأت منذ زمن الإمامين الصَّادقَين (صلواتُ اللهِ عليهما)، حيثُ كانوا يعرضون عليهما بعض المسموعات من الروايات المنسوبةِ إلى النبيِّ (صلى لله عليه وآله) وغيره، فيحكمان فيها تصديقًا أو تكذيبًا([15]).

واستمرَّ عرضُ الرِّوايات على المعصومينَ إلى زمن الغيبة الصُّغرى، ولا يسعنا استيفاء المطلب في هذا المختصر، فليُطلَب من مظانِّه.

عرْضُ الكُتُب على المعصوم (عليه السلام)

 ثمَّ رأينا كيف إنَّ الأجلاّء من الرواة يعرضون كتبَهم الحديثيَّة -مضافًا لِعَرض الروايات- على إمام زمانهم (عليه السلام)، أو يعرضها من يأتي بعدَهم على إمام زمانه (عليه السلام)، فهذا المحدِّثُ الفقيه يونس بن عبد الرحمن يقول: (وافيتُ العراق، فوجدتُّ بها قطعةً من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)، ووجدتُّ أصحابَ أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعتُ منهم، وأخذت كتُبَهم، فعرضتُها من بعدُ على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)..الخبر([16]).

وهذا عُبَيدُ الله الحلبي الذي صنَّف كتابًا جمع فيه ما جمع من أحاديثهم (سلامُ اللهِ عليهم) ثمَّ عرضَهُ على الإمام الصادق (عليه السلام) فصحَّحه له([17]).

وكتاب "يوم وليلة" للفضل بن شاذان، الذي عُرِض على الإمام الحسن بن علي العسكري ‘، فلمَّا نَظَرَ فيه، وتصفَّحَهُ ورقةً ورقةً، قال: "هذا صحيحٌ ينبغي أنْ يُعْمَلَ بِهِ"([18]). إلى غيرها من الكتب الكثيرة التي عُرِضت عليهم (صلواتُ اللهِ عليهم).

الأصول الأربعمائة ثمرةُ التصفية والتحقيق

وقد أسفرت عمليَّاتُ التحقيق والتوثيق المذكورة عن ظهور أربعمائة أصلٍ في حديث النبيِّ وآله (صلى لله عليه وآله)، متَّصلةِ الأسانيد بأهل بيت العصمة والطهارة، حتى صار مدارُ العمل عليها، ومرجع الطَّائفة إليها، وبلغت من الشُّهرة مبلغًا نافسَ الشمسَ في ضيائها والنُّجومَ في سنائها.

تدوين المجاميع الحديثية

ثمَّ انبثَقَت من تلك الأصول الأربعمائة مجاميعُ وكتبٌ حديثية، رُوعيَ فيها تبويبُ الروايات وفهرستها، ولم تخلُ من مزيد تنقيةٍ وتصفيةٍ، فكانت الكتب الأربعة الشريفة التي استقرَّ عملُ الطائفة عليها لاحقًا: "الكافي" للشيخ الكليني، و"من لا يحضرُهُ الفقيه" للشيخ الصدوق، و"تهذيبُ الأحكام"، و"الاستبصار"، كلاهما لشيخ الطَّائفة الطوسي (رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين).

مضافًا إلى كتُبِ المشيخة وغيرها من الكتب الجليلة النفيسة التي ألَّف علماؤنا في تعدادها وتراجمها المؤلَّفات.

وخذ مثالاً لذلك قولُ الآغا بزرك الطهراني (رحمه الله) يقول في كتاب مصفّى المقال في مصنّفي علم الرجال: (كان في مكتبة السيّد ابن طاووس مائة ونيِّف من مصنّفات الإماميَّة من كتب الفهارس والرِّجال فقط).

فهذا عرضٌ موجزٌ لسير عمليَّات التنقية والتصفية في التُّراث الرِّوائي الشِّيعي، يمنحُ أصحابَهُ أسمى أوسمة التجليل والتبجيل، حيثُ سبقوا سائرَ المسلمين في مضمار التحقيق والتدقيق بما لا شبيه له ولا مثيل.

الثالثة: أن نروي عنه ما نظنُّ صدورَهُ لسلامة متنِهِ، وهو في الواقع من المدسوسات المكذوبات!!

ومرويَّاته الموجودة في كتبنا تنفي هذه الحالة، بل الواقع مباينٌ لها، كما عاينتَ مما عرضنا من مرويَّاته.

حيثُ قد بينَّا أنَّها -على نُدرَتها وعاميَّةِ طُرُقِها- إمَّا مُلزِمةٌ للخصمِ بحقَّانيَّة مذهبنا، وإمَّا مقبولة المضمون لموافقته لما ثبتَ من طُرُقنا.

وإذ انتفت الحالات الثلاث كما هو واضحٌ بيِّن، انتفت الدعوى بالضرورة، وبان جهلُ مدَّعيه، هذا إذا كان جاهلاً!!

تبصرة درائيَّة

ثمَّ لو أمكن الإغماضُ عن كلِّ ما أسلفناه، رغمَ محاكاته للشمس في ضيائها، وللنجوم في سنائها، فهناك محذورٌ درائيٌّ يَجعلُ دعوى دسِّ كعب الأحبار الكثير من إسرائيليَّاته في تراثنا الرِّوائيِّ دعوىً مستحيلةَ الوقوع، مضحكةً للثكلى!! فيكون القبولُ بها مخالفًا للعقل والعقلاء.

حيثُ إنَّ الشيعةَ لا يرون الحجيَّةَ لغير من ثبتت عصمتُهُ، وهذا معروفٌ من سيرتهم التي لا تخفى على أحدٍ من المسلمين، وبالتالي فإنَّ دعوى دسِّ كعب الأحبار للأخبار في تراثنا الرِّوائيِّ لا تتأتَّى إلا بعد إثبات رواياتِهِ عن أحد المعصومين (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين).

والحال أنَّ كعبًا لم يروِ عن أحدٍ من المعصومين ولو روايةً واحدةً، فضلاً عن فريةِ الإكثارِ من الرِّواية، فيا لله ثم يا للدين!! كيف يسوِّغُ المرءُ لنفسه مثلَ هذا البهتان والافتراء وهو يعدُّ نفسَهُ من العلماء؟!

وهذا الوجهُ وحده كافٍ لإسقاط دعوى الدسِّ إلى الحضيض، وتعريةِ صاحبِها من المعرفةِ، بل إثباتِ كذبِهِ وافترائه.

نهايةُ التفنيد

ثمَّ لو أراد صاحب الادِّعاء المبالغة في الافتراء، وادَّعى وجود رواياتٍ لكعب الأحبار رواها عن بعض المعصومين (سلامُ اللهِ عليهم)، فلن يزيدَهُ ادِّعاؤهُ إلا ضلالاً وخسارًا.

حيث إنَّ جُلَّ مرويَّاتنا إنَّما رويناها عن الصادِقَيْن ومَنْ بعدَهما من الأئمة المعصومين (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين)، وذلك بسبب منع تدوين الحديث على يد عمر بن الخطاب ، والذي دام إلى زمن عمر بن عبد العزيز، حيث قام بتشكيل لجنةٍ أمويَّةٍ لتقومَ بتدوين الحديث، مستبعدًا مهابط الوحي والتنزيل الباقر والصادق (صلوات الله عليهما)([19])!! وزال المنع بعد ذلك.

ممَّا يعني أن تصوُّرَ كثرة الدسِّ المزعوم غيرُ ممكن في نفسِهِ فضلاً عن التَّصديق به، بل هو مما يضحكُ الثَّكلى، فأين زمن كعب الأحبار من زمن الإمامين الصادقين ‘؟!

تفصيل بعد إجمال

أجمعَ المؤرِّخون على أنَّ كعبَ الأحبار لم يلقَ رسولَ الله (صلى لله عليه وآله)، وأنَّه هلكَ في زمن حكومة عثمان بن عفَّان([20])، ممَّا يعني أنَّهُ أدركَ ثلاثةً من المعصومين، وهم: أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وابناه الحسنُ المجتبى والحسينُ الشهيدُ (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين).

وتراثُنا الرِّوائيُّ -كما أسلفنا- جلُّهُ عن الإمامين الصادقين ومن بعدهما من الأئمة المعصومين (سلامُ اللهِ عليهم أجمعين)، وتحقيقُ ذلك يُخرِجنا عن موضوع بحثنا، لكن ما لا يُدركُ كلُّهُ لا يُتركُ كلُّه، فلنأخذ الكتُبَ الأربعةَ -التي تمثِّلُ أصولَ تراثنا الرِّوائي- مثالاً، وعليه يكون القياس.

لقد بلَغَ عددُ الروايات المودَعَةِ في الكتُبِ الأربعة الشَّريفة -الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار- على ما ذكره محقِّق مستدرك الوسائل: 41254 حديثًا([21]).

والمرويُّ منها عن أمير المؤمنين (سلامُ اللهِ عليه) 690 حديثًا، وعن الإمام الحسن المجتبى (سلامُ اللهِ عليه) 21 حديثًا، وعن الإمام الحسين (سلامُ اللهِ عليه) سبعةُ أحاديث ومجموعها: 718 حديثًا؛ ونسبة هذه الأحاديث إلى مجموع أحاديث الكتب الأربعة لا يبلغ اثنين في المائة، ومع ذلك ليس فيها عن كعب الأحبار ولو حديثٌ واحد!!

والحالُ أنَّهُ لو كان بعض هذه الأحاديث -الـ 718 حديثًا- مرويًَّا عن كعب الأحبار فسيكون بمنزلةِ العدم نسبةً لأحاديث الكتب الأربعة.

بل حتَّى لو كانت كلُّها عنه فلن تبلغَ نسبتُها اثنين في المائة!! لتعرفَ أن عوى كثرة دسِّهِ في تراثنا هي كذبةُ القرن الواحد والعشرين بل أفظع أكاذيبه!!

خلاصة البحث

تبين لنا من خلال ما تقدم النقاط التالية:

1- لا خلاف في سوء حال كعب الأحبار وفساد مقاله عند الطائفة الحقَّة، ممَّا يجعل دعوى دسِّه الروايات في تراثنا أشبه بالخرافة!!

2- لا وجود له في أسانيد روايات الكتب الأربعة، والتي تشكل البُنيةَ الرِّوائيَّة لمذهب التشيُّع، مما يكشف عن سفاهة دعوى كثرةِ دسِّه في تراثنا الرِّوائي!!

3- معاملةُ علماء الطائفة له -في الرواية- معاملتَهم أبا هريرة وأضرابه، من حيثُ ندرة الرِّواية عنه، وقَصْرُها على ما فيه إلزام الخصم، أو ما يوثقُ بمتنه.

4- من المستحيل عقلاً تصورُ كثرةِ الدسِّ في تراثنا الرِّوائي من قِبَل كعب الأحبار الذي مات في إمارة عثمان بن عفان كما تقدّم([22])، فتكون دعوى الدسِّ المذكورة أشبه بالطُّرفة والفكاهة.

5- نسبةُ عدد مرويَّاته -التي بيَّنا حالها- في كتبنا لا تكاد تبلغ واحدًا في العشرة آلاف، بل هي أقل من ذلك جزمًا، مما يجعل وصفها بالقلَّة كثيرًا في حقِّها! فكيف بمن يصفها بالكثرة؟! وما عشتَ أراكَ الدَّهرُ عجبا!!!

وبعد وقوفك على هذه الحقائق والوثائق، ستتساءلُ مندهشًا: كيف يليق بعاقلٍ، فضلاً عمَّن يُعدُّ في العلماء، أن يقول: أنا أدَّعي أنَّ الكثير من التراث الرِّوائيِّ الشيعيِّ منقولٌ مدسوسٌ عن النصرانية واليهودية والمجوسية؟!!

والأعجب أن ترى بعضهم يطبِّلُ لهُ ويزمِّر!! ولكنَّ الطيور على أشكالها تقعُ.

 

الخاتمة

أرجو أن تكون هذه المقالة -على إيجازها- قد أثبتت أنَّ كعب الأحبار اليهودي -وإنْ كان قد أكثر من دسِّ إسرائيليَّاته في كتب المخالفين باعترافهم وإقرارهم- لم يكنْ بمقدوره الدسُّ في تراث الشيعة الرِّوائي، وذلك لافتضاح حاله ومقاله من جهة، وبسبب الأسس والضوابط التي وضعها أهل البيت (عليهم السلام) -وعمِل بها تلامذتهم- لكيفيَّة تحمُّل الحديث وشروط الأخذ به، وسُبُل تنقيته وتصفيته.

وأنَّ دعوى الدسِّ في تراثنا الرِّوائي على يد كعب الأحبار أقلُّ ما توصفُ به أنَّها جنايةٌ ظالمة، تُضاف إلى سجلِّ الظلامات التي وقعت على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.

عصمنا الله وإياكم من اتباع الهوى، ومجانبة سبيل الهدى، وجعلنا من المستمسكين بحبل الله المتين، كتابه والعترة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

انتهى المقال
 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) كمال الدين وتمام والنعمة 531.

([2]) المسترشد 177.

([3]) راجع تفصيل ترجمته (رضوانُ اللهِ عليه) في مقدمة كتاب: التعجُّب، تحقيق الشيخ فارس حسون (رحمه الله).

([4]) مجمع الزوائد للهيثمي: 8 / 86، وأفادَ في ذيله بأن الحديثَ صحَّحَهُ ابن حبَّان.

([5]) التعجُّب من أغلاط العامة ص153.

([6]) الحديقة الهلاليَّة ص50.

([7]) كالشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني في: منتهى المقال في أحوال الرجال ج5 ص255، والسيد علي البروجردي في: طرائف المقال ج2 ص105، والشيخ محمد تقي التستري في: قاموس الرجال ج12 ص143.

([8]) ولعلَّها زلَّةُ لسانٍ من كعب!! لأنَّ المراد من كتابهم كتاب اليهود، فإنْ كان قد أسلم كما يزعُمُ ويزعُمون فما معنى نسبة كتاب اليهود إليه بضمير جمع المتكلم؟!!

([9]) الأمالي للصدوق ص204.

([10]) كتاب الغَيبة للنعماني ص149.

([11]) مقتضب الأثر ص28.

([12]) الأمالي للمفيد 137.

([13]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص286.

([14]) الروضة في الفضائل ص215.

([15]) ومن تتبَّع روايات الكتب الأربعة فضلاً عن غيرها وجد فيها الكثير الكثير من تلك الرِّوايات التي تم عرضها على الأئمة (صلواتُ اللهِ عليهم).

([16]) اختيار معرفة الرجال للكشي ج2 ص490 ح401.

([17]) فهرست النجاشي ص231 رقم612.

([18]) اختيار معرفة الرجال ج2 ص818.

([19]) روى الدارمي في سننه ج1 ص126 بإسناده، عن عبد الله بن دينار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنْ اكتب إليَّ بما ثبتَ عندكَ من الحديث، عن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلَّم) وبحديث عُمَر، فإنِّي قد خشيتُ دَرسَ العلم وذهابَهُ.

وروى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ج1 ص76، بإسناده عن سعيد بن زياد، قال: سمعت ابن شهاب يحدِّثُ سعدَ بنَ إبراهيم: أمَرَنا عمرُ بنُ عبد العزيز بجمع السُّنَن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطانٌ دفترًا.

أقول: فأنت ترى أنَّ عمر بن عبد العزيز أغفل وجود أهم مصادر الحديث النبويِّ، وهو الإمامان المشهور لهما بالفضل والكمالات عند المخالف فضلاً عن المؤالف!!

ولجأَ إلى علماء البلاط الأموي، فبدأ بأبي بكر بن حزم، ثم من بعدُ سلَّم المهمة إلى ابن شهاب الزهري!! والفتى سرُّ أبيه.

([20]) تاريخ مدينة دمشق ج50 ص153.

([21]) مستدرك الوسائل للمحدِّث النوري الطبرسي ج1 ص28 مقدمة التحقيق.

([22]) تاريخ مدينة دمشق ج50 ص153.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس والعشرون